جمعه: 7/ارد/1403 (الجمعة: 17/شوال/1445)

الامتثال الإجمالی

ثم إنّه حیث ذكر القوم هنا حكم الامتثال الإجمالی وكفایة الاحتیاط، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بیان ما هو الحقّ فی المقام، ولتوضیح المرام نقول:

إعلم: أنّه وإن كان ظاهر بعض الكلمات ربما یوجب توهّم كبرویة النزاع، ولكن لا ریب فی فساده؛ لأنّه لا مجال للقول بعدم كفایة الاحتیاط والامتثال الإجمالی، فإنّ الاحتیاط عبارة عن الإتیان بالمأمور به بجمیع ما احتمل دخله فیه جزءاً وشرطاً من غیر إخلال بشـیء منه، بحیث یعلم مع الإتیان به بإتیان ما هو المطلوب للمولى وعدم الإخلال بشیء ممّا اعتبر واُخذ فیه شرطاً أو شطراً، وكفایته غیر قابلة للنزاع.

فمحلّ النزاع والكلام إنّما هو فی الصغرى وإمكان الاحتیاط وعدمه فی موارد:

أحدها: فیما إذا علم دخل شیء فی المأمور به شرطاً أو شطراً، وشكّ فی أنّ دخله فیه هل هو على نحو الوجوب أو الاستحباب؟ فاختلفوا فی تحقّق الاحتیاط مع الإتیان بالجزء المشكوك فی وجوبه واستحبابه من جهة الإخلال بقصد الوجه الّذی احتمل دخله فیه.

ثانیها: إذا احتمل كون شیءٍ متعلّقاً للأمر رأساً، فهل الإتیان به بداعی الأمر المحتمل یكفی فی الاحتیاط أو لا؟

ثالثها: فیما إذا علم بتعلّق الأمر بفعل ولكن تردّد متعلّقه بین الأقلّ والأكثر، مع عدم كون الأكثر مانعاً، وإن لم تكن مطلوبیته معلومة.

وحال الجزء المشكوك فی جزئیّته فی هذا الفرض حال أصل المأمور به فی الفرض الثانی، إلّا أنّه یؤتی به فی هذا الفرض بداعی الأمر الضمنیّ الّذی احتمل تعلّقه به فی ضمن الأمر بالكلّ.

رابعها: أن یدور الأمر بین المتباینین، كما لو كان عالماً بالأمر ولكن شكّ فی أنّ

 

متعلّقه القصر أو التمام، فهل الإتیان بهما بداعی الأمر المتعلّق بأحدهما المعیّن واقعاً یكفی فی حصول الامتثال؟ مع أنّ حاله حین الإتیان بكلّ منهما یكون حال من كان شاكّاً فی أصل تعلّق الأمر بأمر معین معلوم خارجاً، لأنّه لا یعلم كون هذا مأموراً به أم لا، وإن علم بعد الإتیان بهما بالإتیان بالمأمور به.

خامسها: فیما إذا شكّ فی الجزء المأمور به بالأمر الضمنیّ مع دوران أمره بین المتباینین، كالجهر والإخفات. وهذا نظیر القسم الرابع إلّا أنّ داعی الإتیان فی هذا القسم ـ بكلّ من الجزءین ـ هو الأمر الضمنی الّذی تعلّق بأحدهما بخلاف القسم الرابع، فإنّ داعیه هو الأمر النفسی.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا فی القسم الأوّل فلا إشكال فی صحّة الاكتفاء بالاحتیاط والامتثال الإجمالی ولو قلنا باعتبار قصد الوجه فی المأمور به. ووجهه یظهر ممّا ذكرناه فی مبحث الصحیح والأعمّ من أنّ الصلاة عنوانٌ عرضیٌ مقولٌ بالتشكیك ذو مراتب ودرجاتٍ مختلفة فی الشدّة والضعف والنقص والكمال، یصدق على مصادیقها المختلفة فی الكمال والتمامیة، فالفرد الّذی یتحقّق فی ضمن تحقّق الأجزاء الواجبة والمستحبّة فردٌ لها ومعنون لهذا العنوان العرضی، كما أنّ الفرد الخالی من الأجزاء المستحبّة مصداق لها أیضاً، ففی کلّ واحد من المصادیق تكون حقیقتها محفوظة. فعلى هذا، یكون ما هو مصداق الصلاة برتبتها الكاملة الشدیدة بتمام أجزائه مأموراً به، وكلّ جزء من أجزائه یكون واقعاً تحت الأمر بالكلّ ومتعلّقاً للأمر الضمنی الّذی تعلّق به من جهة الأمر بالكلّ، من غیر فرق بین الأجزاء الواجبة والمستحبّة.

كما أنّ ما هو مصداقها بغیر هذه المرتبة مع فقده لجمیع الأجزاء المستحبّة یكون معنوناً بعنوان الصلاة، ویكون کلّ جزءٍ منه مأموراً به بالأمر الضمنی، وإن كان انطباق هذا العنوان على ما هو جامع لجمیع الأجزاء المستحبّة والواجبة أولى من غیره.

 

فبناءً على ذلك لا مانع من قصد وجوب الكلّ من جهة كونه مصداقاً للصلاة، وقصد وجوب أجزائه بالوجوب الضمنیّ، ولو لا ذلك لما أمكن تصور معنى صحیحٍ لاستحباب الأجزاء المستحبّة.

وبالجملة: لیس معنى استحباب شیء فی الصلاة إلّا أنّ المکلّف لو أتى بها فی ضمن فردٍ فاقد للجزء المستحبّ غیر صادق علیه الصلاة بمرتبتها الكاملة كان مجزیاً عنها مع كونه فاقداً لهذا الشیء المستحبّ، ولم یكن لأجل فقدانه هذا الجزء مصداقاً للصلاة بمرتبتها الكاملة. ولو أتى بها فی ضمن فرد كان واجداً للجزء المستحبّ انطبق علیه الصلاة بالمرتبة الكاملة.

وأمّا ما أفاد بعض من عاصرناه ـ من الأعاظم فی مجلس ساعدنا التوفیق على الالتقاء به ـ فی تصویر الأجزاء المستحبّة من أنّ للصلاة ماهیتین إحداهما: المرکّبة من الأجزاء الواجبة وهی: الصلاة الواجبة المشتملة على التكبیر والركوع والسجود وغیرها من الأجزاء الواجبة. وثانیتها: المرکّبة منها ومن الأجزاء المستحبّة، وهی: الصلاة المستحبّة المتضمّنة للصلوات الواجبة.

ففیه: ما أوردنا علیه فی المجلس المذكور بأنّ الصلاة لو كانت ماهیّة صادقة على جمیع الأجزاء والشرائط الواجبة، فالأجزاء المستحبّة لیست منها لا محالة. وإن كانت مركّبة من الأجزاء المستحبّة والواجبة، فلازمه تعلّق الأمر بما هو المرکّب من الأجزاء والشرائط الواجبة والمستحبّة وهو منافٍ لاستحباب الأجزاء المستحبّة.

هذا کلّه فی إمكان الاحتیاط فی القسم الأوّل. وأمّا غیره من الأقسام وما یمكن أن یقال بكونه مناطاً لعدم إمكان الاحتیاط فیه غیر ما یقال بكونه مناطاً فی القسم الأوّل، وهو لزوم الإخلال بقصد الوجه، لإمكان تحقّق قصد الوجه فی هذه الأقسام وصفاً وغایةً، فلو دار الأمر بین المتباینین یحصل قصد الوجه إذا أتى بهما بقصد الصلاة

 

الواجبة علیه من بینهما، أو بقصد الصلاة المردّدة بینهما لوجوبها. فإنّ قصد الوجه لیس إلّا قصد المأمور به من حیث وجوبه واستحبابه، فلا مانع من تحقّقه فیما نحن فیه، لإمكان قصد الوجه بعد معلومیة وجوب الصلاة المردّدة بینهما أو استحبابها.

فما یمكن أن یقال بكونه مناطاً لعدم تمشّی الاحتیاط لیس إلّا الإخلال بقصد القربة لا قصد الوجه، لما ذكرنا. ولا قصد التعیین والتمییز؛ لأنّ المراد من دخل قصد التمییز إن كان توقف تعیین بعض الأفعال وتمیّزها عن الآخر بالقصد لكونه من العناوین القصدیة الّتی لا تتحقّق إلّا به، كالتعظیم والظهریة والعصریة وغیرها، فلا ربط له بما نحن فیه؛ لأنّ المأمور به إذا كان من هذا القبیل لا یتحقّق إلّا إذا أتى به مع القصد، ولا ینطبق علیه إلّا إذا أتى به كذلك.

وإن كان المراد أنّ قصد التعیین موجب لتعیّن المأمور به وتمیّزه عن غیره، فمن الواضح أنّ تمیّزه وتعیّنه لا یتوقّف على قصد التعیین؛ لأنّه بنفسه متعیّن ومتمیّز عن غیره. ولا دخل لمعلومیة كون الواجب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر فی تمیّزه، لأنّه متمیّز عن غیره علم المکلّف به أم لم یعلم.

اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّ المراد من اعتبار قصد التمییز هو أنّ عدم معلومیة المأمور به ولو بكونه مردّداً بین المتباینین موجب للإخلال بقصد القربة، فإنّه لا یتحقّق إلّا إذا أتى بالفعل بداعی أمره المعلوم تعلّقه به، لا ما إذا أتى به بداعی الأمر الّذی تردّد متعلّقه بین الفعلین.

فعلى هذا، تمام الإشكال فی غیر القسم الأوّل من الأقسام راجع إلى لزوم الإخلال بقصد القربة وعدم كفایة قصد التقرّب بما هو المطلوب من بینهما فی تحقّق الامتثال والاحتیاط.

ولا فرق فی ذلك بین القول باعتبار قصد الوجه وعدمه.

فعلى القول باعتباره یشكل فی كفایة الإتیان بالواجب المعیّن المردّد ظاهراً بین شیئین

 

بداعی التقرّب إلى الله تعالى فی تحقّق الاحتیاط، لعدم كفایة ذلك مع عدم قصد التقرّب بما هو مأمور به بالخصوص حین الإتیان به.

وعلى القول بعدم اعتباره یشكل كفایة الإتیان بما علم مطلوبیته إجمالاً ـ إمّا بنحو الوجوب أو الاستحباب ـ فی تحقّق الاحتیاط إذا أتى به بداعی الأمر المردّد متعلّقه بین المتباینین.

وكیف كان، فالّذی ینبغی أن یقال فی دفع هذا الإشكال هو: أنّ الفاعل إذا أتى بالفعل بداعی المحبوبیة أو امتثال الأمر بحیث كان محرّكه إلى الفعل تحصیل التقرّب إلیه، لا مجال للقول بعدم كفایة ذلك فی الامتثال وحصول التقرّب. ولا نعنی بالتقرّب والتعبّد إلّا أن یكون داعیه نحو العمل أمر المولى أو محبوبیة الفعل أو غیرهما من الوجوه الّتی یمكن أن یقال بكفایته لتحقّق التقرّب، ولذا لو أتى بأحد المشتبهین بهذا الداعی وتبیّن قبل الإتیان بالآخر كونه هو المأمور به، یكتفی به ولا یلزم الإتیان بالآخر.

ولا فرق فیما ذكر بین القول بتوصّلیة المأمور به وتعبّدیته تمسّكاً بالأصل اللفظی؛ لأنّ الأمر إنّما صدر لیكون داعیاً نحو المتعلّق، أو بالأصل العملی وهو الاشتغال لوقوع الشكّ فی كفایة الإتیان بالمتعلّق فی حصول الغرض.

ووجه عدم الفرق هو أنّ کلامنا فی المقام فیما تثبت عبادیّته، وقد ظهر لك إمكان الاحتیاط فی الموارد الّتی ذكرناها من غیر إخلال بقصد القربة.

إن قلت: نعم، لا مانع من تحقّق قصد القربة مع الامتثال الإجمالی، ولكن من الممكن أن تكون معلومیة الواجب فی الخارج وعدم اشتباهه معتبرة فی المأمور به.

قلت: لا وقع لهذا الاحتمال مع عدم وجود أثر له فی الأخبار؛ لأنّ اعتباره كذلك مع عدم ذكره إخلال بالغرض، فمقتضى البراءة نفی اعتبار ذلك فیه، وإن لم یمكن نفیه بسبب التمسّك بإطلاق المتعلّق، لأنّ العلم بالمأمور به متأخّر عن الأمر، فلا یمكن أخذه فی متعلّقه.

 

إن قلت: إنّ الإجماع قائم على عدم  جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالی مع إمكان الامتثال التفصیلی.([1])

قلت: إنّ دعوى قیام الإجماع فی مثل هذه المسألة ـ الّتی لم یبحث عنها فی كتب القدماء بل ذكرها المتأخّرون فی كتبهم، والظاهر أنّ أوّل من تكلّم فیها صاحب «الإشارات»([2]) ـ مجازفة جداً.

ولو اُرید منه بناء المتشـرّعة على الامتثال التفصیلی وجریان سیرتهم علیه دون الامتثال الإجمالیّ.

فلیس ذلك من جهة عدم صحّة الاكتفاء به ولا كاشفاً عنه، بل استقرار سیرتهم علیه إنّما هو لموافقته للطبع والعادة، لأنّ فی الامتثال الإجمالی کلفة لیست هی فی التفصیلی.

إن قلت: نعم، لا مانع من الاكتفاء بالامتثال الإجمالی إذا لم یستلزم التكرار، وأمّا إذا استلزم التكرار فلا یجوز الاكتفاء به، لكونه لعباً بأمر المولى.([3])

قلت: لا اعتناء بهذا الإشكال؛ لأنّ عدم كونه لعبا بأمر المولى ـ ولو استلزم التكرار ـ بمكان من الوضوح.

ثم لا یخفى علیك: أنّه كما لا مانع من حصول التقرّب إذا كان المأمور به مردّداً بین شیئین بإتیان کلّ منهما بداعی الأمر الّذی تعلّق بأحدهما المعین المردّد فی الظاهر وتحقّق الاحتیاط فیه، لا مانع أیضاً من حصوله لو أتى بهما بداعی امتثال الأمر الّذی احتمل تعلّقه بأحدهما.([4])

 

هذا کلّه فی كفایة الامتثال الإجمالی والموافقة الإجمالیة مع التمكن من الموافقة التفصیلیة. وأمّا كفایته فی صورة تعذّر الامتثال التفصیلی وإمكان الامتثال الظنّی، سواء كان بالظنّ المعتبر أم لا، فلا ریب فیه.

هذا تمام الكلام فی القطع، وسیأتی الكلام فی غیره من المباحث إن شاء الله تعالى.

وفّقنا الله تعالى لطاعته وطاعة رسوله وأولیائه صلواته علیهم، وغفرلنا ولوالدینا ولأساتیذنا جمیعاً بحقّ محمد وآله الطاهرین. اللّهمّ صحّح بلطفك نیّاتنا، واستصلح بقدرتك ما فسد منّا، وارزقنا عافیة الدنیا والآخرة، وصلّ على محمد وعترته الطاهرة یا أرحم الراحمین.

 

 

([1]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص15.

([2]) وهو الحاج محمد إبراهیم بن محمد حسن الكافی الأصفهانی الكلباسی، صاحب «إشارات الاُصول».

([3]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص15.

([4]) یمكن أن یقال بعدم تحقّق الاحتیاط لو قلنا باعتبار قصد الوجه فی صورة احتمال الأمر إذا لم یعلم أنّ مطلوبیته تكون على نحو الوجوب أو الاستحباب لإخلاله حینئذٍ بقصد الوجه، فتأمل. [منه دام ظله العالى].

موضوع: 
نويسنده: