چهارشنبه: 5/ارد/1403 (الأربعاء: 15/شوال/1445)

الأمر الثالث
أحكام المعاملات

 

قال: «أمّا المعاملات وترتیبها وأحكامها فهی حقّ للعباد، ومن أجل مصالحهم فی دنیاهم، فمن حقّهم أنّ یحدّدوا أین تكون مصالحهم إذا لم یأت من الشرع الحكیم نصّ قرآنی یحدّدها، كما جاء مثلاً فی المواریث لما یعلمه سبحانه من تدخّل العواطف فیها فحسم الرأی، وقد أشار الرسول| إلی هذا فی حدیثه المشهور بعدما حدث فی تلقیح النخل: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ مِنْ اُمور دِیِنكُمْ فُخُذُوا منْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا کان مِنْ أَمْرِ دُنْیَاكُمْ فإِلَیْكُمْ، أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دنْیَاكُمْ».([1]) وکان هذا الحدیث هو الأصل فی إمكان تغییر بعض الأحكام ‏الخاصّة بالمعاملات حسب تغییر عللها وظروفها والمصلحة للناس فیها، على أن یكون التغییر على أساس

 

القواعد العامّة الشـرعیة مثل: لا ضرر ولا ضرار، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح...» إلی آخر ما قال.

أقول: أوّلاً: إذن لا کلام فی أنّه إذا لم یأت من الشارع الحكیم نصّ قرآنی ولا نبویّ ـ وإن لم یذكره واقتصـر على القرآنی منه ـ فی مورد ولم تشمله النصوص العامّة بعمومها أو إطلاقها، فمباح بحكم الشـرع أیضاً للمکلّفین فعله وتركه، وهذا ـ أی حكم ‏الشـرع بالإباحة فیما لا نصّ فیه ـ حكم ثابت لا یقبل التغییر، فلیس لأحد تحریم تركه أو إیجاب فعله.

وثانیاً: لا یوافق هذا الخبر وما هو بمضمونه لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾؛([2]) وقوله تعالى: ﴿وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى  * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَى﴾؛([3]) وقوله عزَّ مِن قائل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِی رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ یَرْجُو اللّٰهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ﴾.([4]) لأنّ مفاد الخبر على ما بنیتم علیه أنّ الاُمّة أعلم من الرسول| بشؤون دنیاهم، ولذا یجوز لهم مخالفة أوامره المربوطة باُمور الدنیا من المعاملات

 

وغیرها ممّا لم یَرِد فیه النصّ القرآنی، وعلیه: فلا یجب اتّباع شیء من أوامر النبیّ ونواهیه المربوطة بالسیاسات والمعاملات وغیرها من الأنظمة المقرَّرة الثابتة بلسانه أو بسیرته فی الأحوال الشخصیة والاجتماعیة والمالیة وغیرها، فیكون النبیّ| كسائر الناس فی أقواله وأفعاله وسیرته، فلا وجوب لاتّباعه ولا حسن للتأسّی به! وهذا أمر لا أظنّ أحداً من المسلمین فضلاً عن علمائهم وفقهائهم الراسخین فی العلوم الإسلامیة یلتزم به.

وما نفهمه نحن من الخبر ـ بعد الغضّ عن اضطراب متنه ومخالفته لما ثبت بالكتاب والسنّة ـ أنّ المراد منه أنّه لیس من شأن الرسول| بمقتضى رسالته ولا زعامته وقیادته السیاسیة وإدارته اُمور الناس، أن یتدخّل فی شؤونهم الفردیة الّتی یعمل کلّ أحد فیها ما یرید ویختار وتختلف فیه الأنظار، فهذا یرى هذه المهنة وافیة لمعاشه والآخر یرى غیرها كذلك، وهذا یرى سقی الزرع فی المواعید المعیّنة وذاك یراه فی غیرها، وهذا یرى تلقیح النخل مفیداً والآخر یرى أن یبقیها على حالها، هذا یرى أنّ یبیع مثلاً سكناه للاتّجار بثمنه، والآخر یرى غیر ذلك، وهذا الطبیب یرى علاج المرض الخاصّ بكیفیة خاصّة وغیره یرى غیرها. فالدین والشرع وحتى القوانین الّتی تنشأ من قِبَل البرلمانات

 

والمراكز الّتی لها صلاحیة وضع القانون أو الدستور فی الأنظمة العلمانیة لا تتدخّل فی أمثال هذه الاُمور، بل کلّ واحد من الناس حرّ مختار فیها.

وفی تلقیح النخل أیضاً الأمر هكذا، فکلّ قوم وکلّ شخص یعمل على طبق ما یرى فیه صلاح نفسه ولا یتدخّل فیه الشـرع ولا القانون الوضعی، نعم ربّما تقتضی الضرورة كحفظ النظام وإدارة المجتمع وأمن الأموال والنفوس المحترمة أن یحجز الحاكم الناس عن بعض حرّیّاتهم فی زمان أو مكانٍ مّا، ولكن مع أنّ وجوب إطاعة الحاكم من الأحكام الشرعیة؛ فإنّ حكمه هذا لیس حكماً شرعیاً مثل: أحكام العبادات والمعاملات والسیاسات والحقوق والأحوال الشخصیة وغیرها، ولا بحث لنا فیه.

وثالثاً: إن کان المراد من الخبر الّذی استشهد به أنّ النبیّ| لا یأمرهم فی اُمور دنیاهم بأمر وحكم، فالاستدلال به لإثبات جواز التغییر فی أحكام المعاملات والاُمور الدنیویة ضربٌ من التهافت والتناقض. وإن کان المراد منه أنّهم أعلم بشؤون دنیاهم من النبیّ| ویحقّ لهم أن ینظروا فی اُمور دنیاهم ونظام اُمورهم الدنیویة، فشأن النبیّ| الّذی أدّبه الله‏ تعالى وأحسن تأدیبه أجلُّ وأنبل وأعلى من التدخّل فیما لا حقّ فیه، بل هو حقّ للعباد وهم أبصـر منه به، فهو یجتنب لا محالة عن هذا

 

اللغو، وقد قال الله‏ تعالى فی حقّه: ﴿ومَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾،([5]) وهوصاحب الخلق العظیم وأسمى مراتب الأدب ومكارم الأخلاق.

هذا مضافاً إلی أنّ الخبر إن کان یدلّ على أنّ أمر دنیا الناس مفوّض إلیهم، فلا اعتبار بأوامره ونواهیه فیه، وعلیه: فتخرج أكثر الأحكام الشـرعیة الراجعة إلى اُمور الناس ومعایشهم وسیاسة المدن والإدارة الثابتة بسنّة الرسول| وأوامره ونواهیه من دائرة الدین، ونبقى نحن وأحكام العبادات وقلیل من غیرها من الأحكام المنصوصة فی القرآن!

هذا إذا لم یأت من المتنوّرین العصریّین من یقول فیها أیضاً شبه ما قال عبد المنعم النمر فی الأوامر النبویة والأحكام الثابتة بالسنّة، وعلیه: یلزم على الفقهاء حذف أكثر أبواب الفقه الإسلامی الّتی هی من أعظم براهین صدق هذه النبوّة الخاتمة وكمالها.

ورابعاً: إذا کانوا هم أعلم باُمور دنیاهم من رسول ربّ ‏العالمین| فهم أعلم من الفقهاء بالطریق الأولى، فما معنى موقف الفقهاء فی الاجتهاد فی هذه الاُمور والنظر فی السنّة بعدما کان الناس أولى وأحقّ بدنیاهم وأعلم حسب الفرض من الرسول|!

بل إذا کان موقف الناس هكذا قِبال أوامر النبیّ| ونواهیه حتّى فی

 

حیاته وكان یجوز لهم ترك العمل بأوامره، وکان الأصل والمعتبر ما یرون هم بأنفسهم فی اُمورهم حسبما تقتضیه المصالح والظروف، فما قیمة اجتهاد الفقهاء فی اُمور الناس الدنیویة؟

وخامساً: أنّ مغزى هذا الرأی أنّه لا اعتناء بسیرة النبیّ| وسنّته فی الأنظمة الدنیویة، بل الناس هم وما رأوا فیها من مصالحهم ومنافعهم، وإذن فلیس فیها تشریع ولا یوجد حكم شرعی، فما معنى تغیّر الحكم؟

وسادساً: إذا اشترطتم أن یكون التغییر على أساس القواعد العامّة الشـرعیة فلیس معنـى «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤونِ دُنْیَاكُمْ» إلّا الكرّ على ما فرَّ، وقد ذكر أنّ مراده من هذه القواعد العامّة، مثل لا ضرر ولا ضرار، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، فإن أراد من القاعدة الثابتة ـ كما لابدّ أن یكون ـ أنّ درء المفاسد الّتی نهى عنها الشرع مقدّم على جلب المصالح الّتی أمر بها، فذلك، وإن لم یكن قاعدة کلّیة عامّة؛ لأنّ مفسدة ارتكاب بعض المحرّمات ربّما لا تكون أهمّ من مفسدة ترك بعض الواجبات ومصلحة فعلها، بل تكون هذه أهمّ من الأُولى، ولكنّ القائل بها لا یرید بها إلّا القاعدة الشرعیة الّتی هی كالشارح والمفسّـر لأدلّة سائر الأحكام ومعها لا تغییر أیضاً فی الحكم؛ لأنّ المعیار فی المصلحة هو المصالح الّتی أمر الشارع بحفظها والمفاسد الّتی نصّ الشارع على وجوب درئها.

 

وسابعاً: إن اُرید من تغییر الأحكام تغییرها بظروفها وعللها والمصلحة للناس حسب ما أمره الشارع، مثل ‏أکل المیتة الّذی یباح عند الاضطرار، أو ارتكاب أیّ محذور آخر أخفّ إذا دار الأمر بین المحذورین، والأهمّ والمهمّ، أو ترك واجب لدفع الضرر، أو نحو ذلك، فهذا لیس من تغییر الحكم ـ كما أشرنا إلیه ـ بشیء، بل هو انتفاء حكم خاصّ بانتفاء موضوعه، ووجود حكم آخر بوجود موضوعه، فأکل المیتة لغیر المضطرّ حرام شرعاً، وللمضطرّ حلال شرعاً، وکلّ منهما حكم شرعی لموضوعه المختصّ به ثابت لا یقبل التغییر.

والوضوء واجب إذا لم یكن فیه ضرر على صحّة جسم المتوضّی، وهو حرام وبدعة إذا کان فیه خطر على صحّته.

أمّا فی دوران الأمر بین الأهمّ والمهمّ، أو المهمّین المتساویین عند الشرع، فحیث إنّ المکلّف لا یتمكّن من امتثال الوجوبین لابدّ له عقلاً فی الصورة الاُولى من حفظ الأهمّ، وفی الصورة الثانیة هو بالخیار فی الإتیان بأیّهما شاء.

ففی کلّ هذه الصور لا تغییر فی الحكم الشرعی.

ولا یخفى علیك أنّ ذلك یجری فی الأحكام الجزئیة لا الأحكام الکلّیة، فلا تجد حكماً کلّیاً مزاحماً بکلّیته لحكم کلّی آخر.

 

وكذا قاعدة إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح لیس معناها ـ كما مرّ الإشارة إلیه ـ تغییر الحكم الشـرعی، بل المراد أنّ الحكمین الشـرعیین اللذین أحدهما شرّع لدفع مفسدة، والآخر لجلب مصلحة، کأن یكون أحدهما حكماً تحریمیّاً توجب مخالفته الوقوع فی المفسدة، والآخر وجوبیّاً توجب مخالفته تفویت المصلحة، ولا یمكن للمکلّف الجمع بین امتثال کلا الحكمین، فیأتی بالّذی یدرء المفسدة أو یترك ما فیه المفسدة دون الّذی یجلب المصلحة، وعلیك إن أردت المزید بملاحظة باب تزاحم الأحكام فی الكتب الاُصولیة.

 

 

 

([1]) اُنظر: ابن حزم الأندلسـی، الاحکام، ج6 ص776؛ الهیثمی، مجمع الزوائد، ج1 ص179.

([2]) الحشر، 7.

([3]) النجم، 3 ـ 4.

([4]) الأحزاب، 21.

([5]) النجم، 3.

موضوع: 
نويسنده: