شنبه: 1/ارد/1403 (السبت: 11/شوال/1445)

المقام الأوّل: مقتضى الأصل فی المتعارضین

وأمّا الكلام فی المقام الأوّل، فاعلم: أنّه یستفاد من تقریرات سیّدنا الاُستاذ أعلى الله‏ مقامه أنّهم قد ذهبوا فیه إلى أقوال:([1])

الأوّل القول بأنّ مقتضـى التعارض التساقط والرجوع إلى ما یقتضیه الأصل.  والثانی: القول بالتخییر فی العمل بكلّ واحد منهما.

والثالث حجّیة أحدهما بلا تعیین ولا عنوان لا واقعاً ولا ظاهراً.

والفرق بینها فی مقام العمل وجوب العمل على ما یقتضیه الأصل على القول الأوّل وإن كان مخالفاً لكلّ واحد من المتعارضین.

وعلى القول الثانی، یجب العمل على طبق الأصل الموافق لأحدهما، وذلك لاستقلال العقل بوجوب الأخذ بالدلیل الّذی یوافقه الأصل تعییناً.

 

وعلى الثالث لا یجوز طرحهما والعمل على خلافهما، ولكن یجوز العمل على طبق الأصل المخالف لأحدهما إذا لم یكن معارضاً بالأصل الآخر.

وأمّا الفرق بینها بحسب الوجه: أنّ التعارض مانع عن شمول أدلّة حجّیة الخبر لكلیهما. وشمولها لواحد من الدلیلین دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، لوجود شرائط الحجّیة فی کلیهما على السواء. وشمولها لأحدهما لا بالخصوص بل بلا عنوان، فرع كون ذلك من مصادیق ما دلّ الدلیل على حجّیته من الخبر، ومن المعلوم أنّ مصادیقه هی الأفراد الخارجیة لا عنوان أحدهما، فإنّه لیس فرداً خارجیاً للخبر، والتخییر إنّما یصحّ لو كان أحدهما بالخصوص حجّة واقعیة ولا نعلمه بعینه، فإنّ العقل یحكم حینئذٍ بالتخییر مع عدم مرجّح فی البین، ولكنّ القول بحجّیة أحدهما واقعاً ترجیح بلا مرجّح.

فتحصّل من ذلك کلّه أنّ التعارض موجب لتساقط الدلیلین عن الحجّیة، فلابدّ من الرجوع إلى ما یقتضیه الأصل. هذا کلّه بیان وجه الفرق بین القول الأوّل وغیره.

وأمّا وجه الفرق بحسب الثانی: أنّ دلیل الحجّیة بإطلاقه یشمل الخبرین، ومقتضاه الأخذ بهما، إلّا أنّ مقتضى التعارض والعلم بكذب أحدهما هو سقوط أحدهما عن الحجّیة دون الآخر، ومع الجهل بخصوص ما هو الساقط عن الحجّیة، وخصوص ما هو الحجّة حتى یجب الأخذ به، وعدم إمكان الاحتیاط وعدم وجود مرجّح فی البین یستقلّ العقل بوجوب الموافقة الاحتمالیة والأخذ بأحدهما تخییراً.

وبالجملة: بعد القول بإطلاق أدلّة حجّیة الخبر وشمولها لصورة التعارض، وعدم إمكان إیجاب الأخذ بهما، وكون المخاطِب حكیماً لا یكلّف مخاطبه بما لیس مقدوراً له یستكشف العقل أنّ الوجوب فی المقام هو الوجوب التخییری.

وأمّا الفرق بحسب الوجه الثالث فهو أنّ التعارض موجب لسقوط أحد المتعارضین لا على التعیین، ولذا لا یمكن القول بكون واحد منهما المعیّن هو الحجّة،

 

إلّا أنّه لیس كذلك، أی لیس بحجّة فی خصوص مؤدّاه، وأمّا بالنسبة إلى نفی الثالث یكون أحدهما حجّة. وعلى هذا، لا یشمل دلیل الحجّیة کلّ واحد من المتعارضین، ولا أحدهما المعین، ویشمل أحدهما من غیر تعیین ولكنّه لا یفید حجّیة واحد منهما بالخصوص، إلّا أنّه ینفی الثالث به، كما لا یخفى، هذا.

وقد أفاد السیّد الاُستاذ+ بعد بیان الفرق بین هذه الأقوال عملاً ووجهاً أنّ التحقیق فی المقام یحتاج إلى بسط الكلام وذكر أنّ ما یكون المنشأ للتعارض على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن یكون التنافی بین مدلولی الدلیلین ذاتاً وعقلاً بحیث لا یمكن اجتماعهما وثبوتهما معاً لاتّحاد موضوعهما، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شیء والآخر على حرمته.

والحكم فی ذلك: امتناع شمول أدلّة الحجّیة لهما معاً ذاتاً لا لأمر خارج عنهما؛ لاستلزام ذلك التناقض، لأنّ مقتضى حجّیة کلّ واحد منهما تنجّز الواقع به فی صورة المصادفة وكونه عذراً له فی صورة الخطأ، فإذا كان الواقع مثلاً وجوب ما دلّ علیه أحد الدلیلین، فمقتضـى حجّیة دلیل الآخر الدالّ على حرمته أنّه لو تركه مع عدم كونه حراماً وكونه واجباً فی الواقع أن یكون معذوراً فی تركه، مع أنّ مقتضى دلیل حجّیة ما دلّ على وجوبه كونه مستحقّاً للعقاب بتركه، وهذا تناقض ظاهر لا یمكن الجمع بین استحقاق العقوبة وعدمه. وهكذا لو كانت المصادفة فی طرف الحرمة.

بل یمكن أن یقال: إنّ أدلّة حجّیة الأمارات لا تشمل المتعارضین بنفسها وبما هی هی لا لاستلزام شمولها لهما التناقض، لأنّ مفاد حجّیة الأمارة هو البعث إلى الأخذ بها وإن كان بعثاً طریقیاً، ولا یمكن اجتماع البعث إلى المتعارضین مع عدم إمكان الجمع بینهما.

هذا کلّه بالنسبة إلى شمول الأدلّة لكلیهما. أمّا شمولها لأحدهما، فسیأتی الكلام فیه إن شاء الله تعالى.

القسم الثانی: ما إذا لم یكن بین المتعارضین تنافیاً ذاتاً، بل وقع التعارض بینهما لأمر

 

خارجیّ مثل العلم بكذب أحدهما لا على التعیین، وذلك یفرض فی الموضوعین، كما إذا دلّ دلیل على وجوب صلاة الظهر ودلیل آخر على وجوب صلاة الجمعة، أو دلّ دلیل على وجوب فعل ودلیل آخر على حرمة فعل آخر وعلمنا بكذب أحدهما.

والحكم فی ذلك: عدم التنافی بین حجّیتهما معاً لا ذاتاً، لإمكان اجتماع وجوب الظهر ووجوب الجمعة ووجوب فعل وحرمة فعل آخر، وإمكان الجمع بینهما. ولا عرضاً، لأنّ العلم بكذب واحد منهما لا على التعیین لا یمنع من شمول أدلّة الحجّیة لكلّ واحد منهما بالخصوص، لأنّ أدلّتها تدلّ على حجّیة الأفراد والمصادیق الخارجیة المحتمل فیها الكذب والخطأ، ومن المعلوم أنّ احتمال الكذب لا یوجب عدم شمول الأدلّة، بل مفادها إلغاء احتمال الكذب والبناء على الدلیل، ولولا ذلك لما یبقى مورد لشمول الأدلّة له لوجود احتمال الكذب فی الجمیع على السواء، وما تعلّق به العلم الإجمالی ـ وهو عنوان أحدهما ـ خارج عن تحت أدلّة الحجّیة الدالّة على حجّیة الأفراد والمصادیق.

هذا، وقد أورد المقرّر على سیّدنا الاُستاذ: بأنّ ما ذكر من التفصیل إنّما یتأتّى إذا كان دلیل حجّیة الأمارة الآیات والأخبار. وأمّا إذا كان الدلیل بناء العقلاء ـ وكانت الآیات والأخبار الصادرة إمضاءً للبناء المذكور ـ فلا وجه لهذا التفصیل، فإنّ بناء العقلاء لا یكون على العمل بالمتعارضین مطلقاً إذا لم یكن لأحدهما مرجّح فی البین على الآخر.

ولو تنزّلنا عن ذلك نقول: لم یثبت بناء العقلاء على الدلیلین المتعارضین وإن لم یكن التنافی بینهما ذاتیاً بل كان عارضیاً، إلّا إذا كان کلّ واحد منهما مؤدّیاً إلى التكلیف وكان کلّ واحد من التكلیفین مقدوراً للمكلف.([2])

 

أقول: لم نتحصّل ورود إیراده بعد الاستثناء الّذی ذكره فی آخر كلامه، فتأمّل.

القسم الثالث: ما كان منشأ تعارض الدلیلین عدم قدرة المکلّف على امتثالهما معاً، فلا یمكن تنجّزهما فعلاً بحیث یكون المکلّف مستحقّاً للعقاب على مخالفتهما.

ویمكن أن یقال: إنّ مقتضى إطلاق دلیل الحجّیة هو حجّیة کلّ واحد منهما، غایة الأمر أنّ عدم قدرة المکلّف على الامتثال مانع عن تنجّزهما معاً، ولكن لا یمنع عن تنجّز التكلیف بهما فی الجملة فیجب علیه الإتیان بأحدهما والموافقة الإجمالیة دون التفصیلیة، لعدم قدرته علیها.

ولا یخفى علیك: أنّ الصحیح هنا التعبیر بالموافقة الإجمالیة والموافقة التفصیلیة لا الموافقة الاحتمالیة وحرمة المخالفة القطعیة، لأنّ فی المتزاحمین بالنسبة إلى ما یختار منهما ممتثل بالموافقة القطعیة وبالنسبة إلى الآخر یكون معذوراً فی المخالفة القطعیة.

نعم، إذا تردّد التكلیف بین أحد المتزاحمین تتحقّق المخالفة القطعیة بتركهما معاً والموافقة الإحتمالیة بفعل أحدهما. فما فی التقریرات([3]) من التعبیر بوجوب الموافقة الاحتمالیة وحرمة المخالفة القطعیة كأنّه لیس بمستقیم، فإنّ هذا غیر ما جعله نظیراً لذلك فی بحث البراءة فی مسألة العلم الإجمالی بمتعلّق التكلیف وكونه مردّداً بین شیئین لا یمكن الإتیان بهما معاً، هذا.

إذا عرفت ذلك عرفت أیضاً أنّ مقتـضى الأصل فی القسم الأوّل التساقط، وفی الثانی حجّیة کلّ واحد من المتعارضین، وفی الثالث حجیتهما فی الجملة. ففی الأوّل لابدّ فی مقام العمل الرجوع إلى ما یقتضیه الأصل. وفی الثانی العمل على طبق المتعارضین. وفی الثالث الموافقة القطعیة الإجمالیة. وبعبارة اُخرى: العمل على طبق أحدهما على سبیل التخییر إن لم یكن لأحدهما مرجّح على الآخر.

 

وأمّا القول بأنّ الأصل فی المتعارضین التخییر بمعنى حجّیة أحد المتعارضین على سبیل البدلیة، فلا وجه له.

وهكذا القول بأنّ الأصل حجّیة عنوان أحدهما من غیر تعیین وهو مختار صاحب الكفایة؛([4]) فباطل، لأنّ أدلة حجّیة الأمارات إنّما تدلّ على حجّیة کلّ فرد من أفراد الخبر تعیینا، ولیس فیها ما یدلّ على حجّیة أفرادها تخییراً.

هذا کلّه بناءً على كون حجّیة الأمارات من باب الطریقیة.

وأمّا بناءً على كونها من باب السببیة والموضوعیة، فإن قلنا بأنّ المستفاد من دلیل الحجّیة حجّیة خصوص ما لم یعلم كذبه، وبعبارة اُخرى: ما لم یقع التنافى بینه وبین غیره، فلا ریب فی أنّه هو الحجّة، كما هو كذلك بناءً على الطریقیة، فما علم بكذبه والتنافی بینه وبین غیره لیس بحجّة، وذلك لأنّ هذا هو القدر المتیقّن من دلیل الاعتبار، أی بناء العقلاء وظاهر الآیات والأخبار.

وأمّا إن قلنا بشموله لما علم كذبه إجمالاً مثل المتعارضین، فإمّا أن یكون مؤدّى کلّ واحد منهما حكماً إلزامیاً فی موضوع واحد، كوجوب شیء أو حرمته، فیدخل فی باب التزاحم. وحكمه: إن لم یكن أحدهما الأهمّ أو محتمل الأهمّیة التخییر، وإلّا فیؤخذ بالأهمّ أو محتمل الأهمیّة.

وأمّا إن كان مؤدّى أحدهما الحكم الإلزامی، كالوجوب أو الحرمة، والآخر غیر الإلزامی، كالاستحباب والكراهة، فیؤخذ بما دلّ على الإلزامی، لعدم المزاحمة بین ما فیه الاقتضاء وما لیس فیه الاقتضاء.

نعم، إن قیل بأنّ دلیل غیر الإلزامی أیضاً یدلّ على أنّه كان عن العلّة والاقتضاء،

 

فیقع التزاحم بین المقتضیین، فالحكم هو الأخذ بما دلّ على غیر الإلزامی، لعدم العلم بتمامیة علّة الإلزامی والشكّ فی وصول علّته بمرتبة تقتضی الإلزام.

أقول: یمكن أن یقال: إنّه على فرض شمول دلیل الحجّیة لما علم كذبه إجمالاً وكون مؤدّى کلّ منهما حكماً إلزامیاً فی موضوع واحد، یكون الحكم تساقطهما لا التزاحم والتخییر؛ فإنّ تزاحم الملاكین والمقتضیین بلا ترجیح لأحدهما على الآخر یوجب عدم ثبوت الحكمین معاً، فالحكم فی ذلك ما یقتضیه الأصل لا التخییر لأجل التزاحم، لأنّ التزاحم إنّما یقع بین الدلیلین فی ظرف تحقّق الملاك لكلّ واحد منهما وعجز المکلّف فی مقام الامتثال عن الإتیان بكلیهما. وهكذا إذا كان دلیل غیر الإلزامی أیضاً دالّا على كونه عن علّة واقتضاء، فإنّ لازم ذلك عدم الحكم بأحدهما لتعارض المقتضیین.

وبعبارة اُخرى: الصحیح أن یقال: إذا كان مؤدّى أحدهما الحكم الإلزامی والآخر الحكم غیر الاقتضائی یؤخذ بالإلزامی، لعدم تعارض بینهما. وأمّا إذا كان مؤدّى الآخر الحكم الاقتضائی غیر الإلزامی، كالكراهة والاستحباب والإباحة، إذا كان عن علّة مقتضیة لها، فیقع التزاحم بینهما على مبنى صاحب الكفایة،([5]) لتعارض مثل مقتضى الوجوب ومقتضـى الكراهة فی شیء واحد، فیتساقطان. وهذا بخلاف باب التزاحم، فإنّ فیه یقدّم الإلزامی على غیره.

وأیضاً فما أفاد من الأخذ بحكم غیر الإلزامی الاقتضائی دون الإلزامی لعدم العلم بتمامیة علّة الإلزامی.([6])

فیه أیضاً: أنّ الحكم غیر الإلزامی مثل أصالة البراءة أو الإباحة یجری بعد تساقط الإلزامی وغیر الإلزامی الاقتضائی بالتعارض، فتأمّل جیّداً.

 

 

([1]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص465 - 470.

([2]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج2، ص465 470.

([3]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص471.

([4]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص382.

([5]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص387 - 388.

([6]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص387 - 388.

موضوع: 
نويسنده: