سه شنبه: 29/اسف/1402 (الثلاثاء: 9/رمضان/1445)

الأمر الرابع
هل أنّ أحكام المعاملات إلهیة،
أو اجتهادات من الرسول
| ؟

 

صرّح فی مقاله بأنّ أحكام المعاملات الّتی عبّر عنها بالاُمور الجزئیة لم تكن على أساس الوحی، بل کانت باجتهاد منه|! وإلیك نصّ ما قال: «جاء الرسول| إلی المدینة فوجدهم یتبایعون فی الثمار قبل نضجها وبُدُوِّ صلاحها دون تضرّر ونزاع فأباحها لهم فی ظلّ الإسلام، ثم بدأ المتعاملون بها یتنازعون وتكثر شكواهم لثمرة أصابها مرض... وجاؤوا للرسول| یتحاكمون إلیه، فغیّر رأیه الأوّل بناء على هذا، وقال لهم: «أمّا وقد تنازعتم فلا تبیعوا الثمر قبل ظهور صلاحه ونضجه»،([1]) ومنع بذلك بیع الثمر قبل ظهور صلاحه، حتى لا یتعلّل المشتری بما طرأ علیه

 

من تلف لیرجع فی الصفقة أو ینقص له البائع من ثمنها الّذی تبایعا علیه... ومعنى ذلك بوضوح: أنّ أحكام الرسول| فی مثل هذه الاُمور الجزئیة لم تكن على أساس وحی من الله‏ نزل علیه خاصّ بهذه الجزئیة، بل کانت باجتهاد منه وتقدیر للمصلحة على ضوء الظروف الّتی أمامه...» إلی آخره.

أقول: أوّلاً: لماذا لا یكون مثل هذا من النسخ؟ وأنّ الحكم الأوّل قد نسخ بالثانی، ونسخ الحكم لا مانع من وقوعه إذا وقع فی عصـر الرسالة، وإلّا فهل یقول أحد بجواز العمل بالحكم الأوّل إذا اقتضـى اجتهاد المجتهد ذلك، ولا یراه من الاجتهاد فی مقابل النصّ؟

وثانیاً: لقائل أن یقول: ما کان علیه أهل المدینة من التبایع فی الثمار قبل نضجها وبُدُوِّ صلاحها لم یكن من الأحكام الشـرعیة الموحى بها إلی النبیّ|، بل کان المجتمع فی هذه القوانین والعادات الّتی کانوا ملتزمین بها قبل بزوغ شمس النبوّة الخاتمة باقین على حالهم، والأحكام إنّما نزلت على الرسول| تدریجاً وفی المناسبات، فالحكم الشـرعی الإلهی الّذی لا یتغیّر هو عدم جواز بیع الثمار قبل بدوّ صلاحها على التفاصیل المذكورة فی الفقه، لا أنّ الرسول| عدل عن رأیه الأوّل وظهر له خطؤه، وأنّ الحكم الثانی کان من رأیه أیضاً وهو قابل للتغییر.

 

فالصحیح أنّ الحكم الثانی ثابت أبداً لا یتغیّر، صارت الظروف ما صارت وتغیّرت الأحوال ما تغیّرت، والنصّ النبویّ كالنصّ القرآنی لا فرق فی ذلك بین المعاملات والعبادات فکلّها مصونة عن التغییر.

نعم الأحكام السلطانیة الّتی تصدر تحقیقاً لتنفیذ الأحكام الشـرعیة، وحفظ النظام، وإقامة العدل، وإیصال حقّ کلّ ذی حقّ إلیه، والدفاع عن حوزة الإسلام، ربّما تحدّد حرّیّات الأفراد فی أموالهم وأنفسهم فی مقدار من الزمان، وما دامت الضرورة الموجبة للتحدید المذكور باقیة، فللحاكم مثلاً أن یحكم على مالك الغلّات بعرض غلّته للبیع عند احتیاج الناس إلیها دفعاً للحرج عن العامّة، وحفظاً للنفوس المحترمة.

والفرق بین حكم الحاكم وحكم الشارع أنّ الأوّل غیریّ موقّت، شرّع جوازه من الشارع حفظاً لنظام الدین ومصالح المسلمین، والثانی حكم ثابت نفسی، نسبته إلی الأحكام الحكومیة كنسبة الأصل إلی الفرع والهدف إلی الوسیلة، والأوّل لا یستند بنفسه إلی الله‏ تعالى بل إلی الحاكم نبیّاً کان أم غیره، نعم جواز حكمه وجواز حكومته ووجوب إطاعته من الأحكام الشرعیة الثابتة الّتی لا تقبل التغییر.

ولكن مع ذلك فإنّ للأحكام الحكومیة الصادرة عن النبیّ| قداسة لیست لغیرها، فلا یجوز تغییرها؛ لأنّ النبیّ| لا یحكم إلّا بوحی من

 

الله‏ تعالى على ما نصّ به القرآن الكریم: ﴿وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَى﴾؛([2]) وأكّد لزوم التأسّی به فی قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِی رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ  لِمَنْ كَانَ یَرْجُو اللّٰهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ﴾؛([3]) فالنبیّ| فی صیانة الله‏ وحفظه عن الخطأ فی أحكامه وجمیع أفعاله وأقواله، سواء کان فی الشرعیّات أو الإخبار بالملاحم وحالات الاُمم الآتیة والماضیة، وأحوال الملائكة، وكیفیات عالم الغیب مثل الجنّة والنار، أو بیان المعارف والأخلاقیات، أو الأحكام الحكومیة.

لكنّ القوم حیث رأوا أنّ بعض الصحابة قد تجرّأ على التصـرّف فی الأحكام الإلهیة والردّ على النبیّ الأعظم| فأنكر علیه صلح الحدیبیة،([4]) ولم یقبل منه تشریع متعة الحجّ وحرَّمها، وحرّم متعة النساء بعد ارتحال الرسول| إلى الرفیق الأعلى،([5]) ومنع رسول الله| من كتابة وصیّته، وقال کلمته الخبیثة الّتی لا  ننقلها تأدّباً وحذراً من التعدّی

 

على ساحة صاحب الخلق العظیم، الرسـول الرؤوف الرحیم، صلوات الله‏ علیه وعلى آله، وغیر ذلك ممّا فعل أو قال هو أو غیره ـ لمّا رأوا ذلك ـ استهانوا بمخالفة النصوص الشـرعیة، والسنّة النبویّة، ونسبوا الرسول الأعظم|  إلی الاشتباه والخطأ! ولا حول ولا قوّة إلّا بالله‏ العلیّ العظیم.

ثم إنّ الأمثلة الّتی ذكرها لإثبات مرامه کلّها قابلة للمناقشة لا یثبت بها مدّعاه.

فالمنع عن التقاط ضالّة الإبل، وإجازة التقاطها أیضاً، لیس من قبیل تغییر الحكم، بل یمكن الجمع بینهما بأنّ مورد المنع عن الالتقاط غیر مورد الجواز، فإذا لم یخش على الإبل التلف لامتناعها على السباع واستمرارها بالرعی، لا  تتعرّض لها ولا تلتقط؛ لأنّ العادة جرت بطلب مالكها لها حیث فقدها، أمّا إذا كانت فاقدة الأمرین فیجوز التقاطها، وفی الصورتین راعى الشارع الأقدس مصلحة المال والمالك، والحكمان حكمان ثابتان لا یقبلان التغییر إلی یوم القیامة.

وروی عن الإمام أبی عبد الله‏ جعفر بن محمّد الصادق÷ أنّ أمیر المؤمنین× قضى فی رجل ترك دابّته من جهد، قال: «إِنْ تَرَكَهَا فِی كَلَإٍ وَمَاءٍ وَأَمْنٍ فَهِیَ لَهُ یَأْخُذُهَا حَیْثُ أَصَابَهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فِی خَوْفٍ وَعَلَى غَیْرِ مَاءٍ وَلَا كَلَإٍ فَهِیَ لِـمَنْ أَصَابَهَا».

 

وفی خبر مسمع عنه×: «إنّ أمیر المؤمنین× کان یقول فی الدابّة إذا سرحها أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها فهی للّذی أحیاها».([6]) قال: «وقضـى أمیر المؤمنین× فی رجل ترك دابّته فی مَضْیَعَة فقال: «إن کان تركها فی كَلَإٍ وماء وأمن فهی له، یأخذها متى شاء، وإن تركها فی غیر كَلَإٍ وماء فهی للّذی أحیاها».([7])

وأمّا امتناع الرسول| عن التسعیر فلا یستفاد منه الإطلاق، وأنّه کان ممتنعاً عنه ولو عُرض مثل الحنطة وأشباهها، ممّا تتقوّم به الحیاة والمعاش بسعر لا یستطیع أكثر الناس شراءه، ویقعون بذلك فی الحرج والمشقّة الشدیدة والمجاعة.

هذا مضافاً إلی أنّ أكثر الموارد الّتی استشهد بها هذا الكاتب وغیره على اجتهاد الرسول| وكون حكمه حكماً موسمیاً ورأیاً رآه، دون أن یكون مستمدّاً من الوحی، هی موارد دار الأمر فیها بین ارتكاب أحد المحذورین الشـرعیّین والمتزاحمین، فرجّح| ارتكاب المحذور الأخفّ، فی ضوء إرشادات الشارع وتعالیمه.

والحاصل: أنّ هذه الاُمور لا تعدّ من التغییر به، وهكذا عمل القاضی

 

شریح، مضافاً إلی أنّه لیس بحجّة، فقد بقی قاضیاً إلی عصـر غلبة بنی اُمیّة، العصـر الّذی سلب فیه الناس حرّیّاتهم الإسلامیة، ولم یكن لأحدٍ حقّ النصیحة لعمّال الحكومة وقضاتها، والأمر بالمعروف والنهی عن المنكر إلّا بتعریض ماله ونفسه وخاصّته للنهب، وأنواع التعذیب والقتل، مضافاً إلی ذلك؛ فإنّه یمكن حمل عمل شریح على هذه المحامل إن کان هو ممّن یفهم هذه الاُمور، فمثلاً قوله|: «البیّنة على المدّعی والیمین على من أنكر»،([8]) وقاعدة حجّیة البیّنة، لا ریب أنّها قاعدة شرعیة وطریق لإثبات الدعاوی وفصل الخصومات، إلّا أنّها كذلك إذا كانت بحسب النوع تفید الظنّ ویعتمد علیها العرف، أمّا إذا تغیّر حال الناس وآل الأمر إلی ما آل من ظهور بنی اُمیّة وأعوانهم وأتباعهم على الاُمور، ورأى القاضی المسكین أنّ أعوان القاضی والشهود الّذین یشهدون على دماء الناس وأموالهم یتقرّبون إلی أرباب السیاسة والحكومة بالشهادة على المخالفین والثائرین علیهم، ویشهدون كذباً وزوراً على محبّی أهل بیت النبوًة وشیعة الحقّ، فلابدّ له أن یعتذر بعدم اعتماده على البیّنة، وأنّه باجتهاده استنبط من دلیل اعتبار البیّنة أنّ مناط حجّیتها حصول الاطمئنان بها للنوع غالباً واعتماد العرف علیها؛ فإذا انتفـت تلك

 

الخصوصیة تنتفی حجّیّتها لا محالة، ولا ریب أنّه لم یمكن له فی مثل ذلك العصر ردّ الشاهد ضدّ أهل البیت^ وشیعتهم بسبب فسقه العملی والقولی.

على کلّ، لا ریب فی أنّ اختلاف آراء القضاة أو القاضی الواحد فی القضایا المتشابهة، كاختلاف أهل الفتیا فی فتاویهم، أو المفتی الواحد فی فتواه فی موضوع واحد لا ربط له بتغییر الحكم الشرعی، بل الواقع أنّه هو یجتهد ولا یرى مثلاً لدلیل حجّیة البیّنة أو الحلف أو غیرهما إطلاقاً یشمل بعض القضایا، وإلّا فلا یجوز لأیّ قاضٍ كائناً من کان مع الاعتراف بشمول إطلاق النصّ وعمومه الامتناع عن القضاء، أو القضاء على خلاف النصّ.

 

 

 

([1]) أحمد بن حنبل، مسند، ج2، ص80؛ ج5، ص185؛ البخاری، صحیح، ج2، ص134؛ ج3، ص31؛ مسلم النیسابوری، صحیح، ج5، ص11ـ 13؛ ابن ماجة القزوینی، سنن، ج2، ص746 ـ 747؛ ابن حزم الأندلسی، المحلّی، ج8، ص387.

([2]) النجم، 3 ـ 4.

([3]) الأحزاب، 21.

([4]) القمّی، تفسیر، ج2، 311 ـ 312؛ المفید، الإرشاد، ج1، ص153.

([5]) أحمد بن حنبل، مسند، ج3، ص325؛ البیهقی، السنن الکبری، ج7، ص206؛ ابن عبد البرّ، الاستذکار، ج4، ص95.

([6]) الکلینی، الکافی، ج5، ص141؛ الطوسی، تهذیب الأحکام، ج6، ص393.

([7]) الکلینی، الکافی، ج5، ص141؛ النجفی، جواهر الکلام، ج38، ص220.

([8]) اُنظر: الکلینی، الكافی، ج7 ص415؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص293.

موضوع: 
نويسنده: