جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

تنبیهات دلیل الانسداد

وهنا ینبغی التنبیه على اُمور:

التنبیه الأوّل: هل مقتضـى التقریر الثانی لدلیل الانسداد حجّیة الظنّ من باب الكشف ومقام إحراز التكلیف أو الحكومة ومقام الامتثال.

یمكن أن یقال: إن كان المراد من الكشف أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة تأسیساً لإحراز الواقع، فلیس لازم هذا البیان حجّیته كذلك.

وإن كان المراد أنّه بعد بقاء فعلیة الأحكام وعدم اختصاص فعلیتها بصورة قیام الطریق القطعی على الحكم ووجوب الإفتاء والقضاء ورفع المخاصمات وإجراء السیاسات، یقطع العقل بحجّیة الظنّ وإمضاء حجیته للكشف عن الواقع من طرف الشارع من الصدر الأوّل. لا یقال: إنّ الانسداد فی الأعصار المتأخّرة لا یلازم الانسداد فی عصـر الحضور والصدر الأول.

فإنّه یقال: لا فرق فی الانسداد بین الأزمنتین، لو لم نقل بأنّ الوصول إلى الأحكام فی زماننا أسهل من الأزمنة الماضیة.

ثم إنّه لا یأتی على البیان الثانی فی ردّ القول بالكشف ما أفاده الشیخ+ فی ضمن بیان المقدّمات الّتی ذكرها لدلیل الانسداد:([1]) أنّ وجوب الامتثال وكیفیّته لیس أمره بید

 

الشارع بل العقل حاكمٌ بوجوب امتثال أوامر المولى على العبد، وتقدّم الإطاعة القطعیة التفصیلیة على الإجمالیة وهی على الظنّیة التفصیلیة وإن كان یحتمل عدم تقدّمها علیها وكونها فی عرضٍ واحدٍ، أو تقدّم هذه علیها وهما على الإطاعة الاحتمالیة.

والمتراءى منه فی ضمن کلماته كون نتیجة دلیل الانسداد الحكومة لا الكشف.

وأفاد لبطلان كون النتیجة هی الكشف وجوهاً ثلاثة،([2]) نشیر إلیها فی التنبیه الثالث.

والغرض هنا أنّ ما ذكره من كون العقل حاكماً بوجوب إطاعة المولى، لا ریب فیه؛ فإنّه لیس للإطاعة نفسیّةٌ واستقلالٌ حتى تكون موضوعاً للوجوب، فإنّها أمرٌ منتسبٌ إلى أمر المولى أو نهیه، وعبارةٌ عن إتیان الفعل بداعی أمر المولى، ومعه كیف یمكن الأمر بها لیصیر ذلك الأمر داعیاً للمكلّف، فیكون صیرورة هذا الأمر داعیاً له معدماً لموضوع الإطاعة الّتی هی موضوع لذلك الأمر الثانوی. وأیضاً یحتاج فی إثبات وجوب إطاعة الأمر الثانی إلى أمرٍ آخر بإطاعة هذا الأمر إلى أن یتسلسل، فیلزم أن یكون العاصی بترك الصلاة مثلاً مرتكباً لمعاصی كثیرةٍ.

والحاصل: أنّه لا معنى للأمر بالإطاعة مولویاً. نعم، لا مانع منه إرشاداً كقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَطیِعُوا الله﴾.([3]) ومن هنا یظهر بطلان القول بكلّیة قاعدة الملازمة وهی: «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع».

فعلى هذا، لیس الحاكم بلزوم الامتثال إلّا العقل، ولیس للشرع دخلٌ فی ذلك. وإذا كان هو الحاكم بأصل لزوم الامتثال وقبح ترك إطاعة أمر المولى، فهو الحاكم أیضاً فی كیفیّة الامتثال ومراتبه.

ولكن أنت خبیرٌ بأنّ هذا البیان ـ وإن یقال قبال تقریر دلیل الانسداد على ما ذكره

 

المتأخّرون والقول بأنّ نتیجته الكشف ـ لا یجیء على الوجه الصحیح ـ الّذی قرّرناه فی بیان دلیل الانسداد ـ فإنّا قد قلنا بأنّ الأحكام الشـرعیة إمّا أن تكون فعلیةً مطلقاً بمعنى: أنّ الشارع أراد ترتب منافعها علیها، وكونها مرجعاً للمكلفین فی جمیع اُمورهم، وملاكاً ومیزاناً لدفع الاختلافات والمخاصمات، ووصول کلّ ذی حقّ إلى حقّه، ومبنى لحفظ النظام، وغیرها من الفوائد الدنیویة والاُخرویة مطلقاً، أی ولو لم یكن إلیها طریقٌ. وإمّا أن یقال بفعلیّتها مع وجود الطریق إلیها. ولا سبیل إلى الأوّل.

وعلى الثانی: فإمّا نقول بأنّ الشارع أراد انتفاع المکلّفین بهذه الأحكام إذا قام إلیها طریقٌ قطعیٌ وثبت بالعلم والقطع، أم لا.

فعلى الأوّل، یلزم حرمانهم عن فوائد جلّ الأحكام وتفویت منافعها، ومن المقطوع أنّه لا یرید ذلك، فیدور الأمر بین أن یكون المرجع هو الطرق الظنّیة المتعارفة، أو الرجوع إلى العقل، ولا ریب فی تعیّن الأوّل. فإنّ الرجوع إلى العقل وكونه ملاكاً فی استنباط الأحكام بالخرص والتخمین والاستحسان أمرٌ مرغوبٌ عنه وقبیحٌ شرعاً وعقلاً، قال الله تعالى: ﴿وَإنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِی الْأرْضِ یُضِلُّوكَ عَنْ سَبیلِ الله إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإنْ هُمْ إلَّا یَخْرُصُونَ﴾.([4])

فلا مجال لتطرّق الاستحسانات والتخمینات العقلیة فی استنباط الأحكام الإلهیة، فإنّ العقل قاصر عن الإحاطة بجمیع المصالح والمفاسد، وإدراك تمام ملاكات الأحكام ومناطاتها. ألا ترى أنّ العالم الخبیر فی کلّ فنٍّ یرى إحالة إدراك بعض المطالب العالیة الغامضة إلى الجاهل غیر المطّلع على هذا الفنّ قبیحاً، ویرى حكومته وإظهار رأیه رجماً بالغیب والخرص والتخمین. فكیف إذا كان ذلك الأحكام الإلهیة

 

الصادرة من منبع الوحی الكافلة لجمیع مصالح البشر، وما لعقل الإنسان من الشأن والقدر حتى یكون له شأنیة الردّ والقبول فی ذلك. ولو كانت له هذه الأهلیة فلا حاجة إلى بعث الأنبیاء بالشرائع والأحكام.

فعلى هذا، لیس مفاد دلیل الانسداد أزید من حجّیة الطرق الظنّیة المتعارفة وإمضائها من قبل الشارع. ولیس مرادهم من الاستدلال به إثبات مطلق الظنّ بحیث یكون واجباً على کلّ من یتصدّى للاستنباط والاجتهاد المراجعة إلى قلبه، فإن وجد منه الظنّ إلى طرفٍ دون آخر یأخذ بالطرف الراجح فی نظره.

ومن هنا یظهر: أنّ إخراج الظنّ القیاسی من تحت دلیل الانسداد لیس محتاجاً إلى تجشّم الاستدلال؛ فإنّه خارج من الأوّل، لعدم كون المرجع العقل حتى تكون حجّیة الظنّ القیاسی داخلة، ولعدم كونه من الطرق الظنّیة المتعارفة، وإنّما استند إلیه العامّة لمكان قلّة الروایات المرویّة عن النبیّ| فی الأحكام من طرقهم ـ فإنّها لا تزید عن أربعمائة حدیث ـ وتركهم التمسّك بقول العترة الّتی اُمروا بالتمسّك بها، فألجأهم ذلك إلى العمل بالقیاس وهو: استفادة حكم ما لا روایة فیه عن النبیّ| عن حكم أشباهه ونظائره ممّا ثبت حكمه عندهم بروایةٍ. وحیث إنّ ذلك أیضاً لا یفی باستنباط جمیع الأحكام الراجعة إلى أبواب الفقه أضافوا على العمل بالقیاس العمل بالاستحسان فیما لیس له شبیه ولا نظیر فی الروایات. وحیث إنّ العمل بالقیاس لیس من الاستحسان المحض ورفع الید عن النقل بالمرّة بزعمهم كان العامل بالقیاس بینهم أكثر من العاملین بالاستحسان وإن كان لا فرق بینهما فی البطلان لما ذكرنا من أنّ ذلك لیس من شأن العقل، وعدم اطّلاعنا على ملاكات الأحكام الشـرعیة والمصالح والمفاسد بحسب الموارد المختلفة الّتی لا یعلمها كما ینبغی إلّا الله‏ علّام الغیوب. فافهم واغتنم ما فی هذا التنبیه.

 

 

([1]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص139.

([2]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص140.

([3]) آل عمران، 32، 132؛ النساء، 59؛ وآیات اُخرى.

([4]) الأنعام، 116.

موضوع: 
نويسنده: