جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الفصل السابع:
فی التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص

هل یجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص؟([1]) بأن یكون العامّ حجّة للمكلّف فی مقام الاحتجاج على المولى، كما إذا دلّ دلیل العامّ على عدم تكلیف فی مورد فأخذه المكلّف وبنى علیه من غیر فحص عن مخصّصه مع وجوده واقعاً، أم لا یكون حجّة كذلك إلّا بعد الفحص عن المخصِّص؟

ولیعلم أوّلاً: أنّ أوّل من تکلّم بهذه المسألة ـ بعد عدم كونها مورداً للبحث عند السابقین علیه من العلماء ـ هو أبو العباس بن سُرَیج الشافعی([2]) واختار عدم حجّیة العامّ قبل الفحص عن المخصِّص.([3])

وخالفه فی ذلك تلمیذه أبو بكر الصَیْرَفی وذهب إلى حجّیته قبل الفحص.([4])

 

ووافقه فی ذلك البیضاوی، والعلاّمة فی أحد قولیه، والمدقّق الشیروانی، وغیرهم.

وذهب السبكی من العامّة إلى التفصیل، وقال بعدم حجّیته قبل الفحص فی حیاة الرسول| وحجّیته بعده|.([5])

وذهب الشیخ+،([6]) والسیّد+([7]) ـ على ما یظهر منهما فی مسألة جواز إسماع العامّ المخصَّص مع عدم ذكر مخصّصه ـ، وصاحب المعالم،([8]) والزبدة،([9]) وجلّ المتأخّرین إلى المنع،([10]) وإلیه ذهب من العامة أبو العباس المذكور، وتبعه الغَزالی،([11]) والآمدی،([12]) والحاجبی مدّعیاً للإجماع،([13]) والأنباری مدّعیاً لإجماع الاُصولیین، ومن الإمامیة العلّامة مدّعیاً للإجماع فی موضع من التهذیب،([14]) وكذا السیّد عمید الدین ـ رحمة الله‏ علیهما ـ فی شرح التهذیب.([15])

وكیف كان فلابدّ لنا قبل الورود فی المطلب من بیان أنّ هذا النزاع هل یكون

 

منحصرا فی حجّیة أصالة العموم، أو یعمّها وسائر الاُصول اللفظیة كأصالة الحقیقة وأصالة الإطلاق، أو یكون أعمّ من الاُصول اللفظیة ویشمل کلّ دلیل شرعی، فیقع النزاع فی کلّ دلیل ولو كان خاصّاً فی أنّه حجّة قبل الفحص عمّا یعارضه مع احتمال وجود معارض أقوى منه له أو لا؟ وجوه: أظهرها الأخیر؛ لأنّه لو قلنا بعدم حجّیة أصالة العموم قبل الفحص فلا فرق بینها وبین سائر الاُصول اللفظیة والأدلّة الشرعیة، كما لا یخفى.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ الشیخ+ قد أفاد فی وجه عدم جواز التمسّك بعموم العامّ قبل الفحص عن المخصِّص، كما فی تقریرات بحثه، بقوله: «إنّ العلم الإجمالی بورود معارضات كثیرة بین الأمارات الشرعیة الّتی بأیدینا الیوم حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهیة واستشعر اختلاف الأخبار، والمنكر إنّما ینكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإیمان بذلك، ولا یمكن إجراء الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی ـ كما قرّرناه فی محلّه ـ فتسقط العمومات عن الحجّیة للعلم بتخصیصها إجمالاً عند عدم الفحص. وأمّا بعد الفحص فیستكشف الواقع ویعلم أطراف الشبهة تفصیلاً بواسطة الفحص...»، إلى أن قال:

«فإن قلت: إنّ هذا العلم الإجمالی إنّما هو من شعب العلم الإجمالی بمطلق التكالیف الشرعیة الّتی تمنع عن الرجوع إلى الاُصول فی مواردها، واحتمال ثبوت التكلیف فی موارد العامّ وأفراده إنّما هو بواسطة ذلك العلم الإجمالی باقٍ وحكم ذلك العلم الإجمالی باقٍ بعد الفحص ما لم یقطع بعدم المخصِّص، وقیام الظنّ مقامه یوجب التعویل على الظنّ المطلق كما عرفت فیما تقدّم.

قلت: إنّ العلم الإجمالی بثبوت مطلق التكالیف الّذی أوجب الفحص عن مطلق الدلیل یكفی فی رفع حكمه الأخذ بظاهر العموم المعمول فیه الاُصول، وما هو

 

المدّعى فی المقام یغایر ذلك العلم الإجمالی ولا مدخل لأحدهما بالآخر وجوداً وعدماً، كما لا یخفى على المتأمّل».([16]) انتهى كلامه رفع الله مقامه.

أمّا المحقّق الخراسانی+ بعد ما أفاد من أنّ حجّیة أصالة العموم واعتبارها فی الجملة إنّما یكون من باب الظنّ الخاصّ لا الظنّ المطلق؛ لأنّه لو قلنا بحجّیته من باب الظنّ المطلق فلیست هی حجّة حقیقة بل الحجة إنّما یكون ظنّ المكلّف بالتكلیف. ومن أنّ حجّیتها إنّما تكون من باب الظنّ النوعی لا الشخصی.

أفاد بأنّه مع العلم بتخصیص العموم تفصیلاً أو إجمالاً لا مجال للنزاع فی حجّیته وعدمها؛ لأنّ النزاع فی جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص إنّما یجری بعد الفراغ عن عدم حجّیة العموم فیما إذا علم تخصیصه إجمالاً أو تفصیلاً.

وقال: إنّ التحقیق عدم جواز التمسّك به قبل الفحص فیما إذا كان فی معرض التخصیص، كما هو الحال فی عمومات الكتاب والسنّة، وذلك لأجل أنّه لولا القطع باستقرار سیرة العقلاء على عدم العمل به قبله فلا أقلّ من الشكّ، كیف وقد ادّعى الإجماع على عدم جوازه فضلاً عن نفی الخلاف عنه وهو كافٍ فی عدم الجواز، كما لا یخفى، إلخ.([17])

ویمكن الإشكال علیه: بأنّه إن أراد من كون العامّ فی معرض التخصیص وقوع احتمال التخصیص بالنسبة إلیه، فلا إشكال فی استقرار سیرة العقلاء على العمل بالعامّ فی مورد احتمال التخصیص.

وإن أراد كون العامّ فی مظنّة ذلك، فهذا ممّا لم یقل به أحد.

وإن أراد كونه بحیث یكون قابلاً لورود التخصیص علیه، فما من عام إلّا وهو یكون كذلك.

 

ومع ذلك، یمكن أن یوجّه ما أفاده بأنّه وإن كان بناء العقلاء استقرّ على جواز العمل بالعامّ قبل الفحص ـ بالمعنى الّذی ذكرنا فی صدر المبحث ـ فی المحاورات العرفیة وبالنسبة إلى الموالی والعبید، ولكن إذا لم یكن المولى من الموالی العرفیة ووضع لعبده تكالیف ووظائف، ویرید منه العمل على وفق هذه الوظائف كما هو شأن الشارع المقدّس، ولم یرضی بترك عبده العمل على طبق هذه التكالیف، فلابدّ لهذا العبد الفحص عن هذه الوظائف، فلا یجوز له إذا اطّلع على عامّ فی كلام المولى العمل به من غیر فحص عن المخصِّص مع احتمال أن یكون هذا العامّ مخصّصاً فی كلامه الآخر.

وبالجملة: إذا علم العبد بأنّ للمولى تكالیف كثیرة متوجّهة إلیه لا عذر له لو ترك الفحص عن هذه التكالیف والتفحّص عن الدلیل والحجّة. هذا، مضافاً إلى أنّ العبد لو علم بأنّ المولى أمره بالفحص عن أحكامه كما هو المراد من قوله: «طلب العلم فریضة على کلّ مسلم»،([18]) وظاهر آیة النفر،([19]) وسائر الآیات والروایات الواردة فی مقام الترغیب والتحریض على الفحص،([20]) فكما أنّ هذه الروایات تمنع عن العمل بالاصول العملیة تمنع أیضاً عن العمل بالاُصول اللفظیة.

ویمكن أن یقال: إنّ المراد من العلم فی الروایات الّتی أمر الشارع فیها بطلب العلم لیس هو العلم الوجدانی والملكة النفسانیة، وإنّما المراد هو الدلیل والحجّة، كما فی قوله تعالى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ،([21]) وغیرها من الآیات كالآیة الّتی تدعو الكفّار بإخراج علمهم، فإنّه إن كان المراد من العلم هو الملكة النفسانیة لا یمكن إخراجها.

 

ولا فرق فیما ذكر من وجوب الفحص عن المخصصات الواردة على العمومات وعن المعارض لما یحتمل أن یكون له معارض أقوى، كما قدّمناه فی صدر البحث.

ولا یخفى علیك: أنّ وجوب الفحص لیس وجوباً نفسیاً بل یكون وجوبه غیریاً وتطفّلیاً، بمعنى أنّه لا یعاقب تارك الفحص إلّا بعقاب تارك الواقع إذا كان فی موردٍ ترك الفحص فیه حكم وخالفه.

وأیضاً لا یخفى علیك: أنّه لا یرد على هذا البیان ما اُورد على وجوب الفحص من جهة العلم الإجمالى من الإشكال.([22]) تارة: بأنّ ما یوجب عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص (وهو العلم الإجمالی) لا یرفع بالفحص فبسبب الفحص لا یصحّ القول بجواز العمل بالعامّ وحجّیته ولا یوجب الفحص تغییراً فی حاله.

واُخرى: بأنّه إذا كان الملاك فی وجوب الفحص العلم الإجمالی بوجود المخصِّصات فلو تفحّص الفقیه حتى ظفر بالمقدار المتیقّن ینحلّ علمه الإجمالی ـ لا محالة ـ وفیما زاد على هذا المقدار یصیر شكّه بدویّاً، فلا یجب الفحص عن جمیع العمومات. مع أنّا نرى أنّ الفقهاء یتفحّصون عن المخصِّص فی جمیع الموارد، كما لا یخفى.

ولا فرق فیما ذكر بین الاُصول اللفظیة والعملیة.

فما أفاد فی الكفایة،([23]) وما یظهر من بعض الأعاظم من المعاصرین:([24]) من الفرق بأنّ الفحص فی المقام عمّا یزاحم الحجّة بخلافه فی الاُصول العملیة؛ فإنّه بدون الفحص لا حجّة، ضرورة أنّ العقل بدونه یستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة.

 

لیس فی محلّه؛ لأنّه إن اُرید بذلك أنّ المكلّف لو ترك الفحص فی الاُصول اللفظیة عمّا یعارضها ولم یكن فی الواقع حكم یكون العامّ حجّة كما إذا تفحص المكلّف ولم یجد شیئاً، فبابه وباب الفحص فی الاُصول العملیة واحد بلا فرق بینهما؛ لأنّ فى كلیهما یكون العقاب بلا بیان والمؤاخذة بلا برهان. وإن اُرید أنّ ترك الفحص فی مجاری الاُصول العملیة مع عدم حكم للشارع واقعاً أو عدم بیان یجده المكلّف عند الفحص یكون تجرّیاً على المولى، فلا فرق فیه بین مجاری الاُصول العملیة واللفظیة؛ لأنّ فی مجاری الاُصول اللفظیة أیضاً لو ترك الفحص یكون متجرّیاً.

 

([1]) راجع: القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص272؛ الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص197.

([2]) هو: أحمد بن عمر بن سریج البغدادی، أبو العباس. فقیه الشافعیة فی عصره. مولده ببغداد سنة 249ق، وبها توفّی عامّ 306 ق. کان یلقّب بالباز الأشهب. ولی القضاء بشیراز وقام بنصرة المذهب الشافعی فنشره فی أکثر الآفاق. کان حاضر الجواب. له مناظرات ومساجلات مع محمد بن داود الظاهری. له تصانیف کثیرة، منه: «الأقسام والخصال» و«الودائع لمنصوص الشرائع». انظر: الزرکلی، الأعلام، ج1، ص185.

([3]) البصری، المعتمد فی اُصول الفقه، ج1، ص331؛ الفخر الرازی، المحصول، ج3، ص21؛ السبکی، رفع الحاجب، ج3، ص444 ـ 447؛ شرح الأسنوی ذیل شرح البدخشی، ج2، ص126 127.

([4]) البصری، المعتمد فی اُصول الفقه، ج1، ص331؛ الفخر الرازی، المحصول، ج3، ص21؛ السبکی، رفع الحاجب، ج3، ص444 447؛ شرح الأسنوی ذیل شرح البدخشی، ج2، ص126 127.

([5]) السبکی، الإبهاج، ج2، ص141.

([6]) الطوسی، العدّة فی اُصول الفقه، ج2، ص465.

([7]) الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص390 391.

([8]) العاملی، معالم الدین، ص119 121.

([9]) البهائی، زبدة الاُصول، ص97.

([10]) کما فی مطارح الأنظار (الأصفهانی، ص197).

([11]) الغزالی، المستصفی، ج2، ص176.

([12]) الآمدی، الاحکام، ج3، ص47.

([13]) قال ابن الحاجب: «یمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصًص إجماعاً». راجع: السبکی، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، ج3، ص444.

([14]) انظر البحث فی تهذیب الوصول (العلّامة الحلّی، ص138). واستظهر صاحب المعالم (العاملی، ص118) من کلامه هنا جواز الاستدلال بالعامّ قبل الفحص. ولکنّه لیس بصحیح، إذ لا یستفاد منه ذلك والشاهد علیه ادعاؤه الإجماع فی موضع آخر من التهذیب (ص67) ـ کما فی المتن ـ علی لزوم الفحص، فلا تغفل.

([15]) راجع: الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص197.

([16]) الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص200.

([17]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص352 353.

([18]) الکلینی، الکافی، ج1، ص30، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ علیه، ح1.

([19]) قال الله تعالی: ﴿ فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّین‏...﴾. التوبة، 122.

([20]) نحو قوله| حکایة عمّا یقال للعبد یوم القیامة: «أفلا تعلّمت». الطوسی، الأمالی، ص9 10. وانظر أیضاً: الکلینی، الکافی، ج3، ص68، ح4-5.

([21]) الأحقاف، 4.

([22]) راجع: العراقی، مقالات الاُصول، ج1، ص455؛ العراقی، نهایة الأفکار، ج2، ص530؛ النائینی، فوائد الاُصول، ج2، ص542.

([23]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص354.

([24]) والمراد من بعض الأعاظم هو النائینی+ فی فوائد الاُصول (ج2، ص539).

موضوع: 
نويسنده: