جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

تحریر محلّ النزاع

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تحریر محلّ النزاع یمكن على أنحاء:

أحدها: أنّ الاحتمال هل یكون منجّزاً أو لا؟ بمعنى أنّ احتمال التكلیف هل یكون موجباً لتنجّز التكلیف المحتمل لو كان فی البین، فیصحّ للمولى عقاب العبد لو لم یأت بمحتمل الوجوب أو أتى بمحتمل الحرمة ویعدّ خارجاً عن رسوم العبودیة وطاغیاً على المولى أو لا؟

ثانیها: أنّه هل أوجب الشارع الاحتیاط الطریقی فی موارد الشكّ فی التكلیف أو لا؟

والفرق بین هذا الوجه والوجه الأوّل: أنّ النزاع فی الأوّل یكون كبرویاً بأنّ الشكّ فی التكلیف هل یكون منجّزاً له أو لا؟ وفی الثانی یكون صغرویاً وهو أنّ الشارع هل أوجب الاحتیاط الطریقی فی مورد احتمال التكلیف أو لا؟ بعد اتّفاق الطرفین على تنجّز التكلیف مع وجوب الاحتیاط الطریقی.

ثالثها: أنّ التكلیف هل یكون مع الشكّ فیه منجّزاً، إمّا لكون الاحتمال منجّزاً، أو لجعل الشارع الاحتیاط الطریقی أو لا؟

والوجه الأوّل هو محلّ نزاع القدماء فی أصالة البراءة ومورد لجریانها عندهم، وقد یعبّر عنها فی کلمـاتهم بحكم العقل أو استصحاب حال العقل.

ومرادهم من استصحاب حال العقل: أنّ العقل قبل بعث النبیّ| بالشـرع مستقلٌّ بعدم كون الاحتمال منجّزاً وعدم تنجّز التكلیف به، فبعده أیضاً حاله حال ما قبل الشـرع، فیستصحب حاله قبل الشرع إلى ما بعده.

وأمّا الوجه الثانی، فقد حدث الاختلاف فیه بین المتأخّرین من الأخباریّین فی الشبهة التحریمیة، لما زعموا من دلالة بعض الأخبار على وجوب الاحتیاط فی الشبهات التحریمیة دون غیرها.

 

ولا یخفى علیك: أنّه بناءً على الوجه الأوّل ـ فی تحریر محلّ النزاع ـ لا مجال للاستدلال بالأخبار، والدلیل علیه منحـصرٌ فی حكم العقل واستقلاله له بقبح مؤاخذة المولى عبده بالمخالفة المترتّبة على عدم الاعتناء باحتمال التكلیف.

وأمّا ما فی ألسنتهم فی مقام الاستدلال على البراءة من قبح العقاب بلا بیان، فهو عین المدّعى، إلّا أن یراد منه استقلال العقل بذلك.

وبناءً على الوجه الثانی لا مجال للاستدلال بالدلیل العقلی، بل الدلیل على عدم إیجاب الاحتیاط لیس إلّا الأخبار.

وأمّا على الوجه الثالث فیجب اختصاص الدلیل العقلی لإثبات عدم كون الاحتمال منجّزاً للتكلیف، والأدلّة النقلیة لإثبات عدم وجوب الاحتیاط. فما استقرّ علیه مشـیالمتأخّرین كالشیخ والمحقّق الاُستاذ فی الكفایة من ذكر الأدلّة الأربعة دلیلاً على البراءة على حدّ سواء؛ لیس فی محلّه، كما لا یخفى.

ثم إنّه لا یخفى علیك: أنّ ما ذكره المحقّق الاُستاذ فی عبارته المذكورة الّتی صدرت تحریراً لمحلّ النزاع فی أصل البراءة وهو قوله: «ولم تنهض حجّة علیه جاز شرعاً وعقلاً... إلخ».

لا یستقیم بحسب الظاهر، فإنّ الحجّة عبارة عمّا ینجّز التكلیف ویوجب استحقاق العقاب على مخالفة التكلیف الواقعی، وعلیه فمعنى هذه العبارة أنّه لو شكّ فی وجوب شیء أو حرمته ولم ینجّز ذلك التكلیف المحتمل ولم یقم علیه ما یوجب استحقاق العقاب على مخالفته، لم یكن ذلك التكلیف منجّزاً ولیس العبد فی مخالفته مستحقّاً للعقاب. وهذا لیس أمراً یتنازع فیه، لضرورته وعدم تطرّق احتمال الخلاف فیه؛ فإنّ التكلیف إذا لم یكن منجّزاً لم یكن منجّزاً.

فعلى هذا، لابدّ أن یكون غرضه من هذه العبارة: أنّه لو شكّ فی تكلیف إلزامیّ ولم

 

یقم على أحد طرفیه دلیل، جاز عدم الاعتناء بهذا الاحتمال، ولا یكون مجرّد الاحتمال منجّزاً للتكلیف الواقعی.

لا یقال: إنّ مجرّد الاحتمال والشكّ لا یمكن أن یكون منجّزاً للتكلیف، ولا أظنّ أحداً یلتزم به حتى یقع ذلك محلّا للنزاع.

فإنّه یقال: إنّ هذا وإن كان یوجد فی کلمـات بعضهم ولكن لا أصل له، لإمكان كون الاحتمال منجّزاً، بل هو واقعٌ فی بعض الموارد كاحتمال صدق مدّعی النبوّة، فإنّه منجّزٌ وموجبٌ لاستحقاق العقاب على عدم الاعتناء بالتحقیق والتفحّص وتحصیل المعرفة لو اتّفق كون من یدّعی النبوّة صادقاً (دون من لا یحتمل ذلك أصلاً كالمسلم المعتقد بخاتمیة دین الإسلام وأنّ محمّداً| خاتم النبیّین). ومثل احتمال وجود التكالیف فی الشـریعة، فإنّه بنفسه ملزمٌ للفحص ومنجّزٌ للتكالیف الواقعیة. نعم، لیس فی الشكّ جهة كشف عن الواقع كالظنّ فلا یصحّ جعله حجّة بملاحظة جهة كشفه كالظن فإنّه ترجیح بلا مرجح.

وإذا قد عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الكلام یقع تارةً فی أصل البراءة على الوجه الأوّل ـ الّذی ذكر فی تحریر محلّ النزاع ـ فنقول: إنّ الوجدان أعظم شاهدٍ على أنّ العبد إذا احتمل توجّه تكلیفٍ إلیه من جانب المولى وتفحّص عنه ولم یجده لم یستحقّ فی مخالفة هذا التكلیف ـ بعد الفحص عنه وعدم الظفر به ـ العقاب، ولیس للمولى توبیخه لمخالفته هذه، ولا یعدّ عند العقلاء خارجاً عن رسوم العبودیة وطاغیاً على المولى، فلیس هذا الاحتمال منجّزاً لذلك التكلیف بعد الفحص وعدم الظفر به.

ولا فرق فی ذلك بین كون عدم ظفره بهذا التكلیف لعدم بیان المولى رأساً، أو لعدم وصول البیان إلى العبد. فإنّ العقل لا یرى تفاوتاً بینهما فی حكمه بعدم تنجّز هذا التكلیف، فكما أنّ التكلیف لا یصیر منجّزاً مع احتمال نسیان المولى بیانه ولو علم عدم

 

صدور بیانٍ منه، كذلك لا یصیر منجّزاً مع عدم العثور على بیانه مع الفحص وإن احتمل صدوره منه واختفاؤه عنّا لبعض الجهات الموجبة للاختفاء. فلیس احتمال صدور البیان مع الفحص وعدم الظفر به إلّا كاحتمال النسیان فی صورة العلم بعدم صدور البیان.

وأمّا الاستدلال على هذا بقبح العقاب بلا بیان فلیس إلّا مصادرة بالمطلوب ومِن جعل الدلیل عین المدّعى، لرجوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان أیضاً إلى حكم العقل بعدم استحقاق العقاب بمجرّد احتمال التكلیف بعد الفحص وعدم الظفر.

وربما یستدلّ لعدم كون الاحتمال منجّزاً للتكلیف بما قد مرّ تحقیقه منّا، وملخّصه: أنّ فعلیة الحكم لا تتصوّر إلّا فی ظرف العلم به؛ فإنّ الحكم عبارةٌ عن إنشاء الخطاب متسبّباً به لانبعاث العبد؛ وروحه وحقیقته عبارة عن إرادة انبعاثه أو انزجاره فی ظرف علمه بذلك الخطاب ووصوله إلیه، فإنّه لا یمكن إرادة انبعاثه عنه أو انزجاره به مطلقاً، حتى فی صورة الجهل به، لعدم إمكان انبعاثه أو انزجاره كذلك، ولذا لو كان المولى مهتمّاً بحفظ تكالیفه وأراد فعلیة أحكامه وانبعاث عبده نحوها مطلقاً، یجب علیه جعل حكم آخر طریقی كإیجاب العمل بالأمارة أو الأخذ بالحالة السابقة أو غیرهما.

لا یقال: انبعاث العبد نحو ما کلّفه به لیس منحصراً بصورة العلم به بل یمكن انبعاثه فی ظرف احتمال التكلیف.

فإنّه یقال: إنّ الانبعاث فی ظرف احتمال التكلیف لیس مسبّباً عن حكم المولى وتكلیفه، فإنّه لیس معلولاً لوجود التكلیف، بل ربما یحتمل التكلیف وینبعث العبد من هذا الاحتمال ولا یكون تكلیفٌ فی البین أصلاً، بخلاف صورة وصوله إلى العبد فإنّ الانبعاث فی ظرف وصوله مسبّبٌ عن وصول التكلیف وهو مسبّبٌ عن نفس هذا التكلیف.

 

فعلى هذا، لا تصیر خطابات المولى فعلیةً إلّا فی ظرف العلم بها ووصولها إلى العبد، لعدم إرادة انبعاثه منه إلّا فی هذا الظرف. وتستحیل فعلیة الحكم وإرادة انبعاث العبد من الخطاب فی ظرف الجهل، لاستحالة انبعاثه عنه فی صورة الجهل به وإن كان یمكن انبعاثه عن احتمال التكلیف.

فظهر: أنّ فی صورة الاحتمال لا یكون التكلیف فعلیاً، لعدم إرادة المولى انبعاث العبد عن خطابه فی هذا الظرف، لعدم إمكان انبعاثه كذلك. وإذا لم یكن التكلیف فعلیاً لا یكون منجّزاً بحیث یستحقّ العقاب على تركه، هذا.

ولكن لا حاجة إلى هذا البیان بعدما ذكرنا من استقلال العقل بعدم تنجّز التكلیف بمجرّد الاحتمال، وكون ذلك من البدیهیات الّتی لا یحتاج إثباتها إلى توسیط شیءٍ وتجشّم استدلالٍ.

نعم، هنا اُمور([1]) قیل بكون کلّ واحد منها وارداً على هذه القاعدة العقلیة ومنجّزاً للتكلیف المحتمل وموجباً للعلم باستحقاق العقاب فی ظرف الاحتمال، بعضها بل کلّها ـ غیر واحدٍ منها ـ تجری فی الشبهة التحریمیة، وواحدٌ منها تجری فیها وفی الشبهة الوجوبیة.

 

([1]) أوّلها فی هذه الصفحة، وثانیها فی الصفحة 16، وثالثها فی الصفحة 18، ورابعها فی الصفحة 35.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: