پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الجهة الثالثة: فی حقیقة الطلب

لا یخفى علیك: أنّ المحقّق الخراسانی& وإن ذكر فی الجهة الثالثة كون لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب،([1]) ولكن الأولى بیان ذلك فی الجهة الرابعة، فإنّ اللازم بیان حقیقة الطلب أوّلاً ثم البحث فی أنّ الوجوب الذی هو قسم من الطلب هل هو مفهوم الأمر أم لا؟ فعلى هذا، ینبغی لنا تقدیم البحث عن حقیقة الطلب، فنقول بعون الله تعالى:

إنّ القوم حیث قسّموا الطلب إلى قسمین: الوجوب والندب، صاروا بصدد بیان

 

حقیقة الطلب. وحیث إنّ البحث عن ذلك مرتبط بالبحث عن اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه الّذی یكون من شعبات المسألة المعروفة الكلامیّة الّتی وقع فیها الاختلاف بین الأشاعرة والمعتزلة ـ وهی أنّ صفة التكلّم من صفات الذات، أو الفعل؟ ـ ساقوا الكلام فی تحقیق اتّحاد الطلب والإرادة، ولكن لم یبیّنوا محلّ الاختلاف والنزاع مفصّلاً ولم یأتوا بما یوضّح المرام، بل خرج بعضهم عمّا هو محلّ النقض والإبرام، فاللازم توضیح جهة النزاع ومنشأ الاختلاف بنحو یتّضح روح البحث وما هو الحقّ فی المقام.

فنقول: إنّ المسلمین فی صدر الإسلام تلقّوا الآیات والأخبار غالباً من غیر أن یتعمّقوا فی مضامینها ویبحثوا فی مراداتها، بل کانوا یأخذونها من صاحب الشرع صلوات الله علیه وآله ویحفظونها ككنوز جواهر لا یعلم حافظها ما فیها، ولمّا وصلت النوبة إلى عصر الصحابة و رأوا شدّة اهتمام الإسلام بتحصیل العلم، والتفتوا إلى أنّ الواجب علیهم تحصیل العلوم، صاروا مهتمّین بتعلّم العلوم وإعمال التفحّص فی سبیلها وعقدوا فی المساجد حلقات تذاكروا فیها تفسیر القرآن المجید، وتحادثوا بما سمعوه عن النبیّ|. وفی هذا العصر اطّلع المسلمون على ما فی أیدی الناس من الأفكار والآراء لأجل اختلاطهم ومعاشرتهم مع غیرهم من الملل المختلفة، لاسیّما فی عصر التابعین الّذی كثر فیه الأسرى العارفون بآراء مللهم فی مبدأ العالم وصفاته تعالى، وكیفیّة تكوّن العالم وغیرها، وقد كان بعض هؤلاء الأسرى یحضر بعض تلك الحلقات ویطرح هذه الآراء، وكان أكثر تشكیل تلك الحلقات فی مساجد مكّة والمدینة المكرّمتین والكوفة والبصرة.

وممّن كان له حلقة بحثٍ فی مسجد البصرة الحسن البصری، وربّما حـضر فی حلقة بحثه بعض المطّلعین على بعض الآراء من الملّیّین، وصارت نظریاته منشأً لبحثهم فی صفات الله تعالى، ومزید اهتمامهم فی فهم ما جاء فی القرآن الكریم من الصفات الجاریة علیه تعالى، كالعالم، والقادر، والمتكلّم، وغیرها. وقد وقع لواصل بن عطاء

 

أحد تلامذته معه اختلافٌ فی بعض المسائل، فاعتزل من حلقته وجلس فی ناحیة اُخرى من المسجد، ووافقه فی الاعتزال بعض التلامذة. ومن ذلك الزمان اُسّس مذهب الاعتزال، إلى أن نشأ أبو الحسن الأشعری الذی كان فی بدایة أمره من المعتزلة وممّن یرى رأیهم ویسلك سبیلهم، ثم رجع عن ذلك وأخذ طریقة الحسن البصـری ومن یحذو حذوه، واهتمّ بردّ آراء المعتزلة وسمّاهم بأهل البدعة، كما سمّى نفسه وموافقیه بأهل السنّة. وذهب فی صفات الله تعالى إلى قیامها بالذات قیاماً حلولیاً. وحیث رأى أنّ القول بحدوث الصفات ملازم لخلوّ الذات منها فی المرتبة المتقدّمة على حدوثها ذهب إلى قدم صفاته تعالى، ولم یتحاش من تعدّد القدماء، فخالف المعتزلة الّذین قالوا بالنیابة.

وأثبت الكلّ لله تعالى صفات ثبوتیة وسلبیة، وأنّ صفاته الثبوتیة على قسمین: صفات الذات وصفات الفعل. لکنّهم اختلفوا فی التكلّم وكونه من صفات الذات أو الفعل فذهبت المعتزلة([2]) إلى أنّه من صفات الفعل،([3]) كما هو الحق عند الإمامیة. وقالوا بأنّنا ما نفهم من الكلام إلّا تلك الأصوات والحروف المسموعة المنتظمة، ولا فرق فیه بیننا وبین الله تعالى، إلّا أنّه تعالى یوجد الكلام فی الأشیاء كشجرة موسى×. فمعنى التكلم إیجاد الأصوات والحروف.

وذهبت الأشاعرة([4]) إلى أنّ الكلام صفة من صفات الذات، كالعلم والقدرة، ولا فرق فیه بیننا وبینه تعالى. وعبّروا عنه بالكلام النفسی. وقالوا بأنّنا إذا تکلّمنا بکلامٍ فلا

 

محالة یكون فی نفسنا شیء نعبّر عنه بالكلام اللفظی ونحكی بسببه عنه وهذه الصورة النفسیة هی ما نسمّیها بالكلام النفسی، والكلام اللفظی حاكٍ عنه.([5])

وقالت المعتزلة فی ردّهم: إنّ الكلام لا یخلو إمّا أن یكون من الجمل الخبریة أو الإنشائیة، فلو كان من الجمل الخبریة فلا نجد فی ذهننا إلّا العلم بما أخبرنا شیئاً نسمّیه بالكلام النفسی. ولو كان من الجمل الإنشائیة، فإن كانت الجملة أمریة فلا یكون فی أنفسنا بحذائها شیء غیر الإرادة، وإن كانت زجریة فلا یكون غیر الكراهة، فما هذا الكلام النفسی الّذی تقولون بأنّ الكلام اللفظی یكون حاكیاً عنه، ونحن لا نرى بالوجدان غیر الإرادة والكراهة والعلم، صفةً اُخرى تكون وراءها.

ومن هنا ظهر منشأ نزاعهم فی اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه؛ لأنّ من شعب النزاع والاختلاف فی الكلام النفسی أنّ الجملة الإنشائیة لو كانت بعثیة تكون حاكیة عن الطلب النفسی الّذی یكون مغایراً للإرادة على مذهب الأشعری.

وأمّا على مذهب المعتزلة فلا یكون شیء فی النفس غیر الإرادة، وإنّما تكون الجمل الإنشائیة الأمریة حاكیة عن الإرادة، فیكون الطلب متّحداً مع الإرادة، لكن لا بمعنى اتّحادهما حقیقة، فإنّ الطلب اللفظی وما هو حاكٍ عن الإرادة یكون مغایراً معها بالضرورة، بل مرادهم من الاتّحاد حكایة الجمل الإنشائیة البعثیة عن الإرادة.

 

ففی الحقیقة: القول باتّحاد الطلب والإرادة راجع إلى إنكار الطلب النفسی، وأ نّه لا یكون غیر الإرادة فی النفس شیء نسمّیه بالطلب الـنفسی. كما ظهرت أیضاً مناسبة البحث عن الطلب والإرادة فی الاُصول فی هذا المقام.

والحاصل: أنّ النزاع واقع فی أنّه هل توجد صفة فی النفس غیر الإرادة یدلّ علیها الطلب اللفظی، دلالة المسبّب على السبب، أم لا؟

ونحو ذلك یقال فی الجمل الخبریة، فهل یوجد فی أنفسنا شیء غیر العلم تدلّ علیه الجمل الخبریة، أم لا؟ وقس على هذا الاختلاف الواقع فی الجمل الإنشائیة الزجریة؛ فإنّ الاختلاف بالنسبة إلیها راجع إلى وجود صفة فی النفس غیر الكراهة وعدمه.

ومرجع الكلّ إلى أنّه هل تكون سوى الصفات المعروفة صفة فی النفس تكون قائمة بها قیاماً حلولیاً نعبّر عنها بالكلام النفسی، ویدلّ علیها الكلام اللفظی، دلالة المسبّب على السبب، أم لا؟ فالأشاعرة اتّفقوا على الأوّل، والعدلیة على الثانی.

وهذا البحث، أی البحث عن الكلام ـ الّذی مرجعه إلى البحث فی أنّ القرآن مخلوق وحادث، أو قدیم؟ ـ، أوّل بحث وقع بینهما فی صفات الله تعالى، لمّا صاروا بصدد البحث وتصحیح العقائد وتطبیقها على ما ورد عن النبیّ|، ولذا سمّی علم الكلام بالكلام([6]) مع احتوائه على المباحث الكثیرة غیر مبحث الكلام.

ولا ریب أنّ البحث فی الكلام بحث دینیّ كلامیّ بحت، وینادی بالمغایرة مع ما فی كتب الاُصول، فإنّ المتاخّرین من الاُصولیّین ادخلوه فى الاُصول بعدما لم یكن لهذا البحث أثرٌ فی كتب المتقدّمین، ولم یلتفتوا إلى ما هو محلّ النزاع وروح الاختلاف. وأوّل من ذكره فی الاُصول المحقّق صاحب الحاشیة+.([7]) وتوهّم أنّ المراد من اتّحاد الطلب

 

والإرادة ترادفهما، وأنّ مراد القائل بمغایرتهما تغایرهما بحسب الموضوع له، وأنّ الموضوع له فی الطلب الطلب الإنشائی وفی الإرادة الصفة المعهودة.

مع وضوح أنّ هذا غیر لائق بأن یبحث عنه الأشاعرة والمعتزلة ویتعبوا أنفسهم بتسوید صفحات عدیدة من الكتب الكلامیة؛ لأنّ المسألة تصیر على هذا مسألة لغویة.

وتبعه بعده سائر الاُصولیین، حتى وصلت النوبة إلى المحقّق الخراسانی& ، فهو وإن كان یظهر من بعض ما أفاد فی المقام([8]) إلتفاته إلى ما هو محلّ النزاع فی علم الكلام ولكن یظهر من بعض عباراته خلاف ذلك، فكأنّه تارة إلتفت إلى محلّ النزاع، واُخرى أغمض عنه ولذا أصلح بزعمه بین الطائفتین العدلیة والأشاعرة، وقلع أساس النزاع بما حقّقه.([9])

وحاصل ما أفاده+: أنّ الطلب والإرادة موضوعان لماهیة واحدة وهی الإرادة العینیة. ولهذه الماهیة ـ وهو الموضوع المتصوّر ـ وجود خارجی وهو الطلب والإرادة الحقیقیة العینیة، ووجود اعتباری وهو الطلب والإرادة المنشاءان باللفظ.

فالعدلیة إنّما ذهبوا إلى اتّحاد الطلب والإرادة بحسب الوجود الخارجی، وأنّ ما یدلّ علیه لفظ الإرادة هو ما یدلّ علیه لفظ الطلب، وإلى اتّحادهما أیضاً بحسب الوجود الذهنی، وإلى اتّحادهما أیضاً فی عالم الإنشاء.

والأشاعرة إنّما ذهبوا إلى تغایرهما بملاحظة تغایر الطلب الإنشائی مع الإرادة الخارجیة.

هذا، ولكن یظهر ممّا أسلفناه فساد هذا التحقیق أیضاً؛ لأنّ النزاع كما ذكرنا لا یكون إلّا نزاعاً دینیاً بحتاً ولا یكون نزاعاً لفظیاً، فالأشاعرة إنّما ذهبوا إلى وجود صفة غیر الصفات المعهودة فی المتکلّم وسمّوها بالكلام النفسی، والعدلیة على خلاف ذلك، فالنزاع واقع فی وجود هذه الصفة وعدمها. ولو عبّرت العدلیة عن مرادهم بالاتّحاد

 

فلیس مقصودهم اتّحاد الطلب والإرادة حقیقة؛ لأنّ من الواضح عدم اتّحاد هذا الإنشاء المخصوص مع الإرادة الّتی تكون من الصفات النفسانیة، بل مرادهم من اتّحادهما: دلالة الطلب على الإرادة دلالة المعلول على العلّة.

هذا، مع أنّ المعروف والمسلّم عند أهل المعقول تقسیم الوجود إلى العینی، والذهنی، والكتبی، واللفظی، وإنّما یطلق الوجود على اللفظی والكتبی مسامحةً من جهة حكایة اللفظ والكتابة عن الوجود.

والمحقّق المذكور زاد فی الكفایة على الأقسام الأربعة قسماً خامساً وهو الوجود الاعتباری الّذی سمّاه فی المقام بالإرادة والطلب الإنشائی،([10]) مع أنّ الحقائق والاُمور الحاصلة فی الخارج غیر قابلة للاعتبار، فلا یعقل اعتبار وجود الإرادة ـ الّذی یكون وعاؤه عالم العین ـ فی عالم الاعتبار؛ لأنّ الاعتبارات بعضها یكون له ما بحذاء فی الخارج كالفوقیة والتحتیة والاُبوّة والبنوّة، وتنتزع هذه العناوین من جهة خصوصیات الوجودات العینیة بالنسبة إلى وجودٍ آخر، وبعضها لا یكون له ما بحذاء فی الخارج، وهذا ینتزع من جعل من بیده الاعتبار ووضعه، كالحكومة والولایة، فإنّ الحكومة مثلاً تنتزع من نصب السلطان أحداً لیتولّى أمر بلدٍ، وكذلك البیع، فإنّه ینتزع من إیجاب البائع وقبول المشتری. وعلى کلّ حالٍ، لا یكاد یتصوّر الوجود الاعتباری للحقائق الموجودة فی عالم العین.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ حقیقة الطلب عبارة عن وجود إنشائی اعتباری ینشأ بالجمل الإنشائیة البعثیة ویعتبر وجوده فی عالم الاعتبار بإنشاء المنشى‏ء، ویكون مجرّد إنشاء الآمر والباعث حاكیاً عن إرادته هذه.

 

ثم اعلم: أنّ الأشاعرة قد تمسّكوا لما ذهبوا إلیه بدلیلین:

أحدهما:([11]) أنّه لو لم تكن فی المتکلّم غیر الإرادة صفة یدلّ علیها الطلب اللفظی فما هو مدلول الأوامر الصادرة عن الله تعالى الّتی لا تكون متعلّقاتها مرادةً له تعالى، كأمره تعالى الخلیل بذبح ولده، حیث إنّ الله تعالى لم یرد منه الذبح، فما المحكیّ عنه فی تلك الموارد؟ وهل یكون غیر الطلب النفسی شیء؟ وهل یصحّ بعد ذلك قول القائل بعدم تعقّل صفة قائمة بالنفس غیر الصفات المعروفة؟ فعلى هذا، فما یدلّ علیه الطلب اللفظی لیس إلّا الطلب النفسی القائم بذاته تعالى أزلاً.

وثانیهما: ما ذكره فی الكفایة([12]) [كما أشار إلى الأوّل،] وهو أنّه لو لم تكن غیر الصفات المعروفة صفة یدلّ علیها الكلام اللفظی، یلزم تخلّف إرادته تعالى عن المراد فی تكلیفه الكفّار وأهل العصیان، حیث أنّه أمر الكفّار بالإیمان، والعصاة بالواجبات، ولم یصدر منهم الإیمان وفعل الواجبات، وتخلّف إرادته عن مراده محال فلم یرد منهم الإیمان وأداء الفرائض البتّة. فما یدلّ علیه الطلب اللفظی هو الطلب النفـسی، لا الإرادة.

والجواب عن الأوّل: أنّ الآمر تارة یأمر المأمور بفعل لحصول كمال له بسبب إتیانه ذلك الفعل. واُخرى یأمره به لأن یأتی بمقدّماته وجمیع ما یتوقّف علیه الفعل، مع علمه بوجود المانع عن حصول الفعل، وذلك أیضاً لحصول الكمال للعبد.

ولا یخفى: أنّه فی الأوّل أراد نفس الفعل، وفی الثانی أراد المقدمات. وقصة أمر الخلیل× بذبح ولده من قبیل الثانی، لأنّ الله أمره ـ لحصول الكمال له ـ بإتیانه جمیع المقدّمات بحیث یساوق إتیانها الإتیان بالذبح عادةً لولا طروّ المانع، ولو أمره

 

بالمقدّمات لا یحصل له ذلك الكمال وهو كونه بجمیع وجوده وحقیقته مطیعاً للمولى، بحیث یذبح ولده فی سبیل طاعته ورضاه. فالله تعالى لم یرد منه الذبح، بل أراد المقدّمات بأمره بالذبح. وقوله تعالى: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْیَا([13]) دلیل على اكتفائه بإتیان المقدّمات. ویكون أمره تعالى بالذبح كاشفاً عن إرادته تعالى لوصول عبده إلى الكمال.

وأمّا الجواب عن الثانی: فأجاب عنه المتکلّمون من العدلیة بأنّ إرادة الله تعالى إذا تعلّقت بما هو فعله تعالى فلا یمكن تخلّفها عن المراد، وأمّا إذا تعلّقت بصدور فعل عن الغیر بإرادة ذلك الغیر فلا.([14])

وقال فی الكفایة فی مقام الجواب: بأنّ المستحیل تخلّفه عن المراد إرادته التكوینیة دون إرادته التشریعیة. وفسّر الاُولى بالعلم بالنظام على النحو الكامل التامّ، والثانیة بالعلم بالمصلحة فی فعل المكلّف.([15])

ولا یخفى عدم احتیاج الجواب إلى بیان ماهیّة الإرادتین وأخذ ذلك من الحكماء([16]) وذكره فی المقام. والظاهر أنّه تمهید لبیان ما یذكر بعد ذلك من الإشكال والجواب

 

بقوله+: فإن قلت... إلخ، وهو خارج عن محل النزاع. مع أنّه لم یؤدّ حقّ الجواب وكأنّه أظهر العجز عنه فی آخر المقال.([17])

وأمّا الإشكال المذكور فی كلامه فهو الإشكال المعروف عن الخیّام([18]) وغیره.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسی& بأنّ العلم تابع للمعلوم ولا یكون المعلوم تابعاً للعلم.([19])

 

وفی هذا الجواب نظر، بل ظاهره واضح الفساد؛ لأنّ العلم على قسمین:

علم فعلیّ، وهو الّذی یتعلّق بما أراد الفاعل فعله، وهذا العلم لیس تابعاً للمعلوم لأنّه لا یكون موجوداً قبله.

وعلم انفعالی: وهو الّذی یكون تابعاً للمعلوم، لأنّه لا یتعلّق بالمعلوم إلّا بعد وجوده.

وعلمه تعالى إنّما یكون من قبیل الأوّل، وأمّا الثانی فمحال فی حقّه تعالى.

والتحقیق فی بیان مراده+: أنّ علمه تعالى بالنظام الأتمّ تعلّق بما أنّها مترتّبة بعضها على بعض وبما أنّ بعضها علل و بعضها معلولات، ومن الواضح أنّ ذلك الترتّب والعلّیة، سواء كان إعدادیاً أو ما به یكون الشیء موجوداً، لیس حاصلاً بجعله تعالى، بل هو حاصل بذاته وبالنظر إلى ماهیته المجعولة، فالصادر عنه تعالى بإیجاده هی الموجودات، والعلم بالترتب والعلّیة المذكورة بین هذه الموجودات ـ المعلومة ـ یكون شبیهاً بالانفعال، ومن جملة تلك المعلومات فعل المكلّف الّذی یكون معلولاً لاختیاره بأن یصدر الفعل عنه بترجیحه جانب الوجود أو العدم بعد كون فعله وتركه للمكلّف ومیله إلیهما على السواء.

وما ذكرناه هو الملاك فی اختیاریة الأفعال وصحّة المؤاخذة والعقوبة وحسن الثواب، لا ما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی+ من كون ملاكها مسبَّبیة الفعل عن الإرادة وصدوره بها، لأنّ الحیوان أیضاً یصیر على هذا المبنى مختاراً ومستعدّاً لتوجیه التكلیف إلیه.

وبالجملة: خلق الإنسان ذا أمیالٍ مختلفة وغرائز متباینة، لأنّ النفس الإنسانیة متكوّنة من الرقائق المتضادّة، فلها میولٌ حسب ما تقتضیه تلك الرقائق، فلا محالة یكون للإنسان بالنسبة إلى فعل کلّ شیء وتركه میل إلى أحدهما حسب تلك المیول.

ومنحه الله تعالى القوّة العقلیة لتمییز الصلاح والفساد، وبَعَث الأنبیاء^ لیعاونوا

 

العقل على ذلك وعلى إتیان الصالحات وترك السیّئات، فلا یصدر عنه فعل ولا ترك إلّا بعد ترجیحه أحد الطرفین، وهذا هو معنى الاختیار.

وقد أشار القرآن الكریم إلى هذه الحقیقة بقوله تعالى: ﴿إنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلیهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِیعاً بَصِیراً.([20])

الأمشاج: جمع المشج، ومعناه المختلط. فالمعنى والله‏ العالم: أنّه تعالى خلق الإنسان من مختلطات، أجزاؤها أیضاً مختلطة، وهذا الاختلاط إشارة إلى تلك الرقائق. كما أنّ الظاهر من الآیة أنّ المراد بالنطفة نطفته الروحانیة لا الجسمانیة.([21]) وهذا الاختلاف والاختلاط صار سبباً لاختلاف المیول ثم الاختیار وترجیح بعضها على بعض.

إذا عرفت ذلك كلّه تعرف أنّ علمه تعالى بصدور الفعل عن العبد باختیاره لا یقلّب الفعل عن كونه اختیاریا. لأنّ هذا العلم یكون لا محالة شبه الانفعال وتابعاً للمعلوم؛ إذ العلّیة والمعلولیة من ذاتیّات العلل والمعلولات.([22])

 

 

([1]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص92.

([2]) القاضی عبد الجبّار الأسد آبادی، شرح الاُصول الخمسة، ص528 563؛ القاضی عبد الجبّار الأسد آبادی، المغنی، ج7، ص3-62؛ العلّامة الحلّی، کشف المراد، المسألة السادسة من الفصل الثانی فی صفاته تعالی؛ العلّامة الحلّی، الباب الحادی عشر، ص29 (الصفة السابعة: أنّه تعالی متکلّم).

([3]) صفة الفعل: صفة تثبت لله تعالی لأجل صدور فعل عنه. [منه دام ظلّه العالی].

([4]) التفتازانی، شرح المقاصد، ج4، ص147 وما یلیها؛ الجرجانی، شرح المواقف، ج8، ص93.

([5]) وتمسکوا بما قاله الأخطل نظماً:

إنّ الکلام لفی الفؤاد وإنّما
 

 

جعل اللسان علی الفؤاد دلیلاً
 

والأخطل هو، غیاث بن غوث بن الصلت بن طارق بن عمرو من بنی تغلب أبو مالك شاعر نصرانی اشتهر فی عهد بنی اُمیة بالشام وأکثر من مدح ملوکهم، نشأ علی المسیحیة فی أطراف الحیرة، واتّصل بالاُموییّن فکان شاعرهم. له دیوان شعر مطبوع. توفّی عامّ 90ق.

وألّف عبد الرحیم بن محمود مصطفی فی حیاته کتاب: «رأس الأدب الکمّل فی حیاة الأخطل». راجع: دائرة المعارف الإسلامیة، ج1، ص515.

([6]) انظر علّة تسمیته بالکلام فی نهایة المرام فی علم الکلام المطبوع مع تحقیقنا، ج1، ص8-9.

([7]) وهو الشیخ محمد تقیّ الأصفهانی فی شرحه علی المعالم المسمّی بـ «هدایة المسترشدین»، ص135.

([8]) راجع حاشیته علی فرائد الاُصول )ص287 وما یلیها(؛ وکفایة الاُصول (الخراسانی، ج1، ص95).

([9]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص97.

([10]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص93.

([11]) التفتازانی، شرح المقاصد، ج4، ص149؛ شرح القوشجی علی التجرید، ص246.

([12]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص99. وقبل الکفایة کتب اُخری، نحو: المطالب العالیة للفخر الرازی، ج8، ص11-19؛ وشرح القوشجی علی التجرید (ص340) ؛ والفصول الغرویة (الأصفهانی، ص68).

([13]) الصافّات، 105.

([14]) الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص68.

([15]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص99.

([16]) إنّ الحکماء والفلاسفة ـ کما فی غیرواحد من کتبهم ـ فسّروا إرادة الله تعالی بعلمه، مع أنّ العلم عین ذاته تعالی، وإرادته فعله وإحداثه، کما ورد عن أبی الحسن7فی حدیث: «وأمّا من الله تعالی فإرادته إحداثه لا غیر ذلك...، فإرادة الله الفعل لا غیر ذلك ، یقول له کن فیکون...». الحدیث. الکلینی، الکافی، ج1، ص109 ـ 110، ح 3 (باب أنّ الإرادة من صفات الفعل)؛ راجع أیضاً: الصدوق، التوحید، ص148، ح17، ب11، باب إرادته تعالی لفعل العبد؛ المجلسـی، بحار الأنوار، ج4، ص137، باب القدرة والإرادة، ب4، ح4.

([17]) یستفاد ممّا أفاد السیّد الاُستاذ+، فیما یأتی فی البحث عن الجمع بین الحکم الظاهری والواقعی وما حکاه عنه هنا مقرّر بحثه عن مجلس درسه فی بروجرد، الجواب عن الاستدلال الثانی بمنع وجود الإرادة الحقیقیة المتعلّقة بإطاعة الکفار والعصاة، فلا بعث ولا زجر حقیقةً بالنسبة إلیهم، وإن کان إنشاء التکلیف والأمر والنهی مطلقاً یشمل بإطلاقه العاصی کالمطیع، فما تعلّقت به الإرادة الحقیقیة إنبعاث عباد الله الصالحین من الأوامر وإنزجارهم عن المناهی من النواهی لینذر من کان حیّاً ویحقّ القول علی الکافرین وإنّما تنذر من اتّبع الذکر وخشی الرحمن بالغیب.

لا یقال: فعلی هذا لا یکون العاصی عاصیاً حقیقیاً ولا یستحقّ اللوم والعذاب.

 فإنّه یقال: یکفی فی استحقاقه العقاب المصلحة الکامنة فی الفعل الّذی ترکه، والمفسدة الّتی فی الفعل الّذی أتی به، وإطلاق الطلب الإنشائی وکونه صالحاً لأن ینبعث منه. [منه دام ظلّه العالی].

([18]) قال فی ما نسب إلیه فی رباعیته:

من می خورم وهر که چو من اهل بود
می خوردن من حق ز ازل می دانست

 

 

می خوردن او نزد خرد سهل بود
گر می نخورم علم خدا جهل بود

 

ونقلها إلی العربیة، الشاعر الصافی النجفی قائلاً:

أعبُّ الطّلا عمدا ومثلی ذو حجی
دَری الله قِدما بارتشا فِیَ للطّلا

 

 

له یَغتَدی عند النُهی شُربها سهلاً
فإن أجتنبها ینقلب علمه جهلاً

 

رباعیات الخیّام، تعریب السیّد أحمد الصافی، حرف اللام، رقم250.

([19]) الخواجة نصیر الدین الطوسی، نقد المحصّل، ص328، ویستفاد هذا الجواب ممّا أفاد نظماً:

این نکته نگوید آنکه او اهل بود
علم ازلی علت عصیان کردن

 

 

زیرا که جواب شبهه اش سهل بود
نزد عقلا ز غایت جهل بود

 

 

([20]) الإنسان، 2.

([21]) کما أشارت إلیها أخبار الطینة. الصفّار، بصائر الدرجات، ص35، ح5، ص37، ح10. المجلسـی، بحار الأنوار، ج25، ص49 ـ 50، ح10؛ ویدلّ علیه قوله تعالی فی الآیة المبارکة: ﴿نَبْتَلیهِ (الانسان، 2)؛ فإنّه یناسب الروح لا الجسد والمادّة.

([22]) وهذه التابعیة لا نستلزم البعدیة، هذا. ولتوضیح المرام نقول:  ـ ومن الله نستمدّ ونستعین ـ یمکن طرح الإشکال تارة من جانب الأشاعرة بأنّ علی القول باتّحاد الطلب والإرادة یلزم بالنسبة إلی تکلیف الکفّار بالإطاعة والإیمان إمّا القول بعدم إرادة الإیمان منهم جدّاً وکون تکلیفهم وأمرهم به صوریّاً، أو تخلّف الإرادة عن المراد تعالی الله منه. وتارة من جانب المجبّرة الإیراد علی جواز أصل تکلیف العباد ومطیعهم وعاصیهم بأنّ کلّ واحد من الطائفتین مجبور علی أفعاله عصیاناً کان أو إطاعة. وبعبارة اُخری: لا یتصوّر بالنسبة إلیهم الإطاعة والعصیان لأنّهما خارجان عن قدرة العبد وکلّ میسّر لما خلق له، وذلك لأنّ الله تعالی عالم بحال عبده من الإطاعة والعصیان فلا یقدر العبد علی تغییر ما تعلّق به علمه تعالی، فإنّه یلزم منه تخلّف علمه عن معلومه وجهله، تعالی الله منه علوّا کبیراً، وهو خلاف اتّفاق العدلیة والأشاعرة.

والجواب عن إیراد الأشاعرة أنّ التکلیف من الوجوب والحرمة ینشأ بالأمر الإنشائی المطلق الشامل للعاصی والمطیع، إلّا أنّ الإرادة متعلّق بانبعاث العبد إلیه بالاختیار. وإن شئت قلت: یتعلّق علم المولی بانبعاث عبده المطیع باختیاره من التکلیف الإنشائی دون العاصی.

فنختار فی الجواب عدم الإرادة الجدّیة، وتعلّق الأمر بالعصاة صوریّاً وشموله لهم إنشاءً واحتجاجاً علیهم ولئلّا یکون لهم علی الله حجّة.

فإن قلت: فعلی هذا لا یتحقّق منه العصیان.

قلت: یکفی فی صحّة حمل العاصی علیهم واستحقاقهم العقاب شمول إطلاق التکلیف له وإتمام الحجّة علیه.

وأمّا الجواب عن إیراد المجبّرة ـ بأنّ علم المولی بوقوع الإطاعة أو العصیان من العبد مستلزم لعدم تخلّفه عن المعلوم، وعدم کون المطیع والعاصی مختارین فی الإطاعة والعصیان ـ ما أفاده السیّد الاُستاذ وملخّصه؛ أنّ تعلّق علم الله بما هو کائن وما یکون لا یوجب انقلاب شیءٍ عن ذاته واقتضائه، فما هو المؤثّر فی المسبّبات أسبابها الخاصّة، ولا یؤثّر فی تأثیرها علم الله تعالی بها، وکلّ ما فی الکون علی نظامه وبرامجه، واختیاریة أفعال العباد وکلّها علی حالها الأصلیة لا یستند شیءٍ منها إلی علم الله تعالی.

وثانیاً، علمه تعالی قد تعلّق بصدورها عنه بالاختیار فلو صدر بغیر الاختیار یلزم تخلّف العلم عن المعلوم.

وبعد ذلك کلّه نقول: مسألة اختیار الإنسان وعدم کونه مجبوراً فی أفعاله لا فی المعاصی ولا فی الطاعات من أبده البدیهیّات، ثابت بالوجدان، تدور علیه الشرائع والأحکام وحسن إرسال الرسل وإنزال الکتب ونظام التمدّن وعلیه إجماع الملل والاُمم. وأیضاً البرهان قائم علی علمه بالأشیاء وأفعال العباد ما یصدر عنهم من الکفر والإیمان قبل وجودها. وشبهة العلم حیثیة متفرّعة علی ما لا یمکن درك حقیقته لنا أی علم الله تعالی فلا یتمّ الاستدلال بها، لجواز کون تعلّقه بالمعلوم علی نحو لا یترتّب علیه الفساد المذکور کما یقال بأنّه شبه الإنفعال وإن لم نقل بذلك أیضاً لأنّه من الکلام فی ذات الله تعالی والإخبار عنها. وإن شئت فقل: إنّها شبهة فی مقابلة البدیهة.

هذا مضافاً إلی أنّا نری بالوجدان قصور إدراکاتنا وأفهامنا عن إدراك ما سواه من بعض الحقائق کحقیقة الروح وحقیقة بعض صفات الإنسان لولا الکلّ ـ مثل الإرادة ـ وحقیقة أشیاء اُخر، وقد قال الله تعالی: ﴿وَمَا أُوتیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلیلاً﴾ (الإسراء، 85)، فإذا کانت هذه حالتنا وعجزنا فی فهم حقائق المخلوقات، فما ظنّك بحالنا فی فهم حقیقة علم الخالق، ولذا تری اختلاف الفلاسفة والحکماء فی هذه المباحث، فلم یأت أحد منهم بما تطمئنّ به النفس ویقنعها، إلّا ما کان متّخذاً من الشـرائع السماویة والقرآن الکریم والأحادیث الصحیحة المأثورة عن النبیّ| والأئمّة الطاهرین صلوات الله علیهم أجمعین.

فالأولی فی مثل هذه المباحث الاقتصار بالإیمان الإجمالی وما جاء به القرآن الکریم والأحادیث الصحیحة، وأمّا الزائد علیهما فلا یزید الباحث إلّا تحیّراً وجهلاً.

والمتدبّر فی الآیات القرآنیة والأحادیث الشریفة یجد البیان الحقّ والوافی فی موضوع المبدأ تعالی وصفاته بحیث لایحتاج الإنسان إلی أن یتعب نفسه ویرجع إلی ما فیه من قیل وقال وتضییع العمر والأوقات.

نعم لا بأس بالإطّلاع علی ما یبحثونه فی الکتب، لدفع الشبهات، والمجادلة مع أهل الخلاف بالّتی هی أحسن.

هذا، ولا یخفی علیك أنّنا قد أطلنا الکلام فی المقام مع أنّه خارج عمّا یبحث عنه فی الاُصول لئلّا یقع البعض فی بعض التوهّمات بسبب العبارات الواقعة فی کلام صاحب الکفایة. والله هو العاصم عن الخطأ والاشتباه. ونختم الکلام ببعض ما فی خطبة الأشباح من خطب أمیر المؤمنین7 الّتی هی ـ کما وصفها السیّد الرضیّ& من جلائل خطبه7، قال 7 فیها: «اعلم أنّ الراسخین فی العلم هم الّذین أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغیوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسیره من الغیب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم یحیطوا به علماً، وسمّی ترکهم التعمّق فیما لم یکلّفهم البحث عن کنهه رسوخاً، فاقتصر علی ذلك ولا تقدّر عظمة الله سبحانه علی قدر عقلك فتکون من الهالکین....» الخطبة. نهج البلاغة، الخطبة 90 (ج1، ص162).

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: