پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الجواب عن الإشكالات

إنّ الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال فی ناحیة الأمر، كلّها بعیدة عن الصواب.

أمّا الإشكال الأوّل، ففیه: أنّ الحكم إنّما یكون متوقّفاً على الوجود الذهنی للموضوع لا الخارجی منه، وأمّا الموضوع فهو بوجوده الخارجی متوقّف على الحكم، فلا دور.

وأمّا الإشكال الثانی، ففیه: أنّ القدرة الّتی هی ملاك صحّة التكلیف والأمر إنّما هی القدرة على إتیان المأمور به فی ظرف الامتثال والإتیان لا قبله، فقدرة المكلّف قبل زمان الامتثال وظرف الإتیان لا تكون من قبیل أجزاء العلّة بالنسبة إلى التكلیف حتى یقال بلزوم حصولها عند تعلّق الحكم بالموضوع.

 

فالحكم متوقّف على لحاظ قدرة المكلّف عند الامتثال ولا شكّ فی أنّه یصیر قادراً حین الامتثال ولو تتوقّف هذه القدرة على الأمر، فلا دور أصلاً.([1])

وأمّا الإشكال الثالث، ففیه: أنّ ما هو المحال هو لحاظ شیء آلیّاً واستقلالیّاً بلحاظ واحد وفی آنٍ واحد، وأمّا لحاظه تارة آلیّاً واُخرى استقلالیّاً جائز بالـضرورة، فیلاحظ الأمر تارة استقلالیّاً آن تصوّر الموضوع، واُخرى آلیّاً حین تعلّق الأمر به.

 

هذا تمام الكلام فی الجواب عن الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال فی ناحیة الأمر.

وإنّما المهمّ الجواب و التفصّی عن الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال فی ناحیة الامتثال. وقد أفادوا فی مقام التفصّی وجوهاً غیر خالیة عن الإشكال.

أحدها: الالتزام بتعدّد الأمر بأن یتوصّل الآمر إلى غرضه بأمرین أحدهما یتعلّق بذات الفعل، والآخر بإتیانه بداعی الأمر. هذا ما أفاده الشیخ الأنصاری+.([2])

وأجاب عنه فی الكفایة([3]) أوّلاً: بمنع الصغرى، لأنّا نقطع بأنّه لیس فی العبادات إلّا أمر واحد.

وثانیاً: بأنّ الأمر الأوّل لو كان یسقط بمجرّد الإتیان بذات الفعل مجرّداً عن قصد الامتثال، فلا یبقى مجال لموافقة الأمر الثانی؛ لانتفاء موضوعه رأساً، فلا یتوصّل الآمر بالأمر الثانی إلى غرضه. وإن لم یكد یسقط، فلیس له وجه إلّا عدم حصول غرضه بذلك، فلا وجه حینئذٍ للأمر الثانی (ولا التشبّث بحیلة تعدّد الأمر)؛ لاستقلال العقل بلزوم إتیان المأمور به بنحو یحصل غرض الآمر به.

ثانیها: ما یستفاد من بیان الكفایة فی ضمن الجواب المذكور من أنّ المقصود إتیان الفعل بداعی الأمر إلّا أنّ المولى لمّا لم یتمكّن من أخذ ذلك فی الأمر جعل متعلّق أمره أعمّ ممّا هو محصّل لغرضه وغیره، ثم إنّ العقل بعد ذلك یحكم بلزوم موافقته على نحو یوجب سقوط الأمر وحصول الغرض.

وفیه: أنّه یلزم من ذلك أن یكون الأمر بذات الفعل صوریاً محضاً من غیر أن یكون محصّلاً لغرض المولى، والحال أنّ الظاهر من الأمر بها كونه حقیقیاً.

ثالثها: ما أفاده بعض الأجلّة من المعاصرین+([4]) وهو الفعل الواقع فی الخارج على قسمین: أحدهما ما لیس للقصد دخل فی تحقّقه بل لو صدر من العاقل لصدق علیه عنوانه، والثانی ما یكون قوامه فی الخارج بالقصد كالتعظیم والإهانة وأمثالهما. ولا إشكال فی أنّ تعظیم من له أهلیة ذلك بما هو أهل له وكذا شكره ومدحه بما یلیق به حسن عقلاً ومقرّب بالذات بلا حاجة فی تحقّق هذا القرب إلى وجود أمر بهذه العناوین.

نعم، قد یشكّ فی أنّ التعظیم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه یتحقّق بماذا؟ وقد یتخیّل كون عمل خاصّ تعظیماً له وأنّ القول الكذائی مدح له وفی الواقع لیس كذلك، بل ما اعتقده تعظیماً له یكون توهیناً له وما اعتقده مدحاً یكون ذمّاً بالنسبة إلى مقامه. والمكلّف لمّا لم یكن له طریق إلى استكشاف المناسب لمقام المولى تبارك وتعالى إلّا إعلامه تعالى، فلابدّ أن یعلّمه أوّلاً ما یتحقّق به تعظیمه ثم یأمره به، ولیس هذا الأمر إلّا لتشخیص المناسب لمقامه تعالى من دون أن یكون قصده دخیلاً فی تحقّق القرب حتى یلزم منه محذور الدور.

وفیه نظر: لأنّ الباعث على الاهتمام فی تصحیح الأمر التعبّدی وجزئیة قصد الأمر أو قیدیّته وقوع الإجماع بل الضرورة علیه بین المسلمین خلفاً عن سلف، وإلّا فإنكاره

 

بالمرّة لیس بعسیر، فالمقصود تصویره على نحو لا یزاحم ذلك الإجماع والضـرورة، وهذا لا یتمّ بما ذكره+، فإنّه أنكر دخالة قصد التقرّب فی العبادة رأساً، إذ المراد من إتیان الفعل بقصد التعظیم إن كان إتیانه بداعی كونه تعظیماً للمولى، فهذا وإن كان موجباً لصیرورة العمل عبادة، إلّا أنّه لا یرفع به إشكال الدور؛ لأنّ قصد كون الفعل تعظیماً للمولى موقوف على كون ذات الفعل تعظیماً له وكونها كذلك موقوف على قصد كونه تعظیماً له، وقد مرّ([5]) نظیر هذا الإشكال فی صورة قصد الملاك والمصلحة.

وأمّا إن كان مراده من إتیان الفعل بقصد التعظیم إنشاء التعظیم وإیجاده بالفعل من دون أن یقصد التقرّب به، فلازمه مضافاً إلى إنكار ما علیه الإجماع والضـرورة من اعتبار قصد التقرّب، اجتماع ذلك مع الدواعی النفسانیة كالرئاء وهضم الغذاء وغیرهما، وأن یكون قصد الرئاء وغیره غیر منافٍ لإنشاء التعظیم الّذی فرض هنا عبادة، وهذا أیضاً مخالف للإجماع.([6])

ورابعها: ما أفاده المعاصر المذكور+ أیضاً([7]) بأنّه من الممكن أن یكون المعتبر فی العبادات إتیان الفعل خالیاً عن سائر الدواعی ومستنداً إلى داعی الأمر، فالفعل المقیّد بعدم الدواعی النفسانیة ووجود الداعی الإلهی وإن لم یكن قابلاً لتعلّق الأمر به بملاحظة جزئه الأخیر ولزوم الدور، وأمّا من دون ضمّ الأخیر فلا مانع منه.

وأمّا إشكاله بأنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قیوده الّتی منها الأخیر لا یكاد

 

یتّصف بالمطلوبیة، وكیف یمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القیود الّتی یكون بها قوام المصلحة، فمندفع بأنّه قد یتعلّق الطلب بما لیس هو مطلوباً فی حدّ ذاته، بل یراد منه حصول أمر آخر، والفعل المقیّد بعدم الدواعی النفسانیة من هذا القبیل، فإنّه وإن لم یكن تمام المطلوب مفهوماً، إلّا أنّه لمّا لم یوجد فی الخارج مصداق له إلّا بداعی الأمر ـ لعدم إمكان خلوّ الفاعل المختار عن کلّ داعٍ یصحّ تعلّق الطلب به ـ فهو یتّحد فی الخارج مع ما هو مطلوب حقیقة. كما لو كان المطلوب الأصلی إكرام الإنسان، فلا شبهة فی جواز الأمر بإكرام الناطق، لأنّه لا یوجد فی الخارج مصداقٌ له إلّا متّحداً مع الإنسان الذی إكرامه مطلوب أصلی.

ولیس هذا الأمر صوریاً بل هو أمر حقیقیّ وطلب واقعیّ لأنّ متعلّقة متّحد فی الخارج مع المطلوب الأصلی.

ولا یخفى: أنّ مثل هذه الأوامر الملحوظة فیها حال الغیر تارة یكون للغیر، واُخرى یكون غیریاً.

مثال الأوّل: الأمر بالغسل قبل الفجر لأجل الصوم، فإنّ الأمر متعلّق بالغسل قبل الأمر بالصوم، ولیس هذا الأمر معلولاً لأمر آخر، إلّا أنّه یكون لمراعاة حصول الغیر وهو الصوم فی زمانه.

ومثال الثانی: الأوامر الغیریة الّتی تكون مسبّبة من الأوامر النفسیة المتعلّقة بالعناوین المطلوبة نصّاً. وما نحن فیه من قبیل الأوّل، لأنّ الأمر بالفعل مقیّداً بعدم الدواعی النفسانیة لا یكون تمام المطلوب النفسی، إلّا أنّه متّحد خارجاً مع ما هو تمام المطلوب ومحصّل لتمام الغرض فیكون أمراً للغیر .

وهذا الجواب یشبه ما أجاب به صاحب الكفایة ـ وذكرناه فی الوجه الثانی ـ فی عدم تعلّق الأمر بتمام المطلوب، بل بما هو الأعمّ، ولكن لا یرد علیه ما أوردناه هناك، لأنّه

 

بنحو لا وجه لتوجّه الإشكال المذكور إلیه. ولكن یورد علیه: بأنّه خلاف الظاهر من أدلّة العبادات، إذ لیس المعتبر فیها خلّوها عن الدواعی النفسانیة وإتیانها بداعٍ إلهی، بل المعتبر فیها أمر بسیط وهو إتیانه بداعی الأمر الإلهی، فلا یستقیم ما ذكره فی الجواب.

هذا تمام الكلام فیما أفادوه فی مقام الجواب، وقد ظهر لك عدم ارتفاع الإشكال بواحد منها، فاللازم علینا التفصّی عن الإشكال على نحو صحیح.

 

([1]) لا یخفی أنّ هذا البیان لا یرفع الإشکال، ویمکن أن یقال ببقاء الدور بعدُ، لأنّ الحکم موقوف علی لحاظ القدرة فی ظرف الامتثال، وملاحظتها کذلك موقوفة علی القدرة فی ذلك الظرف، والقدرة فی ظرف الامتثال موقوفة علی الحکم، فیعود المحذور بلزوم الدور، فتأمّل. [منه دام ظلّه العالی].

([2]) الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص60.

([3]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص111.

([4]) وهو العلّامة المحقّق الشیخ المؤسّس الحائری+.

([5]) تقدّم فی الصفحة، 116.

([6]) واضح أنّ المکلّف تارة یأتی بالفعل بقصد إنشاء التعظیم وبقصد الرئاء هضم الغذاء بنحو یکون کلّ واحد من القصدین فی عرض الآخر، فهو ممّا ینافی عبادیة الفعل ویخالف الإجماع. وأمّا لو أتی بفعل بقصد العبادة وإنشاء التعظیم، ومع ذلك یوجب فی الخارج هضم الغذاء وما شابه ذلك، فلا إشکال فیه، لأنّ العمل معلول لقصد العبادة لا لقصد آخر. [منه دام ظلّه العالی].

([7]) الحائری الیزدی، درر الفوائد، ص97 98.

موضوع: 
نويسنده: