پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الأمر الرابع: وجوب الاحتیاط للعلم الإجمالی

من الاُمور الّتی قیل بكون کلّ واحدٍ منها وارداً على حكم العقل بعدم تنجّز التكلیف المحتمل بعد الفحص وعدم الظفر به بمجرّد الاحتمال، هو: العلم الإجمالی بوجود محرّماتٍ كثیرةٍ فی الشریعة، ومقتضاه وجوب الاحتیاط فی الموارد المشتبهة.

وفیه: مضافاً إلى كون ذلك منقوضاً بالشبهات الوجوبیة، لعدم وجهٍ لاختصاص العلم الإجمالی بالتكالیف التحریمیة، أنّنا ننكر هذا العلم الإجمالیّ الوسیع المتعلّق

 

بوجود التكالیف الوجوبیة والتحریمیة فیما بین مؤدّیات الطرق والأمارات، وفیما لیس بین مؤدّیات الطرق ممّا لیس إلیه طریقٌ؛ فإنّ من كان عالماً ببعث النبیّ| وتبلیغه أحكام الله تعالى یعلم إجمالاً بوجود تكالیف فی الشریعة بحیث لو تفحّص عنها من طرقها لوصل إلیها. ولا یرى مجالاً لاحتمال وجودها فی الطرق المتعارفة المتداولة، لاستلزام ذلك نقض الغرض ولزوم اختراع الشرع طریقةً اُخرى فی تبلیغ مقاصده ومراداته غیر ما استقرّ علیه بناء العقلاء وسیرتهم. وكیف یصحّ جعل حكمٍ وتكلیفٍ مع عدم وجود طریقٍ إلیه؟ ولو فرضنا احتمال ذلك فهو احتمالٌ بدویٌّ یزول بعد المراجعة إلى الطرق والأخبار. وعلى فرض بقائه لیس منجّزاً للتكلیف.

ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بوجود هذا العلم الإجمالی الوسیع، فنقول: إنّ بعد الرجوع إلى الطرق والأمارات المثبتة للتكالیف نعلم إجمالاً بوجود هذه التكالیف بین مؤدّیات الطرق والأمارات بالمقدار المعلوم بالإجمال أوّلاً، ومعه ینحلّ العلم الإجمالی الكبیر إلى هذا العلم الإجمالی بوجود تكالیف واقعیّةٍ فیما بأیدینا من الطرق بالمقدار المعلوم بالإجمال أوّلاً وعدم وجود غیر ما بأیدینا من مؤدّیات الطرق والأمارات ممّا لیس إلیه طریقٌ.

ولا نقول بانحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بعد الرجوع إلى الأمارات والظفر بالطرق المثبتة للتكالیف بالمقدار المعلوم بالإجمال، حتى یقال بعدم الانحلال على القول بالسببیة والموضوعیة فی باب الأمارات مطلقاً، وأمّا على القول بالطریقیة أو جعل المنجّزیة والحجّیة فینحلّ لو كان ما نحن فیه من أقسام الصورة الاُولى من صور العلم الإجمالی ـ الّتی سیأتی ذكرها فی التنبیه الآتی ـ وأمّا فی سائر الصور فانحلاله محلّ للمناقشة والإشكال كما یأتی.

 

تنبیه: فی تنقیح معنى الانحلال([1])

إعلم: أنّ العلم الإجمالی متقوّمٌ من علمٍ متعلّق بالمعلوم بالإجمال كالنجس المردّد فی كونه إناء عمرو أو إناء زیدٍ مثلاً، وتردید هذا المعلوم بین شیئین أو أشیاء، وإذا انحلّ العلم الإجمالی إلى العلم التفصیلی فلا یبقى ذلك التردید ولا یعقل بقاؤه؛ فإنّ فرض بقائه مساوقٌ لفرض عدم انحلاله.

لا یقال: فما معنى قولهم: إنّ العلم الإجمالی ینحلّ إلى العلم التفصیلی والشكّ البدویّ؟

فإنّه یقال: هذا الشكّ البدویّ الّذی یبقى بعد الانحلال لیس الشكّ الّذی به یتقوّم العلم الإجمالی، فإنّه یزول بمجرّد الانحلال، بل هذا الشكّ زائدٌ على هذا الشكّ. كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین بالبول واحتملنا نجاسة الآخر منهما بالدم، ثم علمنا تفصیلاً ما تنجّس منهما بالبول؛ فإنّ العلم الإجمالی وإن انحلّ وزال الشكّ الّذی هو مقوّمٌ له إلّا أنّ الاحتمال والشكّ الّذی كان لنا فی نجاسة الآخر بالدم باقٍ على حاله، ولیس هذا الشكّ البدوی أثر الانحلال بل هو الشكّ الّذی كان موجوداً مع العلم الإجمالی غیر التردّد الّذی كان أحد مقوّمیه. ولذا لو لم یكن مع العلم الإجمالی هذا الشكّ، كما إذا علم غصبیّة أحد الإناءین ولم یحتمل غصبیّة الآخر منهما ثم علم تفصیلاً غصبیّة أحدهما، ینحلّ العلم الإجمالی إلى العلم التفصیلی من غیر أن یكون فی البین شكّ بدویٌ. فتارةً: ینحلّ العلم الإجمالی إلى التفصیلی من دون أن یكون معه شكٌّ بدویٌّ، وتارة: یكون معه ذلك. فالمراد من الشكّ البدویّ الشكّ غیر المقارن للعلم الاجمالی.

