جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

اعتقاد الشیعة بالبداء
بمعناه الصحیح

 

المبحث الثانی: قد ظهر لك ممّا ذكرنا أنّ الخاصّة والعامّة تشتركان فی العقیدة بما أوجب توهّم القول بالبداء بمعناه الفاسد المردود عندهما، ولكنّ التعصّب والعناد حمل النصّاب وأعداء أهل البیت برمی الشیعة بهذا القول، وهم بفضل تمسّكهم بالكتاب والعترة (الثقلین) بریئون عن هذه العقیدة الفاسدة، وبعیدون من هذا الضلال المبین من السماء إلی الأرض. نعم حكی عن غیر الشیعة مثل النظّام وبعض المعتزلة: القول بأنّ الله‏ تعالى قد فرغ من الأمر بخلقه الموجودات دفعةً واحدةً على ما هی علیه الآن معادن ونباتاً وحیواناً وإنساناً ولم یتقدّم خلق آدم على خلق أولاده والتقدّم إنّما یقع فی ظهورها لا فی حدوثها ووجودها،  وأخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة، ومثل هذه العقیدة ما ذهب إلیه بعض الفلاسفة، القائلین بالعقول والنفوس الفلكیة، وبأنّ الله‏ تعالى لم یؤثّر حقیقةً إلّا فی العقل الأوّل،([1]) فهم

 

یعزّلونه تعالى عن ملكه؛ حكی عن بعضهم: أنّ الله‏ تعالى أوجد جمیع مخلوقاته دفعةً واحدةً دهریة لا ترتّب فیها باعتبار الصدور بل إنّما ترتّبها فی الزمان فقط، كما أنّه لا تترتّب الأجسام المجتمعة زماناً وإنّما ترتّبها فی المكان فقط.([2])

مثل هذا القول، قول المجبّرة فی «المقتول لو لم یقتل» فقالت: إنّه کان یموت قطعاً، ومن یستنكر القول بالبداء ولا یؤمن بما دلّت علیه ما تلونا علیك من الآیات والروایات نسأل عن رأیه فی قدرته تعالى: لله‏ جلّ شأنه أن یفعل ما یشاء، ویؤخّر ما یشاء، ویخلق ما یشاء، ویفعل ما یشاء، ویشفی ویعطی من یشاء، ویستجیب دعاء من یشاء، ویعزّ من یشاء، ویذلّ من یشاء؟ فإن قال: نعم، فهذا ما یقوله الشیعة وهو ما یسمّونه بالبداء، وإن قال: لا، فقد أنكر قدرة الله‏ تعالى وأنكر الكتاب والسنّة ووافق الیهود فی قولهم: ﴿یَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾؛([3]) فمن ذهب إلی إنکار البداء یتّبع الیهود وغیرهم فی هذه المقالة الكافرة، ونفى قدرة الله‏ تعالى المطلقة، ونفى سائر صفاته الكمالیة وأسماءه الحسنى، تعالى الله‏ عن ذلك علوّاً كبیراً.

 

فإن قلت: فلماذا سمّی تلك العقیدة الصحیحة بالبداء الّذی هو بمعنى ظهور الشیء بعد الخفاء؟

قلت: أوّلاً نمنع هذا الظهور، وثانیاً نقول: إنّ ظهوره بدویّ یزول بالقرائن العقلیة والمقالیة، ولیس بأقوى من ظهور الآیات والروایات فی ذلك لولا تلك القرائن، فكما لا دلالة لهذه الآیات على علمه بشیء بعد الجهل به بدلالة آیات اُخرى والقرینة العقلیة، لا دلالة لهذا اللفظ أیضاً على ذلك أصلاً بدلالة الآیات والروایات وما استقرّ علیه عقیدة القائلین بالبداء سیّما أئمّة أهل البیت^.

ولا یخفى أنّ باب المجاز فی جمیع اللغات ـ سیّما اللغة العربیة ـ باب واسع، وفی الكتاب والسنّة ما لا یحصـى، والمتّبع فی الدلالات الکلامیة وغیرها هو الذوق السلیم والرأی المستقیم، وإنّما دخل بعض الآراء الفاسدة ـ مثل القول بالتجسیم وأنّ له تعالى یَدٌ وجَنبٌ ورِجلٌ وغیرها من الأعضاء لما جاء فی الكتاب والسنّة مجازاً وتعبیراً عن إحاطة قدرته وعلمه وغیرهما من صفاته الكمالیة ـ لاعوجاج فهم البعض والحرمان عن صفاء الذهن ونورانیة الضمیر، فتمسّكوا فی عقائدهم الفاسدة إلی الألفاظ المجازیة الموهمة عند صاحب الذهن السقیم لآرائهم، فنعوذ بالله من الحرمان والخذلان ونسأله التوفیق والإیمان.

 

 

 

 

([1]) اُنظر: المجلسی، بحار الأنوار، ج4، ص130؛ المجلسی، مرآة العقول، ج1، ص131.

([2]) المجلسی، مرآة العقول، ج2، ص 131 ـ 132.

([3]) المائدة، 64.

موضوع: 
نويسنده: