پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الأمر الخامس:
فی إحراز الإطلاق إثباتا
ً

قد ظهر ممّا حقّقناه فی الأمر الأوّل والثانی حال المطلق والمقیّد بحسب مقام الثبوت. وأمّا بحسب مقام الإثبات، فاعلم: أنّه لا مجال للتمسّك بأصالة الحقیقة([1]) لو شكّ فی الإطلاق والتقیید؛ لأنّ التمسّك بها یصحّ لو كان استعمال اللفظ فی المقیّد مجازاً، وأمّا بعد فرض عدم ذلك فلا مجال له.

وقد أفاد المحقّق الخراسانی& احتیاج إثبات الإطلاق إلى المقدّمات الثلاثة المعروفة المعبّر عنها فی الاُصول بمقدّمات الحكمة؛ لأنّ ملاك الإطلاق والتقیید عنده: لحاظ شیاع المعنى وسریانه فی تمام الأفراد وعدم لحاظه كذلك إلّا فی بعض الأفراد، فلا موضوع للحكم إلّا الأفراد.

وعلیه لابدّ لاستفادة الإطلاق من الكلام أوّلاً: من إثبات كون المتكلّم فی مقام بیان تمام مراده وما هو موضوع حكمه، لا الإهمال والإجمال.

وثانیاً: من انتفاء ما یوجب التعیین والتقیید.

وثالثاً: عدم وجود القدر المتیقّن فی مقام التخاطب حتى یكون نسبة کلّ واحد من

 

الأفراد فی موضوعیّته للحكم على السواء، ولا یكون بعضها فی موضوعیّته للحكم متیقّناً ومقطوعاً عند المخاطب والباقی فی موضوعیته محتملاً.

فلو انتفى المقدّمة الاُولى بأن احتمل كونه فی مقام الإهمال والإجمال لا مجال للتمسّك بالإطلاق.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المقدّمة الثانیة.

وأمّا المقدّمة الثالثة، فانتفاؤها أیضاً موجب لعدم تمامیة الإطلاق؛ لأنّه لو كان موضوعیة بعض الأفراد مقطوعاً ومعلوماً عند المخاطب وكان هذا البعض تمام موضوع حكمه لما أخلّ بغرضه لو لم یأت فی كلامه بما یفید ذلك ولما كان منافیاً لكونه فی مقام البیان؛ لأنّه إنّما یكون فی مقام بیان ما هو تمام الموضوع لحكمه وما هو بالحمل الشائع تمام الموضوع، لا فی مقام بیان أنّه، تمام موضوع حكمه، وهذا إذا كان القدر المتیقّن موجوداً بحسب مقام التخاطب، كأن تكون فی ذهن المخاطب خصوصیات توجب التفاته إلى هذا المتیقّن وقطعه بموضوعیّته للحكم.

وأمّا إذا كان وجود القدر المتیقّن بحسب غیر مقام التخاطب، كما لو تأمّل ولاحظ بعض الجهات علم بتیقّن بعض الأفراد دون غیره، فلیس مـضرّاً بالإطلاق كما لا یخفى.([2])

ولا یخفى علیك: أنّ مورد الشكّ فی الإطلاق والتقیید إنّما یكون فیما إذا لم تكن قرینة دالّة على إرادة المقیّد، فإذن لا نحتاج فی استفادة الإطلاق إلى المقدّمة الثانیة.

كما أنّه یمكن أن یقال: برجوع المقدّمة الثالثة إلى المقدّمة الاُولى؛ فإنّ المخاطب بالنظر الابتدائی وإن یحكم من جهة دوران الأمر بین الأقلّ والأكثر بكون الأقلّ تمام مراده، ولكن بالنظر الثانوی یكون هذا راجعاً إلى المقدّمة الاُولى وهو كونه فی مقام

 

بیان المراد لا الإهمال والإجمال؛ لأنّه لو لم یكن القدر المتیقّن تمام مراده ولم یبیّن لما كان فی مقام البیان. وكیف كان، هذا كلّه بناءً على ما اختاره المحقّق الخراسانی&.

وأمّا بناءً على ما اخترناه من أنّ ملاك الإطلاق كون معنىً من المعانی تمام متعلّق الحكم من دون دخل خصوصیة زائدة فیه، وأنّ الشیاع والـسریان ذاتیّ الماهیّات والمعانی الكلّیة، فلا احتیاج للتمسّك بالإطلاق إلّا إثبات كون المتکلّم فی مقام بیان ما هو تمام الموضوع لحكمه، فلا نحتاج إلى المقدّمة الثانیة، ولا إلى الثالثة أیضاً؛ لعدم تصوّر قدر متیقّن فی البین بعد فرض كون المتکلّم فی مقام بیان تمام متعلّق حكمه الّذی هی الحیثیة والطبیعة الكذائیه لا أفرادها ووجوداتها.

ثم إنّه لا یخفى علیك: أنّه بناءً على ما سلكه المشهور([3]) من لزوم أخذ الشیاع والسریان فی المطلق وعدمه فی المقیّد یلزم أخذ خصوصیة زائدة فی معنى لفظ المطلق، وكذا فی لفظ المقیّد لو قلنا بلزوم ملاحظة شیاع المعنى فی بعض أفراده فی المقیّد ولا نقول بأنّه لم یؤخذ فی معناه ذلك. وعلى هذا، لا یمكن استفادة الإطلاق ـ ولو فرض وجود المقدّمة الاُولى ـ إلّا من دالّ آخر، فإنّ لفظ المطلق لا یكفی لإفادة المعنى ولحاظ الشیاع والسریان فیه أو تقیّده بقید خاصّ، فلابدّ للمتكلّم أن یتوصّل لإفهام مقصوده من دالّ آخر، وإلّا فلفظ «أعتق رقبة» لا یفید ذلك.

وهذا بخلاف ما اخترناه، فإنّه على مبنائنا لا تؤخذ الخصوصیة الزائدة إلّا فی جانب المقیّد، ولذا لو لم یأت المولى إلّا باللفظ المطلق وكان فی مقام البیان یستفاد منه الإطلاق، فتدبّر.

ثم إنّه بعدما ظهر عدم الحاجة إلى المقدّمة الثانیة والثالثة لاستفادة الإطلاق من الكلام، وأنّ تمام الملاك فی استفادة الإطلاق إحراز كون المتكلّم فی مقام البیان، فلا

 

ریب فی أنّ إحراز هذا لیس موكولاً بالسؤال عن المتکلّم، بل الظاهر من أمر الحكیم عبده بحیثیة وعدم إتیانه بلفظ آخر فی كلامه ـ غیر هذا اللفظ الدالّ على هذه الحیثیة ـ أنّه فی مقام بیان تمام موضوعه لا ما هو جزء موضوعه. وهذا ممّا استقرّت علیه طریقة العقلاء، ولذا یحتجّون به. ویكون نظیر أصالة الحقیقة وبناؤهم على عدم كون اللفظ الّذی تکلّم به المتکلّم عبرة لمعنى مجازی.

لا أقول: إنّ التمسّك بالإطلاق فی المقام یكون أیضاً من باب أصالة الحقیقة، بل أقول: إنّ ملاك حمل الكلام على المعنى الحقیقی، وحمل فعل المتکلّم إذا أمر عبده بحیثیة ـ على أنّ ما هو تمام موضوع حكمه لیس إلّا هذه الحیثیة ـ ولم یأت المتکلّم بما یدلّ على دخالة غیر هذه الحیثیة فی موضوعیّتها للحكم، من باب واحد. ألا ترى أنّه إذا صدر من المولى أمر متعلّق بحیثیة مثل «عتق رقبة»، وورد أمر آخر منه متعلّق بهذه الحیثیة مع قید زائد مثل «عتق رقبة مؤمنة» وعلم من الخارج اتّحاد التكلیف، مثل قوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و«إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» یقع التعارض بینهما من جهة ظهور كلّ منهما فی أنّ ما هو تمام الموضوع لیس إلّا الحیثیة المذكورة فی كلام المولى، ولكن یجمع بینهما بحمل المطلق على المقیّد، من جهة أنّ ظهور قوله «إن ظاهرت فاعتق رقبة» على كون تمام موضوع الحكم عتق الرقبة إنّما یكون لأجل عدم ذكر ما یدلّ على دخل خصوصیة زائدة فی موضوع حكمه، وأمّا بعد ذكره ولو فی كلام منفصل، لا یبقى مجال للتمسّك بهذا الظهور، ولا یتمّ احتجاج العبد على المولى بسبب هذا الإطلاق، كما هو دأب العقلاء واستمرّت علیه سیرتهم.

 

([1]) کما استدلّ بها بعض القدماء (قبل سلطان العلماء). راجع: العلّامة الحلّی، نهایة الوصول، ص240؛ شرح العضدی علی مختصر ابن الحاجب، ص286.

([2]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص384. وانظر ما أورده المحقّق النائینی+ علی المقدّمة الثالثة من مقدّماته فی فوائد الاُصول (ج2، ص575 576)؛ وأجود التقریرات (ج1، ص530 531).

([3]) تقدّم مسلکه فی تعریف المطلق والمقیّد فی بدایة البحث.

موضوع: 
نويسنده: