سه شنبه: 28/فرو/1403 (الثلاثاء: 7/شوال/1445)

حكومة الأمارات على الاُصول

إنّ ما ذكرناه من عدم الفرق بین الأمارات والاُصول فی اقتضائهما الإجزاء، لا ینافی حكومة الأمارات على الاُصول، وذلك لأنّ المماثلة والمساواة إنّما تكون فی مجرّد كون کلّ منهما حكم الشاكّ فی مقام الامتثال، لا أنّ الأصل یكون كالأمارة فی جمیع الجهات، فإنّ من الواضح تقدیم الأمارة على الأصل، لأنّ موضوعه ـ وهو الشاكّ ـ یزول بمقتضـى الأمارة الّتی یبدّل الموضوع من الشاكّ إلى العالم بالحكم، یعامل

 

بمفادها معاملة الواقع، وینزّل منزلته، فدلیلها مفسّر لدلیل الأصل وشارح له وحاكم علیه، فلا یبقى معها مجال لجریان الأصل.

فتلخّص من جمیع ما أسلفناه: أنّ مقتضى ظهور دلیل الأصل أو الأمارة بعد ضمّهما إلى دلیل الحكم الواقعی كون الفعل الفاقد لبعض الأجزاء والـشرائط فرداً للطبیعة الواقعة تحت الأمر. وهذا معنى الإجزاء المذكور فی كلام القدماء من الفقهاء كالعلّامة والمحقّق وغیرهما5. فعلى هذا، یكون الفرد المأتیّ به فی حال الشكّ فرداً للمأمور به واقعاً، ومجزیاً عن الفرد الآخر. هذا تمام الكلام فی مقام الإثبات والاستظهار من الاُصول والأمارات الشرعیة.

وأمّا الكلام بحسب مقام الثبوت: فحاصله أنّه یرد على القول بالحكم الظاهری والواقعی وجوه من الإیراد: من لزوم اجتماع النقیضین، أو الضدّین، أو المثلین، أو تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة.

ولا یمكن الذبّ عنها بتقیید الحكم الواقعی بالحكم الظاهریّ، وتخصیص الحكم الواقعی بصورة العلم به؛ لأنّ هذا إنّما یتمّ لو كان الحكم الظاهری والواقعی فی عرض واحد، وواردین على موضوع واحد، وأمّا مع تأخّر الحكم الظاهریّ عن الواقعی برتبتین (إحداهما نفس الحكم الواقعی، والثانیة الشكّ فیه) فلا یمكن التقیید أو التخصیص؛ لأنّ الموضوع فی أحدهما هو الشكّ فی موضوع الآخر، فهما داخلان فی باب التعارض.

هذا مضافاً إلى أنّ التقیید أو التخصیص مستلزم للدور؛ لأنّ الحكم بوجوب الصلاة مثلاً لو كان مقیّداً بصورة العلم به یلزم توقّف الحكم على العلم به، ولا ریب فی أنّ العلم بالحكم أیضاً متوقّف على الحكم.

فالحقّ فی الجواب أن یقال: إنّ الحكم إنّما اُنشئ مطلقاً من غیر تقیید بالعلم والجهل.

 

ولیس معنى إطلاقه أنّ المشكوك والمعلوم قد تعلّقت بهما إرادة الآمر، بل معناه أنّ الآمر أنشأ الحكم عاریاً عن هذه القیود . إلّا أنّه لا یرید انبعاث المكلّف منه إلّا فی ظرف العلم به. وذلك ـ أی عدم إرادة انبعاثه فی صورة الجهل ـ لیس لقصور فی ناحیة الحاكم، بل القصور یكون فی ناحیة الحكم وهو فی سلسلة علل الانبعاث، فإنّ الحكم لا یمكن أن یكون علّة لانبعاث المكلّف وحصول إرادة الفعل فی نفسه إلّا فی صورة علمه بالحكم، فالقصور راجع إلى ضیق دائرة العلّة.

ولو أراد الآمر انبعاث المأمور فی جمیع الأحوال فلابدّ له من التمسّك بأمر آخر یتعلّق بموضوع یكون دائم الموافقة أو غالب الموافقة مع الواقع، كأن یقول: إذا احتملت وجوب شیء فأت به.

لا یقال: یمكن أن ینبعث العبد من الأمر الأوّل فی حال الجهل أیضاً لاحتمال وجود الأمر، فلا یحتاج الآمر إلى أمر آخر غیر الأمر الأوّل.

فإنّه یقال: إنّ انبعاثه على هذا لا یكون من الأمر، بل یكون من احتمال وجود الأمر، فحال وجود الأمر الأوّل وعدمه سواء فی انبعاث العبد.

إذا عرفت ما قلناه من إنشاء الحكم غیر مقیّد بالعلم والجهل، وعدم انبعاث العبد إلّا إذا كان عالماً بالحكم، یمكّنك حینئذٍ أن تجمع بین الحكمین الواقعی والظاهریّ، بأن یكون الحكم الواقعی بالنسبة إلى الجاهل أو المضطرّ متوقّفاً فی مرتبة الإنشاء وعدم وصوله إلى مرتبة الفعلیة، وإنّما الفعلی فی حقّه هو الحكم الظاهری، وبذلك یرتفع التنافی بین الحكمین فی حقّ شخص واحد.

إن قلت: إنّ التحقیق على ما أفاده المحقّق الخراسانی& بقاء فعلیّة الحكم الواقعی فی ظرف الشكّ، وعذریة الحكم الظاهری فی صورة الخطأ، وكونه ترخیصاً للمكلّف فی هذه الصورة.

 

قلت: فساد هذا التحقیق أوضح من أن یخفى على مثله؛ لأنّ التنافی بین الحكم الظاهری والحكم الواقعی مع بقاء فعلیته كالنار على المنار ولو فسّرنا الحكم الظاهری بالترخیص فی ترك الجزء أو الشرط فی صورة الشكّ، لأنّ الترخیص منافٍ للبعث الفعلی نحو الفعل، كما أنّ الزجر عنه ینافی البعث نحوه. فلا مناص ممّا ذكرناه لحلّ التنافی من اختصاص فعلیة الحكم الواقعی بالعالم، هذا.

موضوع: 
نويسنده: