پنجشنبه: 6/ارد/1403 (الخميس: 16/شوال/1445)

الفصل الحادی عشر:
الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة

هل الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة یكون ظاهراً فی رجوعه إلى خصوص الأخیرة،([1]) أو إلى کلّ منها؟([2])

والظاهر أنّ نزاعهم لا یكون فی إمكان رجوعه إلى الكلّ وعدمه. كما أنّه لا إشكال فی أنّ محلّ النزاع إنّما یكون فیما إذا كان المستثنى قابلاً لأن یستثنى من المستثنى منه، كما إذا كان المستثنى عنواناً ینطبق على بعض أفراد جمیع العناوین المذكورة فی الجمل المتعدّدة، أو كان فرداً یصدق علیه جمیع العناوین الكلیّة المذكورة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ المحقّق الخراسانی& أفاد فی المقام: بأنّه لا إشكال فی رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخیرة؛ لأنّ رجوعه إلى غیرها من الاُولى والمتوسطة خارج عن طریقة أهل المحاورة. وكذلك لا إشكال فی صحّة رجوع الاستثناء إلى الكلّ وإن كان المتراءى من صاحب المعالم+ خلافه؛ وذلك من جهة أنّ تعدّد المستثنى منه كتعدّد المستثنى لا یوجب تفاوتاً فی ناحیة الأداة بحسب المعنى أصلاً، كان

 

الموضوع له فی الحروف عامّاً أو خاصّاً، وكان المستعمل فیه الأداة ـ فیما كان المستثنى منه متعدّداً ـ هو المستعمل فیه فیما كان مستثنى منه ـ واحداً، كما هو الحال فی المستثنى بلا ریب ولا إشكال. فعلى هذا، لا یصحّ التمسّك بأصالة العموم فی الجملة الأخیرة فیما یشمله المستثنى، للقطع برجوع الاستثناء إلیها ولو من باب القدر المتیقّن. وفی غیرها أیضاً لا مجال للتمسّك بأصالة العموم، لوجود ما یصلح للقرینیة فی الكلام. فلابدّ من الرجوع إلى الاُصول العملّیة.([3])

هذا، والّذی ینبغی أن یقال: إنّه قد مرّ فی أوّل الكتاب عند البحث فی المعنى الحرفی([4]) أنّه لیس للشیئین المرتبطین إلّا وجودهما فی الخارج، كالماء الّذی فی الكوز، فلیس فی الخارج وجود مستقلّ إلّا وجود الماء ووجود الكوز، وأمّا كون الماء فی الكوز فلیس وجوداً مستقلّا فی الخارج، بل یرى وجوده مندكّا فی وجود المرتبطین أی الماء والكوز. نعم، ینتزع من كون الماء فی الكوز نحو ارتباطهما إلى الآخر. فهذا الوجود الاندكاكی الّذی لا یرى فی الخارج ولا یجیء فی الذهن منه مفهوم مستقلّ، كما یجیء من لفظ الماء وغیره، هو الموضوع له للحروف، فالحروف إنّما وضعت لأجل إفادة ارتباط معنىً بمعنىً آخر، وهذا مطابق لما أفاده الرضیّ+ من أنّه لیس للحروف معنى فی الحقیقة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لا إشكال فی صحّة الاستثناء عن الجمل المتعدّدة إذا اعتبر كلّها شیئاً واحداً ویرتبط بالمستثنى؛ لأنّ الاستثناء أیضاً نحو ارتباط بین المخرج والمخرج منه، وهو كون المخرج خارجاً عن المخرج منه، وكونه بحیث اُخرج منه

 

ذلك. كما أنّه لا إشكال فی صحته إذا كان المستثنى منه متعدداً وكان لهما جامعاً یكون هو المستثنى منه.

وأمّا إذا كان کلّ واحد منها ملحوظاً مستقلّا، فلا یمكن أن یرتبط كل واحد منها بالمستثنى باستثناء واحد؛ لأنّ لکلّ واحد منها ارتباطاً خاصّاً بالمستثنى، فلیس هذا إلّا من قبیل استعمال اللفظ المشترك فی أكثر من معنى واحد.

والحاصل: أنّ الحقّ فیما هو الفارق بین الحروف والأسماء: أنّ الحرف وضع لإفادة الارتباط لا لمفهوم الارتباط وإفادة تصوّره، فإنّ هذا معنى اسمی، فوضع الحرف لإفادة ارتباط المرتبطین، بحیث یحصل بسببه تصوّر المرتبطین على نحو تحقّقهما فی الخارج، ولا یمكن تصویر هذا المعنى إلّا مندكّاً فی الغیر. ولو تصوّرته مستقلّا لما أفاد ارتباط المرتبطین على النحو المذكور. فعلى هذا، لا یمكن استعمال الحروف مثل «إلّا» لإفادة ارتباط معنىً من المعانی مع معنىً آخر ومع معنى غیره. وعدم إمكان هذا أشدّ من عدم إمكان استعمال اللفظ فی أكثر من معنى واحد؛ لأنّ فی المقام حیث یكون المعنى مندكّاً فی المرتبطین یكون القول بإمكان تصور المعانی المختلفة وجعل اللفظ علامة لها لا بنحو المرآتیة، كما احتملنا هناك، أبعد من الصواب.

فتلخّص ممّا ذكرنا: عدم صحّة استعمال أداة الاستثناء لإفادة ارتباط أكثر من معنى واحد مع معنى آخر.

ولا یقاس تعدّد المستثنى منه بتعدّد المستثنى؛ لأنّ إفادة إرادة التعدّد من الأداة فی جانب المستثنى إنّما تكون من جهة حرف العطف، وأمّا فی طرف المستثنى منه فحرف العطف إنّما یفید إثبات الحكم المذكور فی الجملة الاُولى لسائر الجمل.

اللّهمّ إلّا أن یقال: بأنّه لا مانع من ملاحظة الارتباطات الواقعة بین المرتبطات المختلفة وجعل اللفظ علامة لها جمیعاً، كما ذهب إلیه الشافعی فی الآیة الشـریفة:

 

﴿وَالَّذینَ یَرْمُونَ الْـمُحْصَناتِ ثُمَّ لَـمْ یَأتُوا ...([5]) بإمكان ذلك؛([6]) لأنّ الألفاظ إنّما تكون علامات للمعانی، فكما أنّ فی باب المشترك إذا استعمل لفظ مشترك تفهم منه إرادة جمیع المعانی لكون هذا اللفظ علامة للجمیع، إلّا إذا دلت القرینة على تعیین أحد المعانی دون غیره، كذلك فی المقام لا مجال لتخصیص الاستثناء بالجملة الأخیرة إلّا مع وجود القرینة، وإلّا فهو راجع إلى الكلّ. وكلامه هذا وإن كان مخدوشاً بالنسبة إلى الجملة الأخیرة، لأنّ الاستثناء راجع إلیها على كلّ حال ـ كانت القرینة موجودة على ذلك أم لم تكن قرینة أصلاً ـ إلّا أنّ أصل هذا الاحتمال ربما لا یكون بعیداً عن الصواب. ولكنّ الإنصاف أنّ التحقیق ما ذكرناه أوّلاً، وأنّ هذا الاحتمال خلاف التحقیق، فتدبّر.

 


([1]) ذهب إلیه أبوحنیفة وأصحابه. راجع: البصری، المعتمد فی اُصول الفقه، ج1، ص245؛ شرح المختصـر للعضدی (ج1، ص260).

([2])وهو مذهب الشافعی وأصحابه کما فی الذریعة إلی اُصول الشـریعة (الشـریف المرتضی، ج1، ص249) والمصدرین المتقدّمین.

([3]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص364 365.

([4]) مرّ فی الصفحة 28.

([5]) النور، 4.

([6]) العلّامة الحلّی، مبادی الوصول إلی علم الاُصول، ص141.

موضوع: 
نويسنده: