سه شنبه: 29/اسف/1402 (الثلاثاء: 9/رمضان/1445)

الأمر الحادی عشر
بعض الأمثلة فی الفتاوى والأحكام الإلهیّة

 

فی الأمثلة الّتی مثّل بها الكاتب خلط أیضاً بین الأحكام الإلهیة وفتاوى الفقهاء الّتی لیست مصونة من التغییر ولیس ذلك بسبب أنّ الحكم الّذی أفتى به المفتی یتغیّر فتتغیّر الفتوى بتغیّره؛ فإنّ المفتی إذا أفتى بحسب ما أدّى نظره إلیه یرى مؤدّى نظره حكماً شرعیاً لا یقبل التغییر، وعندما یرجع عنه لا یرجع بسبب تغیّر الحكم الشـرعی الّذی استنبطه، بل لأنّه لیس مصوناً من عدم إصابة حكم الله‏ تعالى، فربّما مخطئ فی فتواه ثم یظهر له خطؤه فیرجع عن فتواه، ورجوع المجتهدین عن رأیه إلی رأی جدید لیس بعزیز.

فلا یقاس الحكم الشرعی الثابت المصون عن التغییر بفتوى المجتهد الّذی لیس مصوناً من الاشتباه والخطأ.

وبعض الأمثلة الّتی ذكرها الكاتب لیس من تغییر الفتوى أیضاً بشیء، بل هی أشبه بالاجتهاد فی مقابل النصّ وردّ النصّ بالتأویل:

 

قال فی مسألة كون المرأة ناخبة أو نائبة: «فقد صدرت مثلاً فتوى فی النصف الأوّل من هذا القرن بعدم السماح للمرأة أن تكون ناخبة أو نائبة، وتجاوز الزمن هذه الفتوى كما تجاوزتها الفتوى البصیرة من العلماء الآن إذ لم یقرّوا الدلیل الّذی استند علیه المانعون، ونظروا إلیه من وجهة نظر اُخری، فوق أنّ المرأة تعلّمت وقطعت أشواطاً فی العلم كالرجل، وكذلك فی الوظائف، وبرز الكثیر فی عملهنّ وتخصّصهنّ فلم یعدّ من المستساغ باسم الدین منعهنّ من إبداء الرأی فی الانتخابات أو المجالس التشریعیة أو الأعمال الإداریة بینما نعطیه الرجل الاُمّی، على أنّ لکلّ بلد وضعاً یراعیه المفتون فی فتاواهم قد لا یوجد فی بلد آخر...» إلى آخره.

ونحن لا نرید الکلام والبحث فی المسألة هنا لإبداء رأینا الفقهی، ولكن حیث ندرك خطر المسار الخارج على الأحكام الشـرعیة الّذی یسیّره مثل هذا الكاتب، لا نخفی أسفنا الشدید على هذه المواجهة الهدّامة مع نصوص من الكتاب والسنّة وإجماع الأئمّة والاُمّة! فكأنّه یرى أنّ لکلّ أحد أن ینظر إلى‏ النصوص والأدلّة بأیّ وجهة شاء، ولو انتهت وجهته إلی ترك النصوص، فلا معیار ولا میزان للنظر فی النصوص والاستنباط منها!

وكأنّه ظنّ أنّ الشارع الحكیم العالم بالمغیّبات الّذی أرسل رسوله

 

الخاتم بالدین الّذی ختم به الأدیان، وشرائع الأحكام الّتی ختم بها الشـرائع، لم یكن عالماً بأنّ المرأة سوف تقطع أشواطاً فی العلم.

وكأنّه زعم أنّ ما جاء فی الكتاب والسنّة من الأحكام المختصّة بالنساء أو الرجال مختصّ بعصر الرسول| وعصور لم تتقدّم فیها المرأة التقدّم الّذی وصفه! فقوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ،([1]) وقول نبیّه|: «لَنْ یُفْلِحَ أَمْرُ قَوْمٍ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَی امْرَأَةٍ»، وغیرهما من النصوص ساقطة ـ والعیاذ بالله‏ ـ عن الاعتماد والاستناد إلیها!

أولم یكن فی عصر الرسالة من النساء من کانت أبصـر وأحذق فی الاُمور من كثیر من الرجال؟ ألم تتولَّ فی إیران السلطنة والملك امرأة من بنی ساسان، فقال رسول الله| فیها: «لَنْ یُفْلِحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَی امْرَأَةٍ».([2])

هذا مضافاً إلی أنّ الرجال کانوا إلّا القلیل منهم كالنساء فی الاُمّیّة، فلو كانت علّة بعض الفروق الشرعیة بین المرأة والرجل اُمّیّة النساء کان اللازم جعل ذلك اللاُمّیّین وغیرهم رجالاً ونساءاً.

 

فاتّضح بذلك أنّ حكمة الفرق فی بعض ‏الأحكام بین الرجال والنساء لیست ما زعمه الكاتب من اُمّیّة النساء فی عصـر الرسالة وتأخّرهنّ عن الرجال فی بعض الكفاءات.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا یجوز للمؤمن بالدین الحنیف وخاتمیته وبقاء أحكامه إلی آخر الدهر، مواجهة النصوص، وردّها بهذه المحامل الفاسدة الّتی لو فتح بابها لا یبقى نصّ ولا حكم فی مأمن منها، بل تكون کلّ الأحكام والقوانین المالیة والسیاسیة والاجتماعیة والشخصیة معرضاً للتغییر والتبدیل المستمرّ.

فیمكن أن یقال مثلاً: إنّ الطلاق إنّما جعل بید الرجل دون المرأة حینما كانت المرأة تعیش عیشة الاُمّیّة، ولا تعرف شیئاً عن حقوقها الإنسانیة إلّا أن تكون خادمة للزوج والبیت حاضنةً للطفل، وأمّا فی عصـر تتنافس النساء مع الرجال فی العلوم والفنون، وظهور المرأة أكثر حذقة من الرجال فی تدبیر المجتمع والدولة، فكیف نسمح أن یكون أمر الطلاق بید الرجل یطلّق امرأته فی أیّ زمان شاء، ولا یكون للمرأة ذلك؟!

وهكذا یقال: ـ لا غفر الله‏ لقائله ـ فی العدّة وغیرها حتى تكون النتیجة، أن یأتی هؤلاء الّذین یعدّون أنفسهم من أهل التنوُّر والثقافة

 

بشـرعٍ جدید وفقهٍ حدیث هو أبعد عن فقه دیننا الحنیف وشرعه القویم الّذی جاء به رسولنا النبیّ الكریم|، من المشرق عن المغرب؛ لأنّه فقه یحلّل الربا المحرّم ویسمِّیه استثماراً وفائدة، ویحلّل سائر المحرّمات ویسمّیها بأسماء اُخر، أو یبقیها على أسمائها!

أعاذنا الله‏ وجمیع المسلمین وأحكام دینه المبین من هذا الفقه الخارج عن الكتاب والسنّة وإجماع المسلمین، الفقه الغربی الإمریکی الّذی یؤیّده وینشـره ویدعو إلیه فقهاء الأنظمة العمیلة.

ولا حول ولا قوّة إلّا بالله‏ العلیّ العظیم، وصلّى الله‏ على سیّدنا محمّد وآله الطاهرین

 

لطف الله الصافی

25 ذی الحجّة 1410ه‍ ، لندن

 

 

([1]) النساء، 34.

([2]) ابن أبی شیبة الکوفی، المصنّف،  ج8، ص717؛ ابن شعبة الحرّانی، تحف العقول، ص35؛ قطب الدین الراوندی، الخرائج والجرائح، ج1، ص79.

موضوع: 
نويسنده: