جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الاستدلال للبراءة بالآیات

أمّا الآیات، فمنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنّا مُعَذِّبینَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.([1])

وتقریب الاستدلال بها: أنّ المستفاد من الآیة عدم العذاب فی ارتكاب ما یكون مبغوضاً لله تعالى ـ فعلاً كان أو تركاً ـ قبل بعث الرسل، وأنّ هذا من سنن الله‏ تعالى. ولیس لبعث الرسول دخلٌ فی ذلك إلّا لأجل أنّ تبیین الأحكام والتكالیف بتوسّط الرسول، وكونه وسیلة لتبیین الأحكام وتبلیغها وإیصالها إلى المکلّفین. فیكون المراد عدم التعذیب على ارتكاب المبغوض قبل البیان.  ونفی التعذیب وإن كان یمكن أن یكون نفیاً لفعلیته لا نفیاً لاستحقاقه، إلّا أنّ مناسبة المقام تقتضـی كونه نفیاً للاستحقاق؛ فإنّه فی مقام أنّ الله تعالى لا یفعل ذلك ولا یعذّب عبده قبل البیان ولیس من شأنه هذه الأفعال. هذا مضافاً إلى أنّه لو قلنا بكونه نفیاً لفعلیة العذاب قبل البیان یلزم كون فعلیته ثابتة بعد البیان مع أنّ فعلیته بعده غیر معلومةٍ.([2])

واستشكل على الاستدلال بهذه الآیة الكریمة بإشكالات من قبیل: أنّها ظاهرة فی نفی الفعلیة لا نفی الاستحقاق وهو أخصّ منه، ونفی الأخصّ أعمّ من نفی الأعمّ. ومن قبیل: دخالة عدم بعث الرسول فی نفی العذاب، لا مطلق عدم البیان.

 

ومنها قوله تعالى: ﴿لَا یُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا﴾.([3])

والاستدلال بهذة الآیة متوقّف على بعض التكلّفات؛ فإنّ الاستثناء مفرّغ لعدم ذكر المستثنى منه فی الكلام، فلو كان المراد بالموصول التكلیف یجب أن یكون المستثنى منه أیضاً التكلیف، حتى یكون المراد منه: لا یكلّف الله نفساً تكلیفاً إلّا تكلیفاً آتاها، أی أعلمها، وهذا کلّه خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهرها كون المراد بالموصول المال لا التكلیف. وعلى فرض كون المراد به التكلیف یستلزم الدور، فإنّ التكلیف بناءً على هذا متوقّفٌ على الإعلام ووصوله إلى المکلّف، ووصوله موقوفٌ على التكلیف.

واُجیب عن هذا الدور بأنّ المراد من التكلیف الأوّل التكلیف الفعلی، أی لا یكلّف الله نفساً تكلیفاً فعلیاً إلّا تكلیفاً وصل إلیه.

وعلى کلّ حال التمسّك بمثل هذه الآیة للمطلوب لا یخلو عن تكلّف.

ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِیُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَیهُمْ حَتَّى یُبَیِّنَ لَـهُمْ مَا یَتَّقُونَ﴾.([4])

والظاهر أنّ هذه الآیة على ما استدلّ له أدلّ من غیرها؛ فإنّ مفادها أنّ الله تعالى لا یضلّ قوماً، أی لا یحرمهم عن توفیقه والإعانات الباطنیة الّتی تسوق الإنسان إلى الكمالات، بعد هدایتهم ببعث النبیّ وبیان المعارف والعقائد بسبب ارتكابهم مبغوضاً حتى یبینّ لهم ما یتّقون، أی حتى یبیّن لهم أحكامه وما یجب فعله علیهم وما یحرم ارتكابه، ولیس من شأنه الإضلال الّذی هو قسمٌ من العقوبة على اكتساب السیّئات والخروج عن رسم العبودیة بعد هدایتهم ببعث النبیّ، إلّا أن یبیّن لهم ما یتّقون وارتكابهم خلاف ما اُمروا به وما نهوا عنه واستحقاقهم للإضلال والحرمان عن

 

الإعانات الباطنیة؛ فإنّه على هذا لا یكون إضلالهم وعقوبتهم على خلاف ما یكون الله تعالى أهلاً له.

ومنها قوله تعالى: ﴿لِیَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَیَحْیى مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّـنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمیعٌ عَلِیمٌ﴾.([5])

ولكن الاستدلال بها على ما نحن بصدده لا یتمّ على جمیع الاحتمالات المتطرّقة فیها؛ فإنّ المراد بالهلكة والحیاة إمّا یكون الروحانیة منهما أو الجسمانیة، أو یكون المراد من إحداهما الروحانیة ومن الاُخرى الجسمانیة، وعلى جمیع هذه التقادیر فإمّا أن یكون قوله تعالى: ﴿عَنْ بَیِّنـَةٍ متعلّقاً بقوله تعالى: ﴿لِیَهْلِكَ و﴿یَحْیَى أو متعلّقاً بـ «من هلك» و«مَنْ حَیَّ».

فلو كان متعلّقاً بالأوّل یكون معناه على احتمال أن یكون المراد بالهلاك والحیاة الروحانیة منهما أنّ ما فعل الله تعالى ممّا هو مذكور فی صدر الآیة وهو قوله تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بالْعُدْوَةِ الدُّنْیَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِی الْـمِیعَادِ وَلَكِنْ لِیَقْضِیَ اللُه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً([6]) إنّما فعل لإراءة الحقّ وإظهار الواقع؛ فإنّ غلبة فئةٍ قلیلةٍ على فئةٍ كثیرةٍ خصوصاً مع ما كان علیه المشـركون من القوّة والشوكة والسلاح یعدّ من الاُمور الخارقة للعادة، وفعل الله‏ کلّ ذلك حتى یهلك من هلك عن بیّنة ویحیى من حیّ عن بیّنةٍ، كما هو الشأن فی إظهار غیره من خوارق العادات.  وعلى احتمال أن یكون المراد منهما الهلكة والحیاة الجسمانیّتین یكون المفاد: أنّ ما أنعم الله على النبیّ| والمسلمین فی غزوة بدر من نصرتهم على المشركین مع قلّة عدد المسلمین إنّما یكون لأجل أن یهلك من هلك من المشركین عن بیّنةٍ ویحیى من حیّ من المسلمین عن بیّنةٍ.

 

وأمّا لو كان قوله: «عن بیّنةٍ» متعلقاً ب «من هلك» وبـ «مَنْ حَیَّ» یكون المعنى أنّ الله‏ غلّب المسلمین على المشركین لیهلك الهلكة الجسمانیة ـ على احتمال ـ من هلك عن بینةٍ وهم أعداء النبیّ والمسلمین؛ فإنّهم قد رأوا من الرسول| المعجزات الباهرات ومع ذلك لم یؤمنوا، فیكون هلاكهم عن بیّنة، ویحیى بالحیاة الجسمانیة من حیّ بالحیاة الروحانیة عن بیّنةٍ وهم المسلمون، أو لیهلك بالهلاك الروحانی ـ على الاحتمال الآخر ـ من هلك عن بیّنةٍ، ویحیى بالحیاة الروحانیة من حیّ عن بیّنة لمزید بصیرته وثقته بصدق النبی|.

هذا، ولكن لا یتمّ الاستدلال بواحدٍ من هذه الاحتمالات على البراءة؛ فإنّه لیست فی الآیة دلالة على أنّ الهلكة لا تتحقّق فی جمیع الموارد إلّا عن بیّنة، فیمكن أن لا تكون الهلكة الراجعة إلى الفروع كالهلكة الراجعة إلى الاُمور الاعتقادیة الّتی لا تتحقق إلّا عن بیّنةٍ. هذا بعض الكلام فی الآیات.

 

([1]) الإسراء، 15.

([2]) لا دلالة لنفی الفعلیة قبل البیان على ثبوتها بعده، وعدم الإخبار بنفیها بعده یمكن أن یكون لأجل فائدةٍ. ولو سلّم دلالته على ثبوتها بعد البیان، فیكفی ثبوتها على سبیل الجزئیة وفی بعض الموارد، وهو مسلّمٌ. [منه دام ظلّه العالی] .

([3]) الطلاق، 7.

([4]) التوبة، 115.

([5]) الأنفال، 42.

([6]) الأنفال، 42.

موضوع: 
نويسنده: