شنبه: 1/ارد/1403 (السبت: 11/شوال/1445)

الروایات الّتی استدلّ بها للاحتیاط والجواب عنها

وأمّا الروایات: فقد جمعها بعضهم كصاحب الوسائل ـ علیه الرحمة ـ  فی كتاب القضاء،([1]) وهی وإن كانت تبلغ ـ قبل إسقاط ما تكرّر منها وما لیس مرتبطاً بما نحن فیه ـ 68 حدیثاً، إلّا أنّ جملة منها غیر مرتبطة بالمقام. وجملةً منها فی مقام الرّد على العامّة ومن یأخذ بالقیاس والاستحسان ویستقلّ فی استنباط الأحكام، ولا یرى للأئمّة المعصومین^ ما لهم من المقام فی بیان أحكام الله ولا یرجع إلیهم، ویرید الهدى من تلقاء نفسه. وجملة منها راجعة إلى الوقوف عند الشبهات الّتی یظهرها أهل الأهواء والبدع ومن ینتحل الإسلام ـ ممّا یكون شبیهاً بالدلیل والبرهان ولیس منه ـ مثل ما یرى كثیراً فی کلما ت هؤلاء من الصدر الأوّل إلى زماننا هذا.

وثلاثةً منها ـ وهی: ما رواه عن أبی عبد الله‏× قال: «ما حجب الله‏ علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم».([2])

 

وما رواه عن حفص بن غیاث قال: قال أبو عبد الله×: «من عمل بما علم كفی ما لم یعلم».([3])

وما رواه عن محمد بن علیّ بن الحسین قال الصادق×: «كلّ شیء مطلق حتى یرد فیه نهیٌ».([4]) ـ تدلّ على خلاف مطلوب الأخباری.

وأجاب عن هذه الروایات بأجوبةٍ غیر كافیةٍ، منها: حمل هذه الأخبار على الشبهات الوجوبیة.([5])  وجملةً منها راجعة إلى النهی عن القول بغیر علم.

وجملةً اُخرى واردة فی الشبهات البدویة قبل الفحص.

وبعضاً منها واردة فی الشبهات الموضوعیة، كما رواه عن الصدوق& من أنّ أمیر المؤمنین× خطب، فقال: «إنّ الله حدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشیاء لم یسكت عنها نسیاناً فلا تكلّفوها، رحمةً من الله‏ لكم فاقبلوها». ثم قال×: «حلالٌ بیّنٌ وحرامٌ بیّن وشبهاتٌ بین ذلك، فمن ترك ما اشتبه علیه من الإثم فهو لما استبان له أترك. والمعاصی حمى الله فمن یرتع حولها یوشك أن یدخلها».([6])

وقد جعل صاحب الوسائل ذیلها روایةً مستقلّةً وجعلها الروایة 27 من هذا الباب.([7])

وبعضاً منها لیس خالیاً عن الإبهام والإجمال، كروایةٍ رواها سلام بن المستنیر عن أبی جعفر الباقر× قال: «قال جدی رسول الله|: أیّها الناس حلالی حلال إلى یوم القیامة، وحرامی حرام إلى یوم القیامة، ألا وقد بیّنهما الله عزّ وجلّ فی الكتاب، وبیّنتُهما لكم فی سنّتی وسیرتی، وبینهما شبهاتٌ من الشیطان وبدعٌ بعدی، من تركها صلح له أمر دینه

 

وصلحت له مروّته وعرضه، ومن تلبّس بها وقع فیها واتّبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى...» الحدیث.([8]) 

وبالجملة: فما یمكن أن یدّعى ارتباطه بالمقام ودلالته على ما ذهب إلیه الأخباریون هی الروایات الّتی التقطها الشیخ& من هذه الروایات وجعلها طوائف:([9])

إحداها: ما یكون مفادها مفاد الآیات، وتدلّ على حرمة القول والعمل بغیر علم.([10]) وقد مرّ الجواب([11]) عنها عند ذكر الجواب عن استدلالهم بالآیات.

ثانیتها: الأخبار الدالّة على التوقّف. وقد ذكر منها اثنی عشر حدیثاً.

ثالثتها: أخبار الاحتیاط. وذكر منها سبعة أحادیث.

رابعتها: أخبار التثلیث.

ولا یخفى علیك: أنّ الطائفة الرابعة ترجع إلى الطائفة الثانیة، ولیست طائفةً مستقلّةً؛ فإنّ اختلاف التعابیر لا یوجب اختلاف المضمون وتكثیر الأقسام.

فعلى هذا، تجب الملاحظة والتأمّل فی طائفتین من الروایات، إحداهما: أخبار الاحتیاط. وثانیتهما: أخبار التوقّف.

أمّا أخبار الاحتیاط، فأكثرها مراسیل لا یعتمد علیها، مثل: ما روى فی الوسائل عن خطّ الشهید+ فی حدیثٍ طویل عن عنوان البصری عن أبی عبد الله جعفر بن محمّد÷ یقول فیه: «سل العلماء ما جهلت، وإیّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربةً، وإیّاك أن تعمل

 

برأیك شیئاً، وخذ بالاحتیاط فی جمیع اُمورك ما تجد إلیه سبیلاً، واهرب من الفتیا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبةً للناس».([12])

وما أرسله الشهید فی الذكرى أیضاً وحكی عن الفریقین، قال النبیّ|: «دع ما یریبك إلى ما لا یریبك».([13])

وما أرسله أیضاً عن الصادق×: «لك أن تنظر الحزم، وتأخذ بالحائطة لدینك».([14])

وما أرسله الشهید+ أیضاً عنهم^: «لیس بناكبٍ عن الصـراط، من سلك سبیل الاحتیاط».([15])

هذا مضافاً إلى عدم دلالتها على وجوب الاحتیاط.

أمّا روایة عنوان البصری، فإنّه كان رجلاً متقشّفاً من تلامذة مالك بن أنس، وقد صرف مدّة من عمره فی المدینة لأخذ الفقه عن مالك، ولم یكن یعرف الإمام الصادق× بالإمامة. ولكنّه أراد أن یزوره لیستفید منه، فلم یأذن له، فدخل المسجد وصلّى ودعا الله‏ أن یرقّق قلب جعفر بن محمد الصادق× علیه، وبعد أن حصل الإذن تشرّف بزیارته وسأله عن مسائل فأجابه عنها، وقال له الإمام×: «سل العلماء ما جهلت...»، الحدیث.

وهذا كما ترى لا یدلّ على وجوب الاحتیاط فی محتمل الحرمة أو الوجوب، بل کلام صدر عن الإمام× موعظةً لهذا الشخص الّذی لا یرى للإمام امتیازاً عن الناس، ولا یعرفه بالمقام الّذی أقامه الله‏ فیه. ومن الواضح أنّ بهذه الكلمات والبیانات

 

یجب أن یوعظ وینذر مثل هذا الشخص الّذی یدّعی العلم والفقه ولا یحترز عن الفتوى ولا یرجع إلى أئمّة أهل البیت^.

وأمّا ما روى من قوله×: «دع ما یریبك إلى ما لا یریبك» فإنّما یدلّ على الإرشاد إلى حسن الاحتیاط واستحبابه.

وأمّا الروایتان الأخیرتان، فلیس فیهما دلالة على وجوب الاحتیاط بمعنى وجوب ترك محتمل الحرمة وفعل محتمل الوجوب. غیر أنّ ذكر لفظ الحائط والاحتیاط فیهما صار سبباً لتوهّم ذلك؛ فإنّ المراد من اللفظین هو الاحتفاظ والاهتمام بأمر الدین.

وكذا الروایة المنقولة عن أمالی المفید الثانی عن الرضا×: «أنّ أمیر المؤمنین قال لكمیل بن زیاد: أخوك دینك، فاحتط لدینك بما شئت».([16]) فإنّه لیس المراد من هذا الاحتیاط المأمور به إلّا القیام بأمر الدین من العمل بما أوجب فیه وترك ما حرم.  وأمّا روایة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن× عن رجلین أصابا صیداً وهما محرمان، الجزاء بینهما؟ أو على کلّ واحدٍ منهما جزاءٌ؟ قال×: «لا، بل علیهما أن یجزی کلّ واحدٍ منهما الصید». قلت: إنّ بعض أصحابنا سألنی عن ذلك، فلم أدر ما علیه، فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعلیكم بالاحتیاط حتى تسألوا عنه فتعلموا».([17])

ففیها أوّلاً: أنّها لا تدلّ إلّا على وجوب الاحتیاط فی الفتوى والتحرّز والاجتناب عنه قبل السؤال والفحص.

وثانیاً: لو أغمضنا عن ذلك فلا تدلّ إلّا على وجوب الاحتیاط فی الشبهة الوجوبیة فیما إذا دار الأمر بین الأقلّ والأكثر الارتباطیین أو غیر الارتباطیین، لو لم نقل بكونهما كذلك فی المقام.

 

وأمّا روایة عبد الله بن وضّاح وهی: أنّه كتب إلى العبد الصالح× یسأله عن وقت المغرب والإفطار؟ فكتب إلیه: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدینك».([18])

فظاهرة فی الشبهة الموضوعیة الوجوبیة، والانتظار ـ مع الشكّ فی تحقّق المغرب ـ للصلاة هو مقتضى الاستصحاب. والمراد بالأخذ بالحائطة لدینك لیس الاحتیاط المذكور فی کلامنا، بل هو الأخذ بما یحفظ به دینه وهو الانتظار عملاً بالاستصحاب.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ دعوى استفاضة الروایات الدالّة على الاحتیاط لا یصدر إلّا عمّن لیس له اطلاعٌ بالروایات.

وأمّا أخبار التوقّف، فبعضها لا دلالة له على وجوب الاحتیاط فی العمل، كروایة حمزة بن طیّار أنّه عرض على أبی عبد الله× بعض خطب أبیه حتى إذا بلغ موضعاً منها قال له: «كفّ واسكت». ثم قال أبو عبد الله×: «إنّه لا یسعكم فیما ینزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتى یحملوكم فیه على القصد، ویجلوا عنكم فیه العمى ویعرّفوكم فیه الحقّ، قال الله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.([19])

فإنّ الظاهر منها أنّ الموضع الّذی بلغ منها كان متضمّناً لبعض المطالب المعضلة من الاُصول أو الفروع الّتی لا ینبغی لأمثال حمزة بن طیّار إظهار الرأی فیها، ویجب أن یعرف حقیقتها وما هو الحقّ فیها من قبل المعصوم العالم بحقائق مثل هذه الاُمور من قبل الله تعالى.

وبعضها على وجوب التوقّف عند الفتوى وحرمة القول بغیر علم أدلّ وأظهر، مثل: روایة جابر عن أبی جعفر× فی وصیّةٍ له لأصحابه قال: «إذا اشتبه الأمر علیكم

 

فقفوا عنده، وردّوه إلینا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصیناكم لم تعدوه إلى غیره...»، الحدیث.([20])

وروایة زرارة عنه× قال: سألت أبا جعفر× ما حجّة الله على العباد؟ قال: «أن یقولوا ما یعلمون ویقفوا عند ما لا یعلمون».([21])

وروایة المیثمی ـ الّذی عبّر عنه الشیخ الأنصاری بالمسمعی ـ عن الرضا× فی حدیث اختلاف الأحادیث قال:«وما لم تجدوه فی شیءٍ من هذه الوجوه فردّوا إلینا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فیه بآرائكم، وعلیكم بالكفّ والتثبّت والوقوف، وأنتم طالبون باحثون حتى یأتیكم البیان من عندنا».([22])

نعم، فی عدّةٍ منها الأمر بالتوقّف عند الشبهة معلّلاً بأنّ الوقوف عند الشبهة خیرٌ من الاقتحام فی الهلكة؛ أو ذكر هذه الجملة مستقلّةً وابتداءً كما فی مقبولة عمر بن حنظلة؛([23]) وروایة الزهری؛([24])وروایة السكونی؛([25])وروایة مسعدة بن زیاد؛([26])وروایة أبی شیبة؛([27])وروایة جمیل بن دراج؛([28])وروایة عبد الأعلى.([29])

ولكن یمكن أن یقال ـ مضافاً إلى أنّ اشتمال بعض هذه الروایات على عبارات مثل:

 

«وتركك حدیثاً لم تروه خیرٌ من روایتك حدیثاً لم تحصه»([30]) ربما یصیر سبباً لإجمال هذه العبارة ـ: إنّ المراد بالشبهة ما یحتمل فیه الهلكة، لا مطلق الشبهة ولو لم یحتمل فیها الهلكة.

وإن أغمضنا عن ذلك، وقلنا بأنّ المراد بالشبهة خصوص الشبهة التحریمیة، وأنّ الهلاكة هی الهلكة الاُخرویة، كما یریده الأخباری. فلیس فی هذه الأخبار ما یمكن أن یدّعى دلالته على خصوص الشبهة التحریمیة الحكمیة دونها والموضوعیة، كما یظهر للمتأمّل فی الأخبار.

اللّهمّ إلّا أن یقال بأنّ النبویّ المذكور فی ذیل مقبولة عمر بن حنظلة([31]) ـ مع قطع

 

النظر عن احتفافه بكلام الإمام، وما یقتضی سیاق أصل الروایة، واستشهاد الإمام بالنبویّ المذكور ـ یدلّ على المطلوب.

ولا یرد على الاستدلال به ما یرد على الاستدلال بأصل المقبولة من شمولها للشبهات الحكمیة والموضوعیة بقسمیهما، بل تشمل غیر التكالیف من الاُمور الوضعیة. ومن اختصاصها بالشبهات الّتی یكون الوقوع فی الهلكة بالنسبة إلیها مقطوعاً كالإفتاء بغیر علمٍ؛ فالوقوف عند الشبهة والامتناع من الإفتاء خیرٌ من الاقتحام فی الهلكة وهو الإفتاء بغیر علم.

والحاصل: أنّه یمكن أن یقال بصحّة استناد الأخباریّ إلى هذا النبویّ فی خصوص الشبهة التحریمیة. والقول بعدم دخل صدر المقبولة وذیلها فی ما یستفاد من مضمونه. أو بكون هذا النبویّ روایةً مستقلّةً رواها عمر بن حنظلة هنا عن الإمام×.

وقریبٌ منه فی هذه الدلالة روایة جمیل بن صالح عن الصادق عن آبائه^ قال: قال رسول الله|: ـ فی کلام طویلٍ ـ «الاُمور ثلاثةٌ: أمرٌ تبیّن لك رشده فاتّبعه، وأمر تبیّن لك غیّه فاجتنبه، وأمرٌ اختلف فیه فردّه إلى الله عزّ وجلّ».([32])

ومرسلة الصدوق قال: وخطب أمیر المؤمنین×، فقال: «إنّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشیاء لم یسكت عنها نسیاناً فلا تكلّفوها، رحمةً من الله لكم فاقبلوها. ثم قال: حلالٌ بیّنٌ، وحرامٌ بیّنٌ، وشبهاتٌ بین ذلك،

 

فمن ترك ما اشتبه علیه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصی حمى الله فمن یرتع حولها یوشك أن یدخلها».([33])

فعلى هذا، أوضح الروایات دلالة على ما یریده الأخباری هذا النبویّ الّذی لم یتعرّض لذكره بعض من صار فی مقام الجواب عن الأخبار الّتی استدلّ بها الأخباری كالمحقّق الاُستاذ صاحب الكفایة، ومن تعرّض لذكره لم یأت فی مقام الجواب بما كان حاسماً للإشكال، فیجب علینا أن نبیّن وجه الاستدلال به أوّلاً والجواب عنه ثانیاً إن شاء الله تعالى، فنقول:

أمّا تقریب الاستدلال به: فغایة ما یمكن أن یقال هو: أنّ المستفاد من هذا النبویّ أنّ لنا حلالاً بیّناً من حیث الحكم، وأفعالاً کلّیةً حلیتها مبیّنةٌ، وأفعالاً کلّیةً حرمتها مبیّنةٌ، وشبهاتٍ بین ذلك، أی أفعالٌ کلّیةٌ غیر مبیّنةٍ من حیث الحكم، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات الواقعیة الّتی تكون فی هذه الشبهات، ومن أخذ بالشبهات وقع فی المحرّمات الواقعیة الّتی تكون فی مورد هذه الشبهات وهلك من حیث لا یعلم، أی یقع فیما یقع فیه مرتكب الحرام من الخروج عن زیّ العبودیة ورسوم الرقّیة واستحقاق العذاب والعقاب.

ولیس المراد من الشبهات جمیعها، بل جنسها ولو كانت شبهةً واحدةً، كما أنّ المراد بالمحرّمات أیضاً لیس کلّها بل جنسها، فلو أخذ بشبهةٍ واحدةٍ یقع فی الحرام، أی یصیر فی معرض الوقوع فی الحرام وجعل نفسه فی مورد ارتكاب الحرام.

ولیس المراد من الوقوع الإشراف على الحرام حتى یكون استعمال الوقوع فیه على سبیل مجاز المشارفة كما ذكره الشیخ، وتحتاج تمامیة الاستدلال إلى الكبرى الكلّیة

 

الحاكمة على أنّ الإشراف على الوقوع فی الحرام والهلاك من حیث لا یعلم حرامٌ. فإن قلت: إنّ الروایة ظاهرةٌ فی الإرشاد إلى أنّ ارتكاب الشبهة موجبٌ للوقوع فی الهلكة الّتی تكون فیها مع قطع النظر عن هذا البیان، وهی تارةً تكون اُخرویة واُخرى دنیویة، كالشبهات غیر المقرونة بالعلم الإجمالی وقبل الفحص.

قلت: نعم، صدرها إلى قوله|: «فمن أخذ بالشبهات وقع فی المحرّمات» ظاهر فی الإرشاد، ولكن قوله|: «وهلك من حیث لا یعلم» یدلّ على وجود الهلاكة والعذاب فی مورد الشبهة إذا صادف ارتكابها الحرام الواقعی.

فإن قلت: إنّ هذا ـ لو تمّ ـ یدلّ على وجوب الاحتیاط فی الشبهات التحریمیة مطلقاً موضوعیةً كانت أم حكمیةً، لظهور النبویّ فی حصر الحلال والحرام فیما هو بیّنٌ وما لیس كذلك.

قلت: لم یذكر فی الروایة ما هو مقسمٌ لهذه الأقسام حتى یستفاد منه أنّها من الشبهة الحكمیة أو الموضوعیة، ولیس بینهما جامعٌ.

فإن قلت: ما المانع من أن یكون المراد من النبویّ والمستفاد منه أنّ لنا حلالاً بیّناً بحسب الخارج وحراما بیّناً بحسب الخارج وشبهاتٍ بین ذلك أیضاً فی الموضوع، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات أی الوقوع فی الحرام البیّن الخارجی، ومن لم یجتنب منها یقع فی الحرام البیّن الخارجی ویجتری على ارتكابه بخلاف من ترك الشبهات؛ فإنّ جرأته على ارتكاب الحرام المعلوم فی الخارج لیس بهذه المثابة.

ویؤیّد ذلك ما رواه الصدوق عن أمیر المؤمنین× فی خطبته، إلّا أنّه ینافی قوله|: «وهلك من حیث لا یعلم».

اللّهمّ إلّا أن یقال: بأنّه بعد فرض عدم ذكر مقسمٍ للشبهات الحكمیة والموضوعیة فی الروایة وإمكان حملها على الشبهات الموضوعیة، فلم لا نقول بأنّ المراد منها: أنّ لنا

 

حلالاً بیّناً بحسب الخارج وحراماً كذلك وشبهاتٍ بین ذلك؟ فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات الواقعیة الّتی تكون فیما بین المشتبهات، ومن ارتكب هذه الشبهات، أی المصادیق المشكوك كونها تحت بعض العناوین المحرّمة، یقع فی المحرّمات الواقعیة الّتی تكون فیما بینها. ولا منافاة لهذا الاحتمال مع قوله| «وهلك من حیث لا یعلم» وكیف كان: فلا ترجیح لأحد الاحتمالین على الآخر.

قلت: لا مانع من هذا الاحتمال فی نفسه، إلّا أنّ للأخباری أن یقول: الظاهر هو الاحتمال الأوّل.

هذا تمام الكلام فی تقریب الاستدلال بالنبویّ.

والتحقیق فی الجواب أن یقال أوّلاً: إنّ الحرام الفعلی ما تعلّق به زجر المولى وإرادته الحتمیة، ولا یتحقّق ذلك إلّا إذا كان للعبد إلیه طریقٌ ووصل نهی المولى إلیه. وأمّا ما لیس له طریقٌ إلیه أصلاً ولم یصل إلیه حتى بعد الفحص فلیس حراماً فعلیاً، ولا یشمله عنوان محتمل الحرمة حقیقةً، بل هو من الحلال البیّن، للعلم بعدم تعلّق زجرٍ فعلیٍّ من المولى إلیه وعدم تعلّق إرادته الحتمیة بتركه، ومع ذلك كیف یحتمل حرمته ویدخل تحت الشبهات الّتی تكون بین الحلال والحرام البیّنین.  فالمراد بالمشتبهات ما یحتمل فی مورده فعلیة زجر المولى وإرادته الحتمیة المتعلّقة بتركه، وهو لا یكون إلّا فی الشبهات البدویة قبل الفحص. وأمّا بعد الفحص وعدم الظفر بالطریق فیحصل القطع بعدم فعلیة زجر المولى وعدم تعلّق إرادته الحتمیة بتركه. فالمشتبه بالحرام لا یكون إلّا ما یحتمل فی مورده فعلیة زجر المولى، وهو لا یتحقّق إلّا فی الشبهات البدویة الّتی یحتمل وجود الطریق إلى الحكم الشرعیّ الّذی یكون فی موردها. فعلى هذا، لا مانع من القول بظهور الهلاكة المذكورة فی قوله|: «وهلك من حیث لا یعلم» فی الهلاكة الاُخرویة، لكنّ المراد بها الهلاكة الّتی تكون للمشتبه مع قطع النظر عن هذه

 

العبارة وهی لا تكون إلّا فی الشبهات البدویة. وكون هذه الروایة فی مقام إیجاب الاحتیاط وجعل الطریق إلى الأحكام الواقعیة الّتی لیس إلیها طریقٌ مع قطع النظر عن إیجاب الاحتیاط الطریقی، خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهرها كونها فی مقام الإرشاد إلى ما یحكم العقل به وهو لزوم الاجتناب عن الهلاكة الّتی تكون فی المشتبهات مع صرف النظر عن هذه العبارة.

وثانیاً: لو تمّ الاستدلال بهذه الروایة یجب القول بالاحتیاط حتى فی الشبهات الوجوبیة؛ فإنّ هذه الروایة النبویّة بهذه العبارة لیست مرویّةً إلّا فی ضمن مقبولة عمر بن حنظلة وهی باعتبار موردها ـ وهو اشتباه الحكم الوضعی الّذی یكون منشأً لانتزاع حكمٍ تحریمیٍ ومنشأً لانتزاع حكمٍ وجوبیٍ ـ تشمل الشبهات الوجوبیة أیضاً.

وثالثاً: لو قلنا بدلالة هذا النبویّ على وجوب الاحتیاط فی خصوص الشبهات التحریمیة من جهة كون ارتكابها معرضاً لوقوع المرتكب فی الحرام المشتبه، لكنّه تعارضه روایاتٌ كثیرةٌ دالّةٌ على عدم مانعٍ من ارتكاب الشبهة من جهة الوقوع فی الحرام المحتمل الّذی یكون فی مورده.

فغایة الأمر یستحبّ الاجتناب عنها لحصول ملكة التحفّظ والقدرة على ترك المحرّمات. ولأنّ فعل المشتبهات ربما یصیر باعثاً لوقوع مرتكبها فی المحرّمات المعلومة، فإنّ المعاصی حمى الله ومن یرتع حول الحمى یوشك أن یقع فیه كما روی عن أمیر المؤمنین× فی ضمن خطبته: «فمن ترك ما اشتبه علیه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصی حمى الله فمن یرتع حولها یوشك أن یدخلها».([34])

ورابعاً: لا ریب فی أنّ وجوب الاحتیاط لو كان مجعولاً فی الشـریعة لنقل إلینا

 

ولعرفه جمیع المسلمین؛ لشدّة الابتلاء به وعموم البلوى، واستقرّت علیه سیرتهم الكاشفة عن وجود نصٍّ أو نصوصٍ معتبرةٍ فی المسألة، مع أنّه لم یوجد من هذا رسمٌ ولا أثرٌ لا فی الكتب ولا فی عمل المسلمین، ولم یوجد خبرٌ یدلّ علیه، إلّا هذا الخبر الّذی أشكل فی دلالته، بل لم یذكر هذا الموضوع فی کلما ت السابقین، وإنّما حدث هذا التوهّم فی أوائل القرن الحادی عـشر عند تداول شرب التنباك، وذهاب بعض الأخباریین إلى حرمته فصار سبباً لإحداث القول بوجوب الاحتیاط فی مطلق الشبهات التحریمیة الحكمیة، مع أنّ شبهة حرمة شرب التتن لیست من الشبهات الحكمیة بل شبهةٌ موضوعیةٌ، فإنّ شرب التنباك لم یكن فی زمن النبیّ والأئمّة^ متداولاً حتى یرد فیه بخصوصه حكمٌ ویكون الشكّ فیه داخلاً فی الشكّ فی الحكم، بل لو شكّ فیه فلا یكون منشأ الشكّ إلّا كونه واقعاً تحت بعض العناوین المحرّمة مثل: «الخبائث»([35]) أم لا، فیكون بهذا الاعتبار من الشبهات الموضوعیة، ولا ارتباط له بالشبهات الحكمیة. هذا تمام الكلام فی استدلالهم بالأخبار.

 

(1) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، ج27، ص154-175، ب 12، باب وجوب التوقّف والاحتیاط فی القضاء والفتوى....

([2]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص163، ب12، أبواب صفات القاضی، ح 33.

([3]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص164، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 35.

([4]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص173-174، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 67.

([5]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص163-164، أبواب صفات القاضی، ب12، ذیل الحدیث 33.

([6]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص175، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 68 .

([7]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص161، أبواب صفات القاضی، ب12، ح27.

([8]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص169، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 52 .

([9]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص205.

([10]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضی، ج27، ص155، 161، 163-164، ب12، ح 3 و 4 و 22 و 32 و 35 وغیرها.

([11]) تقدّم فی الصفحة 19 ـ 20.

([12]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص172-173، أبواب صفات القاضی، باب 12، ح 61 .

([13]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص173، أبواب صفات القاضی، ب12، ح63 .

([14]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص173، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 65 .

([15]) لم یذكره فی الوسائل، وانظره فی جامع أحادیث الشیعة (البروجردی، ج1، ص332).

([16]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص167، أبواب صفات القاضی، ب12، ح46.

([17]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص154، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 1.

([18]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص166-167، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 42.

([19]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص155، أبواب صفات القاضی، ب12، ح3؛ والآیة 43 سورة النحل؛ و 7 سورة الأنبیاء.

([20]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص168، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 48.

([21]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص163، أبواب صفات القاضی، ح 32.                   

([22]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص165، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 36 .

([23]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص157، أبواب صفات القاضی، ح 9 .

([24]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص154-155، أبواب صفات القاضی، ح2 .

([25]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص171-172، أبواب صفات القاضی، ح 57 .

([26]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص159، أبواب صفات القاضی، ح 15 .

([27]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص158، أبواب صفات القاضی، ح 13 .

([28]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص119، أبواب صفات القاضی، ب9، ح 35 .

([29]) العیاشی، تفسیر، ج2، ص115، ذیل الآیة 115 من سورة البراءة (التوبة).

([30]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص154-155، أبواب صفات القاضی، ب 12، ح 2.

([31]) وهی ما رواه المشایخ الثلاثة بإسنادهم إلى عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله× عن رجلین من أصحابنا، بینهما منازعةٌ فی دینٍ أو میراثٍ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أیحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إلیهم فی حقٍّ أو باطلٍ فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما یحكم له فإنّما یأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت، وإنّما أمر الله أن یكفر به، قال الله تعالى: ﴿یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَكْفُرُوا بِهِ﴾. قلت: فكیف یصنعان؟ قال: «ینظران الی من كان منكم ممّن قد روى حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلیرضوا به حكما، فإنّی قد جعلته علیكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم یقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلینا قد ردّ، والرادّ علینا الرادّ على الله وهو على حدّ الـشرك بالله». قلت: فإن كان کلّ رجلٍ یختار رجلاً من أصحابنا فرضیا أن یكونا الناظرین فی حقّهما فاختلفا فیما حكما وكلاهما اختلفا فی حدیثكم؟ قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما فی الحدیث وأورعهما، ولا یلتفت إلى ما یحكم به الآخر». قلت: فإنّهما عدلان مرضیّان عند أصحابنا، لا یفضل واحد منهما على الآخر؟ قال: «ینظر إلى ما كان من روایتهما عنّا فی ذلك الّذی حكما به، المجمع علیه بین أصحابك فیؤخذ به من حكمنا، ویترك الشاذ الّذی لیس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمرٌ بینٌ رشده فیتبع، وأمرٌ بینٌ غیّه فیجتنب، وأمرٌ مشكلٌ یرد حكمه إلى اللّه‏. قال رسول الله|: حلالٌ بیّنٌ، وحرامٌ بیّنٌ، وشبهاتٌ بین ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حیث لا یعلم». قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورین قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: «ینظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فیؤخذ به ویترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامّة». قلت: جعلت فداك، أرأیت إن كان الفقیهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرین موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم، بأیّ الخبرین یؤخذ؟ قال: «ما خالف العامّة ففیه الرشاد». فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جمیعاً؟ قال: «ینظر إلى ما هم إلیه أمیل حكّامهم وقضاتهم فیترك ویؤخذ بالآخر». قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرین جمیعاً؟ قال: «إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خیرٌ من الاقتحام فی الهلكات» [منه دام ظلّه العالی]. راجع: الکلینی، الكافی، ج1، ص67-68، ح10؛ الطوسی، تهذیب الأحکام، ج6، ص301، ح845؛ الصدوق، من لا یحـضره الفقیه، ج3، ص8-11، ح2؛ الحرّ  العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص106-107، أبواب صفات القاضی، ب9، ح1.

([32]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص162، أبواب صفات القاضی، ب12، ح28.

([33]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص175، أبواب صفات القاضی، ب12، ح68 .

([34]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص175، أبواب صفات القاضی، ب 12، ح 68 .

([35]) فی قوله تعالى: ﴿وَ یُـحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْـخَبائِثَ﴾. الأعراف، 157.

موضوع: 
نويسنده: