جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

فصل

لا إشكال فی أنّ عند تعارض الظاهر والأظهر یحمل الأوّل على الثانی فیما إذا ظهر ذلك. وأمّا إذا اشتبه الحال ولم یتیسّر التمییز، فهما ملحقان بما لا یمكن التوفیق بینهما، فلا یجوز ترجیح أحدهما على الآخر. ومع ذلك قد ذكروا لتقدیم أحدهما على الآخر وجوهاً، نشیر إلى بعضها وما قیل فیها:

منها: تقدیم العامّ على المطلق،([1]) والتقیید على التخصیص، فیما إذا كان أحد الدلیلین عامّاً والآخر مطلقاً؛ وذلك لأنّ ظهور العامّ فی العموم تنجیزی ومستند إلى الوضع، وظهور المطلق فی الإطلاق تعلیقی، فإنّه معلّق على مقدّمات الحكمة، الّتی منها عدم بیان ما یصلح أن یكون مقیّداً له، والعامّ صالح لأن یكون بیاناً، فإذا قال المولى: «لا تكرم الفاسق»، وقال بعده أو قبله: «أكرم العلماء»، فدلالة العامّ على شموله لجمیع أفراده تنجیزی لا تحتاج إلى أمر زائد على العامّ، بخلاف لا تكرم الفاسق، فإنّ دلالته وشموله لجمیع أفراد الفاسق معلّق على عدم ما یصلح أن یكون بیاناً له، والعامّ صالح لذلك، سواء كان صادراً قبل صدور المطلق أو بعده.

واُجیب عن ذلك:([2]) بأنّ عدم دلالة المطلق على الشمول والعموم موقوف على عدم ما یصلح أن یكون بیاناً للقید فی مقام التخاطب لا إلى الأبد. فعلى هذا، یقدّم

 

العامّ على المطلق إذا كان صادراً بعد العامّ، أمّا إذا صدر العامّ بعد المطلق وانعقاد ظهوره فی العموم والشمول لا یقدّم العامّ علیه، ولا یكون ظهوره أظهر من ظهوره.

ویمكن أن یقال: نعم، انعقاد ظهور المطلق فی العموم والشمول یحتاج إلى عدم البیان فی مقام التخاطب، لكن بقاء ظهوره فیه یحتاج إلى عدم البیان إلى الأبد، فكلّ ما ورد بعد ذلك یكون وارداً علیه وبیاناً له، فیكون المطلق قبل ذلك كالاُصول العملیّة بالنسبة إلى الأمارات، إذن یتّجه تقدیم التقیید على التخصیص مطلقاً، سواء كان العامّ وارداً قبل المطلق أو بعده.

وبهذا البیان لا نحتاج إلى التمسّك بالدور بأن یقال: لو لم یقدّم تقیید المطلق على تخصیص العامّ یلزم تخصیص العامّ إمّا بلا مخصّص أو على وجه دائر؛ فإنّ تخصیص العامّ بالمطلق متوقّف على إطلاقه المتوقّف على عدم كون العامّ بیاناً ومقیّداً له، وكون العامّ كذلك متوقّف على إطلاق المطلق.

وإن شئت قل: كون المطلق مخصّصاً للعامّ متوقّف على تحقّقه معه، وتحقّقه معه متوقّف على كونه مخصّصاً له.

ومنها: ترجیح التقیید لكونه أغلب من التخصیص.([3])

وردّ بمنع أغلبیة التقیید مع كثرة التخصیص حتى قیل: ما من عامّ إلّا وقد خصّ.([4])

ویمكن أن یقال: بناءً على تفسیر المشهور من المطلق بـ «الماهیة المرسلة»([5]) کلّما یقیّد المطلق بشیء فهو مستعمل فیها بالتقیید، والعامّ وإن خصّص بغیر ما خصّص به

 

مستعمل فی العامّ، وإنّما الخاصّ یدلّ على عدم كونه محكوماً بحكم العامّ لا على خروجه من تحته، فلذلك یكون التقیید فی المطلق أكثر بل مختصّ به دون العامّ.

وفیه: أنّ ذلك لا یوجب أولویة التقیید على التخصیص بهذا المعنى، فتأمّل.

منها: ما قیل بأنّه إذا دار الأمر بین التخصیص والنسخ یقدّم التخصیص على النسخ لغلبته وندرة النسخ.

أقول: إذا دار الأمر بین النسخ والتخصیص فورد مثلاً: «لا تكرم زیداً العالم» وبعد حضور وقت العمل به ورد «أكرم العلماء» فعلى القول بكون أصالة عدم النسخ كالاستصحاب من الاُصول العملیة، فالوجه كون العامّ ناسخاً للخاصّ بأصالة العموم، وانتفاء المعارضة بین العامّ والخاصّ لتقدّم الدلیل على الأصل. بل یمكن أن یقال: إنّ مثله لیس من النسخ الحقیقی، بل حكم ظاهریّ كسائر الأحكام الظاهریة والعامّ كاشف فی مورده عن الواقع والحكم الواقعی، والنسخ إنّما یكون فی الأحكام الواقعیة. واحتمال كون الخاصّ مخصّصاً للعامّ مردود، لكونه موجباً لتقدیم الأصل على الدلیل، كما لا یخفى.

وعلى القول بكون أصالة عدم النسخ من الاُصول اللفظیة مرجعها إلى أصالة العموم الجاریة فی الخاصّ، فالقول بتخصیص العامّ به مستلزم لتقدیم ما هو المستفاد من الإطلاق على المستفاد من الوضع. وبعبارة اُخرى: إنّه تقدیم العموم الأزمانی ـ الثابت للخاصّ بالإطلاق ـ على العموم الأفرادی ـ الثابت للعامّ بالوضع ـ وهو خلاف التحقیق. ومقتضـى ذلك: القول بالنسخ فی طرف الخاصّ، وحینئذ یمكن أن یقال: بأنّ غلبة التخصیص على النسخ موجب لقوّة ظهور الخاصّ فی العموم الأزمانی وأظهریته فیه من ظهور العامّ فی العموم الأفرادی. وبعبارة اُخرى: أظهریة التخصیص على التقیید.

 

ولكن یمكن أن نقول: إنّه لیس هنا نسخ وناسخ ومنسوخ، فإنّ ظهور الخاصّ فی حرمة إكرام زید فی جمیع الأزمنة یكون بالإطلاق المتوقّف على عدم البیان، والعامّ صالح لأن یكون بیاناً، وعلیه یكون الأخذ بالعامّ بدلیله وأصالة العموم، وترك إطلاق الخاصّ لعدم انعقاد ظهوره فیه وعدم الدلیل علیه. نعم، لا یجیء ذلك على مختار صاحب الكفایة، فإنّه عدّ من مقدّمات الحكمة([6]) عدم القدر المتیقّن فی مقام التخاطب، فتدبّر جیّداً.

ثم إنّه بناءً على اعتبار عدم حضور وقت العمل فی التخصیص یشكل الأمر فی تخصیص الكتاب أو السنّة بالأدلّة المخصّصة الواردة عن الأئمّة الطاهرین^؛ وذلك لأنّ دوران الأمر بین التخصیص والنسخ فیما إذا كان الخاصّ وارداً قبل حضور وقت العمل بالعامّ غیر معقول، لأنّ النسخ حقیقته رفع الحكم الفعلی، وقبل حضور وقت العمل لا حكم فعلیّ حتّى یرفع بالنسخ فلیس هنا إلّا التخصیص.

وكذلك لا یعقل الدوران بینهما إذا كان الخاصّ وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، فإنّه لا یمكن أن یكون مخصّصاً للعامّ، لأنّه مشروط بكونه وارداً قبل حضور زمان العمل بالعامّ، وبعده لا یكون إلّا ناسخاً له.

وربما یجاب عن ذلك بالالتزام بالنسخ بناءً على جواز ورود النسخ عن الأئمّة^، بأن یقال: إنّ النبی|، أنشأ الناسخ ولكن لم یخبر به غیر الأئمّة^، ولم یأذن لهم أن یخبروا به الناس إلّا عند اقتضاء المصلحة أو عند رفع المانع من إظهاره والإخبار به.

وفیه: أنّ هذا بعید جدّاً وخلاف إكمال الدین بتبلیغ جمیع أحكامه وشرائعه، مضافاً إلى أنّه لیس من النسخ الحقیقی.

 

وأیضاً ربما یجاب عن هذا الإشكال بأنّ من الممكن كون العامّ محفوفاً بقرائن یستفاد منها ما یستفاد من الخاصّ ولكن بمرور الزمان خفیت القرائن، والخاصّ إخبار عن الحكم الصادر عن النبیّ|.

وهذا قریب جدّاً، لاسیّما وقد حدث بعد ارتحال النبیّ| إلى الرفیق الأعلى من الأحداث السیاسیة وغصب حقّ أمیر المؤمنین×، ومنع الحكومة الروایة عن النبیّ| بناءً على أساسهم الفاسد بقولهم: حسبنا كتاب الله، حتى منعوا النبیّ| عن كتابة وصیته فی مرض موته.([7])

فلا یقال: إنّ عموم البلوى بالأحكام یمنع من خفائه لكثرة الدواعی فی نقلها وحفظها.

فإنّه یقال: نعم، ولكن قد وقع من الاُمّة ما لا یستبعد بوقوعه خفاء أكثر الأحكام حتى أنّ القوم أیضاً اعترفوا بتلك المصیبة العظمى، فقد جاء فی صحیح البخاری أنّ أنس قال: ما أعرف شیئاً ممّا كان على عهد النبیّ|، قیل: الصلاة؟ قال: ألیس ضیّعتم ما ضیّعتم فیها، وروی نحوه عن أبی الدرداء وغیرهما.([8])

 

 

([1]) انظر الوجه والاستدلال علیه فی فرائد الاُصول (الأنصاری، ص457) نقلاً عن سلطان العلماء.

([2]) الخراسانی، كفایة الأُصول، ج2، ص 404.

([3]) نقله الشیخ& واستشكل علیه فی فرائد الاُصول (الأنصاری، ص457).

([4]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص404.

([5]) راجع: القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص321 (المطلق والمقید)؛ الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص218 (فصل المطلق)؛ الخراسانی، كفایة الاُصول (المقصد الخامس: فی المطلق والمقید).

([6]) الخراسانی، كفایة الاُصول، الفصل الأوّل من المقصد الخامس فی المطلق والمقیّد.

([7]) البخاری، صحیح، ج5، ص137 – 138؛ المسلم النیسابوری، صحیح، ج5، ص76.

([8]) راجع فی ذلك مقدّمة كتابنا:  أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف. [منه دام ظلّه العالی].

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: