جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

الأمر الأوّل: اُصولیة مبحث القطع

قد ذكر فی أوّل الكتاب عند البحث عن المراد من موضوع العلم ـ الّذی یكون تمام الملاك لامتیاز العلوم بعضها عن بعضٍ ـ، وعن موضوع علم الاُصول ما یظهر منه دخول البحث عن حجّیة القطع ومنجّزیته فی مباحث هذا العلم.

وقد بیّنا هناك أنّ موضوع علم الاُصول هو الحجّة فی الفقه، فكلّ ما كان سبباً لاحتجاج المولى على عبده وحجّةً له علیه لو خالفه وعصاه، أو كان حجّة للعبد عند المولى فیما لو وقع فی مخالفته، یكون البحث عنه داخلاً فی هذا العلم ومن مسائله؛ لأنّ المراد من العوارض الذاتیة الّتی یجب أن یبحث عنها فی العلم لیس ما اصطلح علیه الطبیعیون وقسّموه إلى المقولات التسع وقابلوه بالجوهر، بل المراد منها ـ كما صرّح به شارح المطالع([1]) وغیره، ویظهر من تتبّع مسائل العلوم ـ ما اصطلح علیه المنطقیّون

 

وقسّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ ، وقابلوه بالذاتی المنقسم إلى النوع والجنس والفصل، وهو الخارج المحمول، أی الكلی الخارج عن الشـیء مفهوماً المتّحد معه وجوداً. فعلى هذا، یكون القطع من المسائل الاُصولیة؛ لأنّه حجّة للمولى على العبد لو خالفه. ویكون مغایراً للحجّة فی الفقه مفهوماً ومتّحداً معها وجوداً، فنقول: القطع حجّة. وهكذا الكلام فی الشهرة وخبر الواحد وغیرهما، كما تقول: الشهرة حجّة وخبر الواحد حجّة.

فلا وجه للقول بكون البحث عن القطع أشبه بالمسائل الكلامیة؛([2]) لأنّه لو كانت من جهة أنّ النزاع واقعٌ فی صحّة معاقبة القاطع وحسن عقابه فی صورة المخالفة لیرجع البحث فیه عمّا یصحّ صدوره من الله‏ تعالى وما یمتنع.

ففیه: أنّ المبحوث عنه فی علم الكلام إنّما هو جواز صدور الفعل القبیح وعدمه من الله تعالى، فجوّزه الأشعری لإنكاره الحسن والقبح العقلیین وأنّ الحَسَن ما صدر منه والقبیح ما لم یصدر منه، وأنكره العدلیة، ولا یبحث فی علم الكلام عن مصادیق ذلك وخصوصیاته.

وإن كانت أشبهیته بالمسائل الكلامیة من جهة رجوعه إلى أنّ العمل بالقطع هل یوجب الثواب؟ أو أنّ مخالفته هل توجب العقاب فی الآخرة أو لا؟ لیرجع إلى المباحث المتعلّقة بالمعاد.

ففیه: أنّ المبحوث عنه فی المعاد أیضاً لیس إلّا أصل المعاد والجزاء والثواب والعقاب، ولا یبحث فیه عن فعلیة العذاب بالنسبة إلى المعاصی. ولا مجال للبحث عنه؛ لأنّ فعلیة الجزاء لیست ممّا یمكن الاطّلاع علیها بخصوصیّاتها.

 

إن قلت: كیف یكون القطع من مسائل علم الاُصول مع عدم ذكره فی كتب القدماء؟

قلت: عدم ذكره فی كتب القدماء إنّما هو من جهة عدم انقداح شبهةٍ فی منجّزیة العلم عندهم، وإنّما ذكره المتأخّرون حیث أنكر بعض الأخباریین حجّیته إذا كان مأخوذاً من الأدلّة العقلیة.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر أنّه لا تفاوت فی إطلاق الحجّة على القطع وعلى سائر المنجّزات كالأمارات المعتبرة الشرعیة؛ لأنّ إطلاق الحجّة على کلّ منهما إنّما هو من جهة كونه حجّة وسبباً لتنجّز الحكم الواقعی، ولا فرق فی ذلك بین القطع وغیره.

فلا وجه لأن یقال بأنّ إطلاق الحجّة علیه لیس كإطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعاً؛ لأنّ الحجّة عبارة عن الأوسط الّذی به یحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر كالتغیّر لإثبات حدوث العالم، فقولنا: «الظنّ حجّة» أو «البیّنة حجّة» أو «فتوى المفتی حجّة» یراد به كون هذه الاُمور وسائط لإثبات أحكام متعلّقاتها.([3])

لأنّه یقال: مضافاً إلى أنّ الحجّة فی اصطلاح المنطقیّین عبارة عمّا هو المرکّب من القضیتین.

لو سلّمنا كونها عبارةً عن الوسط الّذی به یحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر اصطلاحاً خاصّاً للاُصولیّین لا تكاد تتمّ به حجّیة الأمارات وصحّة إطلاقها علیها؛ لأنّ إطلاق الحجّة على خبر الواحد أو البیّنة وغیرهما لیس من جهة كونها وسائط لإثبات أحكام متعلقاتها، فإنّ المراد بقولنا: «خبر الواحد حجّة» أو «فتوى المفتی حجّة» لیس كونه حجّةً على الحكم الظاهری الّذی یستفاد من دلیل حجّیته ویقع وسطاً للقیاس فی قولنا: «هذا ما أخبر العادل بوجوبه، وكلّ ما أخبر العادل بوجوبه واجبٌ فهذا

 

واجب» أو «هذا مظنون الوجوب، وكلّ مظنون الوجوب واجبٌ فهذا واجبٌ»، بل المراد كون خبر الواحد أو الظنّ أو غیرهما حجّة على الحكم الشـرعی الواقعی وسبباً لتنجّزه واستحقاق العقوبة على مخالفته لو صادف الواقع، وفی القیاس المذكور جعل ما أخبر به العادل وسطاً لإثبات الحكم الظاهری وهو وجوب کلّ ما أخبر به العدل، فتدبّر.

 

([1])  قطب الدین الرازی، شرح المطالع، ص 18؛ وغیره فی شرح الشمسیة (قطب الدین الرازی، ص23؛ وشرح المنظومة، قسم المنطق (السبزواری، ص29).

([2])  قاله فی الكفایة (الخراسانی، ج2، ص4- 5).

([3])  الأنصاری، فرائد الاُصول، ص2.

موضوع: 
نويسنده: