سه شنبه: 1402/12/29
نسخة للطباعةSend by email
البناء علي المشاهد المشرّفة

 

هل یجوز البناء على القبور مطلقاً، وهل یصحّ بناء المراقد الكبیرة لرسول الله‌صلى الله علیه وآله وسلّم؟ و هل هنا ما یدلّ علی کراهة ذلک حتّی علی قبر النّبی‌صلی الله علیه و آله؟ و ما هو موقفكم من الحركة الوهّابیة بهدم القبور، والمنع من تجدیدها، فهم یتّهمون سائر المسلمین بذلک بالشرک؟

 

ج. أمّا الکراهة فالجواب عنه حسب الدلیل الفنی و العلمی استثناء هذه القبور من إطلاق الروایات الدالة على الكراهیة، فیكون دلیل الكراهة مقیداً، كما صرح به المحقق الهمدانی، لأنّ ضرورة النقل و المذهب تقضی برجحان تعمیر المشاهد المشرفة و وجوب حفظها عن الاندراس، وتجدید عمارتها وكونها من أعظم الشعائر التی یجب تعظیمها، فضلاً عن شهادة الأخبار بذلك، فعلى هذا ما دلّ على الكراهة، إطلاقه مقیّد بهذه الضرورة المذهبیة والأخبار التی تدل بالمطابقة والالتزام على تقییده. ومن جانب آخر نمنع شمول الإطلاق المذكور لهذه القبور المباركة، وذلك لأنّ المستفاد من روایات الكراهة أنّ البناء على القبور یُعدّ نوعاً من التبذیر وصرف المال فی غیر وجهه، لعدم ترتب فائدة على ذلك، ولأنّه یكون معرضاً لإظهار الاستعلاء والمفاخرة والتسابق والتزاید، كما نرى فی بعض الأبنیة المبنیة على قبور الظلمة المستكبرین، وذوی السلطة والثروة مثل تاج محل وغیره من الذین ینبغی أن ینساهم الناس وتمحى آثارهم ومواضعهم الظالمة، ولأنّه موجب لتوهین أصوات سائر الناس من المؤمنین، ولغیر ذلك من المصالح والحیثیات الكامنة فی هذه الكراهة، التی لا توجد بالنسبة إلى قبور الأنبیاء والأئمة وعلماء الدین، فلا تشمل مثل هذه الكراهة قبور أُولئك الذین یفتخر الدهر وتاریخ الإنسانیة بهم، ویجب الاهتمام بحفظ آثارهم وتخلید أسمائهم وأماكنهم لیكونوا أُسوة للناس على مرور الأعصار والأدوار. والعقل یحكم بأنّه لا ینبغی نسیان الشخصیات الذین خدموا المجتمع خدمات جلیلة، ویجب أن تُخلّد أمجادهم، وأن یذكرهم الناس بخیر ویقدّروا جهودهم فی سبیل إعلاء كلمة الإسلام. فهل ترى شمول هذه الكراهیة للبناء على قبر مثل جعفر بن أبی طالب، و زید بن حارثة، وعبدالله بن رواحة، حتى لا ینسى الدهر والتاریخ أشخاصهم ولا ینسى موقعة مؤته؟!

وهل لبقاء قبورهم ومشاهدهم إلى زماننا هذا، معنى غیر إعلان شرف للأُمّة وإثبات لخلوص النیة، وشهادة لما دوّنه المؤرخون فی صفحات التاریخ.

وهل تجد رمزاً أصح لواقعة مؤتة وتضحیة هؤلاء الأعزة بنفوسهم فی سبیل الله تعالى، من مشاهدهم وقبورهم هناك؟ فواجب الأُمّة دینیاً وعقلیاً هو الاحتفاظ بتلك القبور، وتعظیم تلك المشاهد، فإنّها من الدلائل العینیة لصحة التاریخ، التی هی أقوى من المنقولات التاریخیة.

فلو اكتفى بالتواریخ القرطاسیة یصیر التاریخ بمرور الأیام وطول الأزمنة معرضاً للشك والإنكار، و كما ترى الآن أنّ بعض الباحثین یبدون الشك فی وجود بعض الأنبیاء العظام، لأنّه لا یوجد له مرقد ومشهد وأثر فی العالم الخارجی.

و أمّا توهّم الشرک بذلک فلم یتوهمه احد من المسلمین؛ علمائهم و اجلائهم فی تلک القرون التی مضت علی القبة الخضراء فیه النبی الاعظم صلی الله علیه و آله. وقد كان من أكبر الجرائم على تاریخ الإسلام، هدم مشاهد أهل بیت النبی‌صلى الله علیه وآله وسلم وغیرهم من أعلام تاریخ عصر النبوة من شهداء الغزوات والسرایا والصحابة، فی الحرمین الشریفین، فقد كان الحرمان الشریفان بما فیها من هذه المشاهد والآثار العینیة التاریخیة تجسیداً لتاریخ الإسلام أمام الناظرین من الأجیال والباحثین فی التاریخ.

فرسول الله محمد بن عبد الله المبعوث رحمة إلى كل العالمین، هذا هو قبره الشریف المبارك، وأبوه عبد الله وأُمّه آمنة، هناك قبرهما، وأُمه الرضاعیة حلیمة السعدیة، هذا هو قبرها، وعمه وحامیه والدافع عنه والذی كان یؤثره على أولاده، هذا قبره، وزوجته المؤمنة البارّة به وناصرته والمؤیدة له السیدة خدیجة أُم المؤمنین، صاحبة المواقف الكریمة فی مبدأ بزوغ شمس الإسلام، هذا قبرها، وعبدالمطلب جده الذی كان شریف القوم وعظیم مكة، هذا قبره، وفاطمة بنت أسد كفیلة النبی علیهم السلام، هذا قبرها فی المدینة، وحمزة سید الشهداء عمه، هذا مشهده فی أحد. وهذا مكان میلاد النبی‌صلى الله علیه وآله وسلم الذی خرّبوه وبنوا مكانه مكتبة باسم مكتبة مكة المكرمة ثم أرادوا تخریبه نهائیاً لیمحو أثر میلاده صلى الله علیه وآله وسلم.

هذه المشاهد التی سمّیناها، وسائر المشاهد المحمدیة التی كانت تاریخنا فقضوا علیها، و نفوها عن صفحة ‌الوجود بما لم یقض أجهل آحاد امة على تاریخها.

ولذا فإنّ كل باحث فی تاریخ الإسلام یعتبر أنّ هدم هذه الآثار من أكبر الجرائم على تاریخ الإسلام، الذی كان مقروناً بتلك الشواهد العینیة والمزارات المباركة التی بقیت طوال أربعة عشر قرناً وكانت لا تزال إلى قبل هذه الهجمة الخشنة الوحشیة تحكی للعالم مواقف الرسول الأعظم‌صلى الله علیه وآله وسلم وأهل بیته وأصحابه. قد تعاهدها المسلمون من عصر الصحابة والتابعین، بتشییدها والمحافظة علیها و زیارتها. والآن لا تجد من كل تلك المشاهد إلا قبة النبی‌صلى الله علیه وآله وسلم، و روضته المقدسة المباركة المتروكة لیلاً بلا مصباح، والممنوع على المسلمین أن ینظروا إلى داخلها، والحال أن قلوب أكثر من میلیار مسلم (ما عدا هذه الفئة المستحدثة الظهور ارتكبت هذه الجریمة المنكرة) تتشوق إلى زیارتها واستلامها وتقبیلها، حباً لصاحبها الذی یعتقدون أنّه عبدالله و رسوله، ولسان حالهم هذان البیتان:

أمرّ على الدیار دیار لیلى                   أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الدیار شغفن قلبی                 ولكن حبّ من سكن الدیارا

كل هذه الخسارات نزلت بالإسلام والمسلمین باسم التوحید والنهی عن الشرك والبدعة والتهمة الموجهة إلى الموحّدین المخلصین، الذین هم براء من الشرك و أبعد منه من المشرق عن المغرب.

          واللازم مطالبة المسؤولین القائمین على إدارة أُمور الحرمین الشریفین أن یعیدوا هذه المشاهد والمواقف المهدومة ویحتفظوا بها، فلا یلیق بمن درس فی الجامعات وعرف خطر وقوع هذه الآثار فی معرض الضیاع والنسیان متابعة عدة قلیلة من الجهلة الجامدین، الذین لایعرفون من الشریعة السمحاء السهلة غیر ما بنوا علیه تعصبهم ومنعهم الناس عن التقدّم الصناعی، حتى كانوا یرون الكهرباء والتلغراف والرادیو وسائر مظاهر التمدّن بدعة.

          ومن جانب آخر نقول: إنّ هذه المشاهد الشریفة من البیوت التی أذن الله أن ترفع ویذكر فیها اسمه، وأن یعبد الله فیها وبیت علی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام، قد أخرج المحدث الشهیر ابن مردویه عن أنس بن مالك وبریدة قال: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْكَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ فَقَامَ إِلَیْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَیُّ بُیُوتٍ هَذِهِ یَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: بُیُوتُ الْأَنْبِیَاءِ. فَقَامَ إِلَیْهِ أَبُوبَكْرٍ فَقَالَ: یَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا الْبَیْتُ مِنْهَا وَ أَشَارَ إِلَى بَیْتِ عَلِیٍّ وَ فَاطِمَةَ ع؟ قَالَ: نَعَمْ مِنْ أَفْضَلِهَا.(1)

وأمّا مسألة التزیینات فلا أرى فیها بأساً، وإلاّ فإن فتح باب المنع من ذلك تجاوز عنها إلى غیرها كتشیید مبانی المسجدین وبنائها بهذه الصورة الفخیمة التی تزید على التزیینات المذكورة بأضعاف مضاعفة.

نعم، زخرفة المساجد بتذهیبها منهیٌّ عنه، وهی مختصة بخصوص التذهیب لا بتزیینها بمثل القاشی وغیره، ولا یتعدى النّهی من التذهیب إلى غیره.

 

* (1) بحار الانوار، ج23، ب19.

 

 

الخميس / 17 سبتمبر / 2015