ولیعلم: أنّ العلم الإجمالی لا ینحلّ إلى التفصیلی إلّا فی موردٍ كان تقدّم العلم

 

التفصیلی مانعاً عن حدوث العلم الإجمالی حتى یكون حدوثه متأخّراً عنه مانعاً عن بقائه، فإذا علمنا بغصبیّة أحد الشیئین ثم علمنا تفصیلاً غصبیّة أحدهما المعیّن ینحل العلم الإجمالی. وأمّا إذا علمنا بغصبیّة أحد الكبشین ثم علمنا تفصیلاً بكون واحدٍ منهما جلّالاً لا ینحلّ علمنا الإجمالی. وهذا کلّه واضحٌ والتعرّض له إنّما هو لاحتمال خفائه عن بعضٍ. وبعد ذلك نقول:

إنّ العلم الإجمالی تارةً: یتعلّق بغصبیّة إناء زیدٍ من الإناءین المعلوم كون واحد منهما ملكاً لعمرو والآخر لزیدٍ، ویتعلّق العلم التفصیلی بأنّ هذا الواحد المعیّن هو إناء زیدٍ، ففی هذه الصورة ینحلّ العلم الإجمالی بغصبیة ما هو منهما إناء زید بالعلم التفصیلی بما هو إناء زید، وأما الشكّ البدویّ بالنسبة إلى غصبیّة إناء عمرو فهو باقٍ على حاله إ                                                                                                         ذا احتملنا غصبیّته مع العلم بغصبیة إناء فی البین إلى العلم التفصیلی والشكّ البدویّ بالنسبة إلى إناء عمرو لو احتمل غصبیته.

وتارةً: یتعلّق بغصبیّة أحدهما، ویتعلّق العلم التفصیلی بكون أحدهما المعیّن ـ كإناء زیدٍ ـ غصباً، وفی هذه الصورة أیضاً ینحلّ العلم الإجمالی وإن كان انحلاله فی الصورة الاُولى أوضح.

وثالثةً: یتعلّق بعنوانٍ ویتعلّق التفصیلی بعنوان آخر، كما إذا تعلّق العلم الإجمالی بكون خمسة شیاه من قطیع غنمٍ مغصوبةً وعلم تفصیلاً بكون خمسةٍ منها شربت من لبن الخنزیرة حتى اشتدّ عظمها، فهل ینحلّ العلم الإجمالی فی هذه الصورة أیضاً أو لا؟

یمكن أن یقال بأنّ ما یجب أن یكون العبد بصدده هو الاجتناب عن الحرام ومبغوض المولى وتحصیل الأمن من عقوبته من غیر فرقٍ بین أن یكون مندرجاً تحت عنوان الغصب أو غیره، فبعد هذا العلم التفصیلی یعلم تفصیلاً بوجوب اجتنابه عن هذا الحرام المعیّن ویشكّ فی حرمة غیره، وهذا معنى انحلال العلم الإجمالی إلى التفصیلی.

 

ولكنّ الأقوى عدم الانحلال فی هذه الصورة إذ لا تمانع بین العلمین، لقیام الحجّة على تكلیفین أحدهما: وجوب الاجتناب عن الغنم المغصوبة المردّدة فی البین مثلاً، والآخر: وجوب الاجتناب عن الغنم الجلّالة مثلاً، ولا انحلال هنا لبقاء العلم الإجمالی بغصبیة أحد الغنمین مع العلم التفصیلی بكون أحدهما المعیّن جلّالاً. فكلٌّ من العلمین مؤثّرٌ فی تنجّز خطابٍ خاصٍّ وحجّةٍ على تكلیف المولى ولا تمانع بینهما، فلو أكل من لحم الغنم المعیّن المعلوم كونه جلّالاً واتّفق كونه هو المغصوب ارتكب حرامین ووقع فی مخالفة تكلیفین. ولو اتّفق عدم كونه غصباً ـ ولكن بسبب ارتكابه الطرف الآخر وقع فی مخالفة التكلیف المعلوم بالإجمال ـ یكون عاصیاً أیضاً.

وأمّا أنّ همّ العقل هو الاجتناب عن الحرام ومبغوض المولى ولا فرق فی ذلك بین كون حرمته من جهة الغصب أو جهة اُخرى.

ففیه: أنّ العصیان والطغیان لا یتحقّق إلّا بارتكاب ما هو الحرام بالحمل الشائع كالمغصوب والجلّال، وهو الّذی یتعلّق التكلیف بالاجتناب عنه ویكون منهیّاً عنه، لا مفهوم الحرام وما هو الحرام بالحمل الأوّلی، وبعد هذا نقول: إنّ العلم الإجمالی بوجوب الاجتناب عن المغصوب المردّد بینهما موجبٌ لتنجّزه وحجّةٌ علیه، والعلم التفصیلی بوجوب الاجتناب عن أحدهما المعیّن المعنون بكونه جلّالاً موجب لتنجّز التكلیف بوجوب الاجتناب عن هذا الجلّال، ولا تمانع بینهما أصلاً.

ورابعةً: یتعلّق العلم الإجمالی بما هو أعمّ ممّا هو متعلّق العلم التفصیلی، كما لو تعلّق العلم الإجمالی بحرمة أحد الكبشین وتعلّق العلم التفصیلی بكون أحدهما المعیّن غصباً. أو بالعكس بأن یكون متعلّق العلم التفصیلی أعمّ ومتعلّق العلم الإجمالی أخصّ، كما لو تعلّق العلم الإجمالی بغصبیّة أحد الغنمین وتعلّق العلم التفصیلی بحرمة أحدهما المعیّن.  وفی انحلاله وعدمه فی هذه الصورة وجهان: من عدم تمانعٍ ومطاردةٍ بین العلمین،

 

واستقلال العقل بتنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال بسبب العلم الإجمالی، وعدم موجبٍ لانحلال ذلك العلم؛ ومن انطباق التكلیف المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصیل، وعدم موجبٍ لوجوب الاجتناب عن الطرف الآخر بعد الانطباق، فیتعیّن الاجتناب عن المعلوم بالتفصیل ویصیر الطرف الآخر مشكوكاً.

وربما یقال ـ بالنظر إلى الوجه المذكور فی عدم انحلال العلم الإجمالی فی هذه الصورة ـ بعدم انحلاله فی الصورة الثانیة أیضاً. فما یكون الانحلال بالنسبة إلیه مسلّماً هو الصورة الاُولى. ولا فرق فیما ذكرنا بین تقدّم العلم الإجمالی على التفصیلی وعدمه؛ وبین تقدّم حدوث المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصیل وعدمه.

هذا کلّه إذا كانت الحجّة على التكلیف علماً وقطعاً. وأمّا إذا كانت الحجّة غیره من المنجّزات، فعلى القول فی باب الأمارات بالموضوعیة والسببیة، لا معنى للانحلال أصلاً فی جمیع الصور حتى فی الصورة الاُولى. وأمّا على القول بالطریقیة ووجوب الجری على وفق الطریق، وهكذا على القول بجعل المنجّزیة والحجّیة ینحلّ فی الصورة الاُولى حكماً؛ فإنّ معنى قیام الأمارة على كون هذا الإناء المعیّن إناء زید كون ذلك إناءه دون الآخر، ومقتضى ذلك سقوط العلم الإجمالی بوجوب الاجتناب عن الإناء النجس المردّد بین كونه إناء زیدٍ وإناء عمرو، عن رتبة تنجیز التكلیف إذا كان فی الطرف الآخر. وأمّا فی سائر الصور، فعلى القول بالانحلال الحقیقی فیها ینحلّ حكماً أیضاً، وعلى القول بعدم الانحلال فلا انحلال هنا حكماً أیضاً.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر عدم وجود منجّزٍ للتكلیف المحتمل بعد الفحص وعدم الظفر بالدلیل، وأنّ احتمال التكلیف لا یكون موجباً لتنجّزه بحیث یعدّ عدم الاعتناء به ومخالفته خروجاً عن رسوم العبودیة وزیّ الرقّیة حتى یترتّب علیه استحقاق العقاب.

 

فالحقّ فی المسألة هو البراءة وعدم استحقاق العبد للعقاب على مخالفة التكلیف المحتمل. وقد استدلّوا علیها مع ذلك بالآیات والأخبار.

 

([1]) لیس له كثیر فائدة لخصوص المقام، وإنّما تعرّض سیّدنا الاُستاذ العلّامة ـ دام ظلّه وعلاه ـ لذكره هنا لمجرّد مناسبةٍ له بالمقام وعدم وجود بحثٍ مستقلٍّ عنه فی الاُصول مع كونه ممّا یحتاج إلیه فی كثیر من الموارد. [منه دام ظلّه العالی].

موضوع: 
نويسنده: