جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الأمر الثانی: أقسام الألفاظ الموضوعة

قد مرّ منّا عند البحث فی وضع الألفاظ أنّها على قسمین([1])، أحدهما: ما وضع لأن یستعمل فی إیجاد المعنى، والآخر: ما وضع لأن یستعمل فی حكایته وإفهامه.

والأوّل منهما، أی الألفاظ الموضوعة لإیجاد المعنى، على نحوین: لأنّه إمّا أن یكون اللفظ فانیاً ومندكّاً فی المعنى والمعنى مندكّاً فی معنى تصوّری آخر، كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات؛ فإنّ أسماء الإشارة وضعت لإیجاد حقیقة الإشارة مندكّةً فی المشار إلیه. فهاهنا اندكاكان أحدهما: اندكاك «هذا» وغیره فی حقیقة الإشارة الّتی

 

یستعمل اللفظ لإیجادها، والثانی: اندكاك المعنى، أی حقّیقة الإشارة فی المشار إلیه. ولابدّ فی المبهمات ـ فی تعیّنها خارجاً ـ من معیّن، وما به تتعیّن الإشارة هو: وجود المشار إلیه، والإشارة إلیه إمّا أن تكون بالامتداد الاعتباری كما فی «هذا» وإمّا أن تكون بتقدّم الذكر كما فی بعض الضمائر، وإمّا أن تكون بالحضور والمخاطبة، كما فی بعضها الآخر، وتارة: تكون بالمعهودیة كقولنا: «جاء الّذی ضربناه».

وحیث إنّ الألفاظ المذكورة تكون مندكّةً فی معانیها المتصوّرة مستقلّةً، فإذا كانت معهودیة فی البین فهی الجهة المعیّنة. ولو لم تكن جهةٌ معیّنةٌ فی البین، فلابدّ من القول بالتعمیم لیحصل بذلك التعیّن فی جمیع أفراده، كقوله|: «رفع عن أُمّتی تسعة، ومنها ما لا یعلمون».([2])

وإمّا أن لا یكون اللفظ كذلك أی لیس له هذا الفناء والاندكاك، وهو ما وضع لإیجاد المعانی الاعتباریة، كقولنا: «بعت» و«أنكحت» و«أعتقت» و«إضرب» لإنشاء البیع والنكاح والعتق وطلب الضرب وغیرها من المعانی الّتی لیس لها ما بحذاء فی الخارج وإنّما تنتزع من جعل الجاعل وإنشائه. ومثل الحروف الّتی وضعت لأن یشار بها إلى ربط بین المرتبطین مندكّةً فیهما، كما فی مثل: «سرت من البصـرة إلى الكوفة»، فكلمة «من» تكون موضوعة لمعنى لا نفسیة له. والاستقلال والنفسیة إنّما یكون للمرتبطین بسبب تصوّر السیر مستقلّا متخصّصاً بخصوصیة كون أوّله من البصـرة وآخره الكوفة، وتصوّر زید متخصّصاً بخصوصیة صدور السیر الكذائی منه.

ولیس بحذاء «من» ـ منفرداً ـ شیءٌ، وإنّما یحصل منه المعنى حین التركّب. ولذا لو

 

قال قائل: السیر، الصدور، زید، الابتداء، البصرة، الانتهاء، الكوفة، یتصوّر من کلّ منها معنى بعضها جوهر وبعضها عرض وبعضها ارتباطات بالحمل الذاتی، من غیر أن یفهم ارتباط بعضها مع بعض بنحو من أنحاء الارتباط. وأمّا لو قیل: «سار زید من البصرة إلى الكوفة» فیفهم منه وجود سیر مرتبط بزید بسبب صدوره منه، وبالبصـرة والكوفة بابتدائه من البصرة وانتهائه إلى الكوفة. ففی الأوّل لا یفهم من الكلمات المذكورة إلّا تصوّر معانٍ منفردة، بخلاف الثانی.

والحاصل: أنّ کلّمة «من» وغیرها من الحروف وضعت لإفادة حقیقة الارتباط، كالابتداء وما هو بالحمل الشائع ابتداءٌ، لا مفهوم الابتداء وما هو الابتداء بالحمل الذاتی. وبعبارة اُخرى: وضعت لإفادة ارتباط شیءٍ بشـیءٍ آخر وكونهما مرتبطین بالحمل الشائع، فلا تکون فی الخارج ولا فی الذهن إلّا بأن یكون الارتباط مندكّاً فیهما موجوداً بعین وجودهما. وهذا لا یمكن إلّا بأن یكون اللفظ موضوعاً لأن یجعل فی الكلام بجنب اللفظین الدالّین على طرفی الارتباط، لا لأن یتصوّر بحذائه ذلك الارتباط حتى یخرج عن كونه ارتباطاً حقیقیاً وینتقض الغرض، بل لأن یفهم بسببه ما یفهم من اللفظین من المعنى متخصّصین بخصوصیة تكون منشأً لانتزاع ذلك الارتباط منهما إذا نظر العقل إلیهما بنظر آخر غیر هذا النظر الّذی یكون الارتباط بحسبه ارتباطاً بالحمل الشائع ومندكّاً فی الطرفین.

والثانی: على قسمین:

قسمٌ: وضع لإفهام المعانی إفهاماً تصوّریاً، كالألفاظ المفردة، مثل: زید، وعمرو، وبكر، وأمثال ذلك من الألفاظ الّتی تدلّ على معانیها عند العالم بها ولو سمع من مجنون أو نائم وغیرهما. وممّا وضع لإفادة المعانی التصورّیة: أسماء المبهمات كالموصولات، وأسماء الإشارة.

 

وقسم: وضع لإفهام المعانی التصدیقیة، والمراد بها المعانی الارتباطیة الّتی هی النسب. والمراد من المعنى الارتباطیّ الّذی یدلّ علیه اللفظ كون المعنى بحیث لا یكون له ما بحذاء لا فی الخارج ولا فی الذهن بل نفس الارتباط الّذی یكون بالحمل الشائع ارتباطاً، لا ما یكون بالحمل الأوّلی الذاتی ارتباطاً، وهذا كالمعانی الحرفیة.

 

([1]) تقدّم فی المجلّد الأوّل.

([2]) الصدوق، التوحید، ص353، باب 56، ح24؛ الصدوق، الخصال، ص 417، ح9، باب التسعة؛ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج1، ص36، باب14، ح4، فیمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فیه؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب جهاد النفس، ج15، ص369، ب 56، ح1.

موضوع: 
نويسنده: