پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الاعتقاد فی القضاء والقدر

 

ذكر الصدوق‌‌(رحمهالله) فی هذا الباب روایات مهمّة وغزیرة جداً،([1]) یدرك مضامینها المتضلّعون فی المعرفة إلی حدّ مّا.

وهذه الروایات تشیر إلی غموض أمر القدر وعظمة أسرار الخلق ودقائقه، وعجز البشر عن أن یتوصّل إلی معرفة جمیع أسرار عالم الخلق والأفعال، بحیث یبسط العارفون السنّة التقدیس والتسبیح تلقائیاً خاضعین خاشعین لله وهم یصغون إلی هذا النشید الصوفیّ الرائع:

أنّى یحیط بكنه ذاتك عابد؟
أتحیط بالبحر الخضمّ فراشة

 

 

أم كیف یرقى للعُقاب ذباب؟
فیماط عن ربِّ الوجود حجاب([2])

 

فسبحان الّذی دانت له السماوات والأرض بالعبودیة.

 

والغرض أنّ هذه الروایات عند اُولئك الّذین ذاقوا من عین طعم معرفة الله وأسمائه الحسنى، فی منتهى العذوبة واللذّة والإنعاش.

أمّا الشیخ أبو عبد الله‏ المفید فقد أشار فی ما یتعلّق بمعنى القضاء إلی أربعة معان بل إلی خمسة معان وهی «الخلق» و«الأمر» و«الإعلام» و«القضاء فی الفصل بالحکم» و«الفراغ من الأمر» وقد استدلّ على هذه المعانی مستشهداً بالقرآن المجید،([3]) وإن کان الأنسب أن یستشهد فی الإستدلال على «الفراغ من الأمر» بقوله تعالى: ﴿فَإِذا قُضِیَتِ الصَّلَاةُ﴾.([4])

وواضح أنّ ‏المعنى المناسب من ‏هذه ‏المعانی الخمسة للقضاء الّذی یقترن ذكره بالقدر، هو: الأمر والحكم الّذی یشمل الحكم والقضاء التكوینی والحكم والقضاء التشریعی.

وما ورد النهی عن التکلّم فیه هو الکلام فی القدر، ولیس المراد منه أنّ الکلام والفحص عن كیفیة الأشیاء ممنوع ومنهیّ عنه، كما لو أردنا أن نعرف مثلاً ممَّ یتألّف الماء وكم هی نسبة عناصره بالمئة، أو نعرف مقدار الهواء والأشیاء الاُخری، فکلّ ذلك لیس منهیّاً عنه، وما هو بوادٍ مظلم

 

حتى یكون السلوك فیه خطراً، فاكتشاف علل الأشیاء الظاهریة والطبیعیة والکلام فیها وفی ما هو مبدأ العلوم المتعارفة، كالطبّ والكیمیاء والفیزیاء والهیئة وغیرها، کلّ ذلك غیر منهیّ عنه، بل التدبّر والتفكّر فیه ممّا رغّبت فیه الآیات وحضّت علیه الأحادیث كما یقول القرآن الكریم: ﴿وَفِی الْأَرْضِ آیَاتٌ لِلْمُوقِنِینَ‏  *  وَفِی‏ أَنْفُسِكُمْ أَ فَلَا تُبْصِرُون‏َ.([5])

كما أنّ البحث أو الفحص عن الحكمة من الأحكام الإلهیة وما فیها من مصلحة، وهو ما تتناوله أقلام المتکلّمین، کلّ ذلك لیس بحثاً عن القدر، إلّا أن یكون البحث فی سلسلة أحكام عبادیة بحتة، ومعرفة أسرارها وعللها لا تتمّ إلّا عن طریق الوحی والنبیّ الأكرم نفسه(ص) والأئمّة من بعده(ع) الّذین هم خلفاؤه، فبواسطتهم یمكن استكشافها ومعرفة كنهها، فلیس بیان حكمتها تعویلاً على الحدس والتخمین فیها مقنعاً، والقول بغیر علم فیها منهیّ عنه.

ولعلّ المقصود من القدر، الغامضة معرفتُه والمظلم مسلكه ووادیه، هو المعاییر والمقادیر والنظم الكائنة فی عالم الخلق ـ غیر النظم الظاهریة والأسباب والمسبّبات المعلومة ـ والاُمور الّتی لا یرقى إلیها إدراك

 

البشـر والبعیدة عن متناول العلوم البشـریة، وبعبارة اُخری: أسرار الخلق والإیجاد والنظم والأحوال الکلّیة، عامّة جاریة على العالم وسرّ قسمة الأرزاق.

والخلاصة: الاُمور الّتی یكون البحث فیها والفحص عنها، موجباً للشكّ والحیرة والتردّد وظهور فلسفة التحیّر (لست أدری)، وربّما یكون مدعاة للاعتراض وسوء الظنّ، وسالباً لحال الاطمئنان فی النفس وحسن ظنّ الإنسان بکلّ ما یجری فی العالم، ومزلزلاً لركونه وتسلیمه لأمر الله الّذی یكون فیه فی أحسن الحالات وأسعدها، أی: أنّ السلوك فی هذا الوادی والتفكیر فیه لا یعیق الإنسان من أن ینتهی إلی هدف فحسب بل یجعله مبتلًى بمرض سوء الظنّ والحیرة، وهو من أخطر الأمراض النفسیة، وربّما تسوق صاحبها إلی التفكیر فی انتحاره وتدمیر أحبابه.

والکلام الآخر ـ هنا ـ الّذی فیه مجال للاستدراك على الشیخ المفید‌‌(رحمهالله) أنّه قال: قال الشیخ أبو جعفر فی القضاء والقدر: والکلام فی القدر منهیّ عنه، وروى حدیثاً لم یذكر له إسناداً.([6])

فإذا کان مقصوده الحدیث عن أمیر المؤمنین(ع) فی جواب رجل سأله

 

عن القدر فأجابه: «بحر عمیق فلا تلجه»، فلم یكتف السائل بذلك وسأله ثانیةً فقال له: «طریق مظلم فلا تسلكه»، ثم سأله ثالثةً فقال له: «سرّ الله فلا تکلّفه»،([7])وهذا الحدیث هو الحدیث الثالث من الكتاب القیّم توحید الصدوق وقد رواه فی الباب (60) (باب القضاء والقدر والأرزاق والأسعار والآجال)، عن أبیه علیّ بن الحسین بن بابویه القمّی بسند ینتهی إلی أمیر المؤمنین(ع)، ولم یذكر سنده فی هذه الرسالة (الاعتقادات)؛ لأنّها مختصرة.

واستدراك المفید الآخر على الصـدوق قوله: عوّل أبـو جعفر فی هذا الباب على أحادیث شواذّ لـها وجوه یعـرفها العـلماء متى صحّت وثبـت إسنادها ولم یقل فیه قولاً محصّلاً.([8])

أوّلاً: لم یكن الصدوق فی صدد بیان معنى القضاء، وإنّما روى حدیثاً قیّماً عن زرارة أنّه سأل الصادق(ع) فقال له: یا سیّدی ما تقول فی القضاء والقدر؟ قال: أقول: «إنّ الله تعالى إذا جمع العباد یوم القیامة سألهم عمّا عهد إلیهم، ولم یسألهم عمّا قضى علیهم»،([9]) وروى نظیر هذا الحدیث

 

فی الباب المذكور من كتابه التوحید بسند ینتهی إلی ابن اُذینة.([10]) وروى حدیثاً آخر فی باب القضاء والقدر من كتابه المشار إلیه آنفاً بسندٍ ینتهی إلی الأصبغ بن نباتة.([11])

 ومع ذلك فإنّ الصدوق إذا لم یكن هنا قد بیّن معنى القضاء وربّما أعرض عنه لوضوحه، فإنّه ذكر للقضاء فی كتابه التوحید عشـر معانٍ، واستشهد لجمیع هذه المعانی بآیات القرآن الكریم،([12]) بینما لم یذكر المفید(قدس سره) هنا أكثر من أربعة معان للقضـاء، وإن کانت المعانی العشرة یمكن إرجاع بعضهـا إلی بعض، ونحن لسنا فی مقام البحث اللغوی عنها هنـا، وإنّما مقصودنا أن یعلم أنّ مثل هـذه المعانی لم تكن خافیة على الصدوق.

وثانیاً: على أیّ أساس ومعیار عدّت هذه الأخبار من الشواذّ، مع أنّ الصدوق نفسه روى فی كتابه التوحید فی باب القضاء والقدر ستّة وثلاثین حدیثاً؟!.([13])

وممّا رواه من الأحادیث فی هذا الباب حدیث آخر مهیب وقیّم جدّاً

 

وهو: «ألا إنّ القدر سرّ من سرّ الله، وستر من ستر الله، وحرز من حرز الله، مرفوع فی حجاب الله».([14])

وعلى کلّ حال فإنّنا فی هذا الباب نتزوّد من کلمات هذین العلمین ونجلس على خوان نعمةٍ ومائدة بسطها هذان العلمان وأمثالهما للاُمّة الإسلامیة عامّة وللعلماء والباحثین خاصّة، فشكر الله مساعیهم.

والأولى أن نتأدّب فی هذه الأبواب بأدب الروایات وأن نتجنّب عن الخوض فی القدر، والأولى من ذلك: أن نقیّد النهی المطلق فی هذه الروایات ونعتبره خاصّاً باُولئك الّذین یعدّ تکلّمهم فی القدر خلاف مصلحتهم ویعرضهم للضلال.

وعلى أیّ حال، نحن نظنّ أنّ إثارة مسألة قضاء الله وقدره والإیمان بها، من فوائدها أن لا یعدّ أحد أنّ ید الله لا دخل لها فی الأمر، ولا یغفل الناس عن التوکّل  على الله والاستمداد من حوله وقوّته، فی الوقت الّذی هم یتوسّلون بالأسباب الظاهریة، ولا یبسطوا ألسنة الاعتراض والشكّ بوجه الحوادث والمصائب المكدّرة أیضاً، وأن لا ینسوا الحقیقة المشار إلیها فی هذه الآیة الكریمة: ﴿عَسَى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَیْئاً وَهُوَ خَیْرٌ لَكُمْ وَعَسَى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَیْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّٰه یَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا

 

تَعْلَمُونَ﴾؛([15]) فیرضوا بقضاء الله الّذی هو (من الأركان الأربعة) وفقاً لتعبیر الإمام أمیر المؤمنین(ع)، والله هو العالم.

 

 

([1]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص34 ـ 35.

([2]) البیتان ترجمة لقول الشاعر:

هرگز نــرسد به كنه معبود كـسى                               چون فهـــم كند سرّ هما را مگسی

از روى مثل خداست دریاى محیط              و آن را نكند احاطه هر خار و خسى

([3]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص54 ـ 55.

([4]) الجمعة، 10.

([5]) الذاریات، 20 ـ 21.

([6]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص54.

([7]) الصدوق، التوحید، ص365.

([8]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص54.

([9]) الصدوق، الهدایة، ص19؛ المفید، الإرشاد، ج2، ص204.

([10]) الصدوق، التوحید، ص365؛ الصدوق، الهدایة، ص20.

([11]) الصدوق، التوحید، ص368.

([12]) الصدوق، التوحید، ص384 ـ 388، ح32.

([13]) الصدوق، التوحید، ص364 ـ 390.

([14]) الصدوق، التوحید، ص383، ح32.

([15]) البقرة، 216.

موضوع: 
نويسنده: