پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الكلام فی الترتّب

تصدّى بعض الأعاظم لتصویر الأمر بالضدّین على نحو الطولیة وكون أحدهما مشروطاً بعصیان الآخر، فیكون الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصیان الأهمّ.

وقد وقع الخلاف فی إمكان ذلك واستحالته. وجوّزه المحقّق الثانی على ما یظهر عنه فی بعض المسائل الفقهیة،([1]) وشیّد أركانه المیرزا الشیرازی،([2]) ثم تلقّاه منه بالقبول تلمیذه المعظّم السیّد محمد الفشاركی+، وحقّقه تلامذته عدا المحقّق الخراسانی+ فإنّه استحال ذلك.([3])

ومختارنا الحقّ هو الجواز. وقبل الشروع فیما هو المهمّ فی المقام ینبغی المراجعة إلى الوجدان لیتّضح أنّ الضرورة العقلیة هل هی قائمة على إمكان ذلك أو لا؟

والحقّ أنّ العقل لا یأبى عن قبول إمكانه، ولا یرى مانعاً لصحّة الأمر بالضدّین بحیث یكون أحدهما مترتّباً على عصیان الآخر، فلا یسمح للحكم بامتناعه. وهذا واضح

 

بعد المراجعة إلى الوجدان وغنیّ عن البیان. فإنّ الوجدان حاكم بصحّة أمر المولى عبده بإنقاذ ولده الغریق على الإطلاق، وأمره بإنقاذ أخیه الغریق لكن لا على نحو الإطلاق بل بشرط عصیان أمره بإنقاذ ولده الغریق، ولیس هذا من الممتنعات الوجدانیة.

وأمّا البحث العقلی فی ذلك وتحقیق المرام خارجاً عن إطار الوجدان، فیحتاج إلى بیان مقدّمة لم تذكر فی كلمات الأعلام، فنقول: لا إشكال فی أنّ ملاك استحالة الأمرین بالضدّین لا یكون إلّا امتناع اجتماع الضدّین فی الخارج وأنّه لا یمكن انقداح الإرادة فی نفس الآمر الملتفت إلى امتناع اجتماع الضدّین. وتحقّق هذا الملاك فی الأمر الواحد المتعلّق بالضدّین فی غایة الوضوح، إذ لا یمكن تعقّل تعلّق الإرادة الواحدة بالضدّین ولا یعقل انقداحها فی نفس الآمر الملتفت فلا یعقل البعث والتحریك.

ولكن من الواضح عدم كون ما نحن فیه من هذا القبیل؛ فإنّ المفروض فی مسألة الترتّب هو أمران تعلّق کلّ منهما بغیر ما تعلّق به الآخر، وكلّ منهما یدعو نحو متعلّقه الّذی هو ممكن فی حدّ ذاته، ولا یكون التحریك بواحد منهما مع قطع النظر عن الآخر تحریكاً بالمحال، فلا یكون انقداح الإرادة محالاً، لأنّ كلّا منهما یبعث إلى متعلّقه الممكن فی حدّ ذاته، فعلى هذا لا یكون الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ من باب الأمر بالضدّین، أو الأمر بالمحال.

وبعبارة اُخرى: إنّ إرادة الأهمّ والبعث والتحریك نحوه مع قطع النظر عمّا یضادّه لا تكون من المحالات العقلیة بل هی من الممكنات الواقعة كثیراً، وكذلك لا مانع من إرادة المهمّ بما هو هو وفی نفسه مع قطع النظر عن الأمر بالأهمّ. فلیس هذا المقام، ومقام الأمر بالمحال والأمر بالضدّین من باب واحد، بل هنا أمران تعلّق کلّ منهما بشیء غیر ما تعلّق به الآخر، ومن الواضح إمكان کلّ منهما فی نفسه.

نعم، الأمران إذا كانا فی مرتبة واحدة بحیث یكون البعث والتحریك بأحدهما فی

 

رتبة البعث والتحریك بالآخر، یكون هذا مستحیلاً كالأمر بالضدین، بمعنى أنّ العقل كما یحكم باستحالة الأمر بجمع الضدّین، حاكم أیضاً باستحالة الأمرین بالضدّین إذا كانا فی مرتبة واحدة، بحیث كان التحریك بأحدهما فی عرض تحریك الآخر، وكان كلّ واحد من البعثین فی مرتبة البعث الآخر.

ثم إنّه لا فرق فیما هو ملاك الاستحالة والامتناع بین ما إذا كان الأمران كلاهما بنحو الإطلاق ـ ویكون تحریك کلّ منهما فی رتبة تحریك الآخر ـ ، أو الاشتراط بأن یكون كلاهما مشروطین بشرطٍ واحد، كما إذا قال السیّد لعبده: إذا دخلت السوق یجب علیك شراء اللحم وإذا دخلت السوق فاشتر الخبز. أو یكونا مشروطین بشرطین ولكن كان حصولهما فی مرتبة واحدة، سواء كان الشرط اضطراریاً أو اختیاریاً، فیكون بعث کلّ واحد منهما نحو متعلّقه فی مرتبة بعث الآخر. فلا فرق فی جمیع هذه الموارد من جهة استلزامها ملاك الاستحالة العقلیة وهو التحریك إلى شیء فی مرتبة التحریك إلى شیء آخر.

وأمّا إذا كان أحدهما مطلقاً والثانی مشروطاً بعصیان الآخر، فلا یلزم منه ملاك الاستحالة؛ لأنّ ملاك حكم العقل بالامتناع والاستحالة لیس إلّا عدم إمكان التحریك نحو شیء فی مرتبة تحریكٍ آخر نحو شیء آخر. وهذا الملاك غیر موجود فی المقام؛ إذ المفروض أنّ أحد الأمرین تعلّق بموضوعه على نحو الإطلاق والثانی على نحو اشتراطه بعصیان الآخر. فالتحریك بالمهمّ لیس فی مرتبة التحریك بالأهمّ؛ لأنّه مشروط بعصیان الأهمّ، والتحریك بالأهمّ یكون متقدّماً على عصیانه المتقدّم على التحریك بالمهمّ، فإذا كان التحریكان فی مرتبتین، كیف یمكن أن یتحقّق فیهما مناط الاستحالة العقلیّة؟ وهو التحریك بشیءٍ فی رتبة التحریك بالآخر.

لا یقال: بناءً على ما ذكرتم یلزم أن یكون الأمر بالأهمّ أیضاً مـشروطاً بعدم

 

العصیان؛ لأنّه عند عصیانه لا یكون مأموراً به بل المأمور به عندئذٍ هو المهمّ والحال أنّ المفروض إطلاق الأمر بالأهم.

هذا، مضافاً إلى أنّ اشتراط الأمر بالامتثال أو العصیان أو كلیهما غیر معقول؛ فإنّه بشرط الامتثال مستلزم لتحصیل ما هو الحاصل، وبشرط العصیان مستلزم لاجتماع النقیضین، وبشرط الإطاعة والعصیان مستلزم لکلّا المحذورین، وما لا یمكن تقییده واشتراطه لا یصحّ إطلاقه، بمعنى أنّه إذا لا یمكن تقییده بعنوان الإطاعة والعصیان بأن یقال: أیّها المطیع أو أیّها العاصی افعل کذا وکذا أو أیّها المطیع والعاصی افعلا كذا وكذا، فلا یمكن إطلاقه بالنسبة إلیهما.

مضافاً إلى ذلك كلّه: أنّ الإطاعة والعصیان ممّا یترتّب على الأمر فی المرتبة المتأخّرة عنه، فلا یمكن أخذهما فی متعلّق الأمر.

فإنّه یقال: إنّ الأمر بالأهمّ لا یكون مـشروطاً بالإطاعة والعصیان حتى یستلزم المحذورات المذكورة، بل الأمر متعلّق بذات المكلّف العاصی أو المطیع مثل أن یخاطبه بقوله: یا أیّها الإنسان إفعل كذا، وهذا هو الّذی یعبّر عنه بالإطلاق الذاتی ولا محذور فیه.

إن قلت: إنّ المهمّ وإن لم یكن طارداً للأهمّ من جهة اشتراطه، ولكن الأهمّ یكون طارداً للمهمّ لفرض إطلاقه ولو بالإطلاق الذاتی.

قلت: مرتبة العصیان مرتبة عدم تأثیر الأمر، ولو فرض وجود الأمر فلا یكون مؤثّراً فی تحریك العبد، فلا مانع عقلاً من الأمر بالمهمّ فی تلك المرتبة، وقد مرّ أنّ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ برتبتین والأمر بالأهمّ متقدّم علیه بمرتبتین، والمتأخّر عن الشیء لا یمكن ارتقاؤه إلى المرتبة المتقدّمة لذاك الـشیء، وما هو متقدّم على الشـیء لا یمكن انحطاطه وتنزّله فی مرتبة ذلك الشـیء، فلا تحصل المطاردة بین المتخالفین رتبة.

 

ثم إنّه ربما یمکن أن یختلج فی بعض الأذهان ویشتبه العصیان الرتبی بالعصیان الخارجی الّذی یقع فی الخارج فی وعاء الزمان، ویقال: إنّ عصیان الأهمّ الّذی هو شرط للمهمّ لا یكون إلّا بعد انقضاء زمان الأهمّ، والحال أنّ المفروض أنّ زمان الأهمّ عین زمان المهمّ، فلا یمكن وجود ما اشترط علیه الأمر بالمهمّ إلّا بعد انقضاء زمان المهمّ.([4])

والجواب: أنّ هذا الإشكال إنّما نشأ من خلط العصیان الرتبی بالخارجی، والحال أنّ العصیان الرتبی غیر العصیان الخارجی، فإنّ العصیان الرتبی الّذی هو شرط للمهمّ یحصل قبل انقضاء زمان المهمّ فی الوعاء المخصوص به، بخلاف العصیان الخارجی الزمانی ـ الّذی هو لیس شرطاً للمهمّ ـ كما هو معلوم.

إن قلت: فعلى هذا، لا مانع من أمرین بالضدّین واشتراط أحدهما بإطاعة الآخر؛ لأنّ الإطاعة والعصیان یكون من قبیل النقیضین وفی مرتبة واحدة، فكما أنّ اشتراط أحد الأمرین بعصیان الآخر موجب للخروج عمّا هو مناط الامتناع وانقلاب مادّة الامتناع إلى الإمكان، فلیكن اشتراط أحدهما بإطاعة الآخر كذلك.

قلت: إنّ الفرق بین الإطاعة والعصیان أوضح من أن یخفى؛ فإنّ حقیقة الإطاعة وقوع المأمور به فی الزمان الّذی لابدّ وأن یقع فیه، ولیس معنى كون الأمر بالمهمّ مشروطاً بإطاعة الأهمّ إلّا الأمر بأحد الضدّین بشرط وجود ضدّه، ولیس هذا إلّا الأمر بالمحال والتحریك إلى الضدّین، وهذا یكون أسوء حالاً من الأمرین بشیئین فی مرتبة واحدة یكون کلّ واحد منهما ممكناً فی حدّ نفسه ممتنعاً بالقیاس إلى الآخر.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذا مستلزم للتناقض؛ فإنّ الأمر بالـشیء بشـرط وجود ضدّه

 

معناه الأمر بالشیء بشرط انقضاء زمانه وهذا مستلزم لعدم الأمر به، فیكون الأمر بالشیء مشروطاً بعدم الأمر به.

إن قلت: بناءً على ما ذكرتم لا محیص عن الالتزام بعقابین عند ترك الأهمّ والمهمّ، مع أنّ العقاب على تركهما لیس إلّا العقاب على أمرٍ غیر مقدور للمكلّف، لأنّه لا یكون قادراً على إیجاد الأهمّ والمهمّ.([5])

قلت: أیّ مانع عقلی من ذلك بعد فرض تعلّق الأمرین بهما على سبیل الترتّب؟ فلا یكون ذلك عقاباً على غیر مقدور، لأنّه قادر علیهما على نحو الترتّب فما یكون مصحّحاً لتعلّق التكلیف هو الملاك والمناط لصحّة العقاب.([6])

 

([1]) نقلها الشیخ& فی مطارح الأنظار (الکلانتری الطهرانی، ص57).

([2]) تقریرات المجدّد الشیرازی، ج3، ص119. راجع أیضاً: درر الفوائد للشیخ الحائری، ج1، ص140.

([3]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص213، تبعاً لاُستاذه الشیخ& فی مطارح الأنظار (الکلانتری الطهرانی، ص57).

([4]) النائینی، فوائد الاُصول، ج2، ص346.

([5]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص218. ونقل عن اُستاذه آیة الله المجدّد السیّد حسن الشیرازی& عدم التزامه بهذا اللازم، وأنّه کان بصدد تصحیحه.

([6]) یمکن تقریر الترتّب بأن یقال: إنّ معنی الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصیان الأهمّ کونه مشروطاً بعدم داعویة الأمر إلیه وموجباً لانبعاث العبد نحوه لعدم إرادة العبد الإتیان به وإرادته العصیان مع بقاء الأمر الإنشائی المطلق به حال الإتیان بالمهمّ علی حاله.

وبعبارة اُخری: لا مضادّة بین الأمر الحقیقی بالمهمّ وإرادة انبعاث العبد منه مع الأمر الصوری بالأهمّ إتماماً للحجّة علی العبد، فالمولی الحکیم الّذی یعلم عدم انبعاث عبده من أمره بالأهمّ یأمره به إتماماً للحجّة ویأمره حقیقةً بالمهمّ لأن ینبعث منه ولابدّ له من ذلك. فإن قلت، فهذا یأتی بالضدّین المهمّین أیضاً. قلت: لا مانع إذا علم عدم انبعاثه من أحدهما المعیّن فیأمر به صوریاً وبالآخر بشرط العصیان به. ولا یخفی علیك ، أنّ مرادنا من الأمر الصوری الأمر الإنشائی المنشأ لإتمام الحجّة علی العبد وما هو مصحّح العقاب وعدم الانبعاث منه یعد عصیاناً، وبالأمر الحقیقی أیضاً الإنشائی المنشأ لانبعاث العبد منه، فتدبّر. [منه دام ظلّه العالی].

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: