پنجشنبه: 1403/02/6
نسخة للطباعةSend by email
يوم الحسين (عليه السلام)

 

لا توجد واقعة من بین الحوادث والوقائع الكبیرة والمؤلمة فی التاریخ تُقام فیها مراسم سنویة بهذه الجلالة والعظمة، مثل واقعة كربلاء، إذ تشترك فیها كافة الطبقات والشرائح الاجتماعیة، من النّساء والرجال، والشیوخ والشباب، وتُعقد فیها مجالس الذكرى فی البیوت والمساجد والحسینیات والمدارس والشوارع والأسواق، ویتحدث بشأنها الخطباء، ویدبِّج الكتّاب حولها المقالات، ویؤلفون الكتب.

إن مرور الأیام، وتكرار ممارسة هذه الشعائر لن یجعلها قدیمة، ولن یقلّل من أهمیتها واعتبارها، بل أن عظمتها تزداد تألُّقاً فی كل یوم، وأن المعانی الرفیعة والأهداف القیمة لفلسفتها تُدرك وتُستخلص فی كل عصر.

إن یوم الحسین أضحى یوماً خالداً، لا یُمحى من الذاكرة أبداً مهما امتدّت الأزمنة والعصور.

و إن واقعة عاشوراء، هی الواقعة التی هَوَت على ترابها تعظیماً وإجلالاً قلوبُ أهل الإیمان، وعشّاق الفضیلة والحقیقة، وغَدَتْ مشعلاً وهاجاً یستضیء به عظماء الرجال وقادة الإصلاح على مرّ القرون، كلّما أحاطت بهم ظلمات الیأس والقلق والحیرة.

إن ما قام به الحسین الشهید (علیه السلام)، یعجز التاریخ عن تسجیله وعرضه للأجیال، لأنّه لم یكن عملاً عادیاً، وإنما كان عملاً استثنائیاً، ونهضةً لم یسبق لها مثیل.

كان عملاً إلهیاً، شهد له مخلوقات عالم الجبروت، وسُكّان صوامع الملكوت والملأ الأعلى بأنّه أكبر تجلٍّ للكمال الإنسانی، وسمّو مقامه.

وهو المثال الأعلى الذی تظهر فیه قوة الإرادة، وشدّة العزم والثّبات، والإیمان العمیق، والتّضحیة والفداء والشجاعة عند أولی الألباب، وروّاد الفضیلة، والمتّصلین بالحقائق العالیة: أولی العزم من الأنبیاء، والأولیاء المقرّبین، وشهداء طریق الهدایة والصلاح.

إن خلوص الإیمان، والرجولة، والصراحة، والوفاء، والهمّة العالیة، والصبر، والاستقامة، ومقاومة الظلم والعدوان، وغیرها من الصّفات، لتبرز وتتجلّى بشكل سافر فی كلّ مشاهد تلك الملحمة البطولیة، من بدایتها إلى نهایتها.

وإن سمّو الهدف، وإباء النفس، واللامبالاة بزخارف الدنیا وبالمادیات، واختیار الموت بعزة و شرف على الحیاة بذلّة وهوان... كانت هی المعانی السائدة فی كلّ أحداث تلك الواقعة الخالدة.

وبیان هذه القصّة، هو بیان لكمال الروح، وإزراء بكل المظاهر المادیة واللذائذ الدنیویة، وإدانة للشرك والكفر والظلم والجور.

إن تاریخ هذه الواقعة المأساویة، هو تاریخ تضحیة لا مثیل له فی سبیل المبدأ والعقیدة، واحترام لشرف وكرامة الحق، وسعی من أجل إنقاذ وتحریر الطبقات المحرومة...

فلا عجب إذن أن یتردّد صداها فی أرجاء العالم، وأن یكون نداؤها كنداء الأذان، ثابتاً، خالداً، مدوّیاً فی المسامع.

و بالرّغم من أن الخطباء والكتّاب یتحدّثون عن هذه النهضة منذ أكثر من (1300) سنة، ویُحیّون رجالَها المؤمنین الأُصلاء، الذین استقاموا فی طریق الهدى والإیمان بالله وتجسید أحكامه، فإنّها لا تزال حیّةً فی النفوس، وإنّ معانیها الثرّة لم تنضب أبداً.

أولئك كانوا فتیةً صادقین، جعلوا حبَّ الدنیا وصورة الموت المرعبة تحت سیوفهم ورماحهم، ولم یخضعوا أو یستكینوا لطغیان أهل الباطل، ولكل ما یُزعزع الإرادة، ویُضعف الهمّة من جاه ومقام ومال وثروة وزوجة وأولاد، وجعلوا كل ذلك وراء ظهورهم، وتبوؤا أسمى مقام لحریة الروح.

و إزاء هؤلاء، كانت تقف مجموعةٌ وضیعة، ذوو نفوس ملوّثة، لم تتحرّر قلوبهم وأرواحهم من قیود عبودیة المنصب والجاه والشهوات، ولم یكن لهم نصیب من حریة الضمیر ویقظة الوجدان، ولم یتورّعوا عن قتل عباد الله الاخیار والأطفال والرضّع، وسفك دمائهم.

إن النّصر ـ فی حساب أصحاب النظرة المادیة ـ كان قد قطفه الأشرار وأعداء الدین من هذا الصّراع، ولم تكن عندهم أیّة قیمة لإیمان وعقیدة الحسین وأصحابه، والتی كانت مظهراً عدیم المثیل للاستقامة والفداء.. فنهایة یوم عاشوراء، كانت فی نظرهم نهایةَ تلك الحادثة الكبرى.

أمّا فی حساب الواقع وتاریخ الفضیلة وعروج الرّوح إلى الآفاق، وفی حساب موازین القرآن والاسلام، فإنّ النصر الدائم یرفرف على الحسین (علیه السلام) وأصحابه.

إن قیمة الإنسان فی موازین أصحاب الفضیلة لیست فی هذه المنافع الزائلة واللذائذ الفانیة، وحساب الرّبح والخسارة، والإخفاق والنصر للرجال العظماء، بهذه الموازین لیس صحیحاً.

إن قیمة الأشخاص فی میزان الحقیقة، تكمن فی مقدار قوة إیمانهم وإرادتهم. والإنتصار الحقیقی، هو انتصار الباطن على الظاهر، والروح على الجسم، والحقیقة على المجاز.. الانتصار، هو الثبات فی طریق الغایة المتوخاة، والتغلّب على عوامل ضعف الروح واضمحلال الإیمان. نعم، كلّ الناس یموتون، وكثیر منهم استشهد فی سبیل العقیدة والإیمان بالحق، ولكنهم لم یشتهروا ویُخلَّدوا مثل شهداء كربلاء، فالتّحرر والثبات اللذین أبداهما أصحاب الطفّ، لم یبرزا فی سائر میادین الصراع بین الحق والباطل.

والحق أنهم لو نكصوا فی ذلك الیوم عن میدان المعركة حباً للنفس والمال والمقام، وفَرَقاً من السیف والموت، لَلِحقَ بالمُثُل الإنسانیة والموازین الإسلامیة من الضرر والأذى أكثر مما یُتصوَّر.

إن حادثة كربلاء لم تكن صراعاً یختصّ بأرض كربلاء، ولا حرباً بین الأشخاص الذین كانوا یتقابلون فی ساحة المعركة، بل كانت صراعاً بین الحق والباطل، والكفر والإسلام، وإذا كان أصحاب الحق قد تراجعوا فی ذلك الیوم، فإنّ تراجعهم لا یقف عند حدود ذلك الزمان وذلك المكان، بل ستمتدّ آثاره السلبیة وأخطاره إلى الأجیال اللاحقة، ذلك أنّ الناظرین إلى ذلك المشهد الدموی، لم یكونوا مسلمی ذلك العصر وحدهم، وإنّما هم جمیع أبناء الأُمّة الإسلامیة، وكل المظلومین والمحرومین على مرّ العصور، ومن هنا أظهر الإمام الحسین (علیه السلام) وأصحابه ذلك الثّبات العجیب والمحیّر فی تلك المعركة، فلقد مزّق العدو أجسامهم إرباً إرباً، ولكنه لم یستطع أن یُخضع أرواحهم وإراداتهم وأن یثنیهم عن أهدافهم ونیّاتهم:

قد غَیَّر الطعن منهم كلَّ جارحة *** إلاّ المكارم فی أمن من الغِیَرِ

إن هذه الواقعة غنیة بالدروس التربویة البلیغة النافعة، وهی مدرسة مفتوحة للجمیع، انتشرت صفوفها وشعبها فی جمیع أنحاء المعمورة: فی المدینة وفی القریة... فی الخیمة وفی ناطحات السحاب، لتهدی الناس إلى الفضائل الإنسانیة، والقیم المعنویة.

ومن البدیهی أن مثل هذا الموضوع لا یصبح قدیماً أبداً، بل یبقى جدیداً طریّاً، یهمّ الجمیع ویروق لهم. وهو من جانب آخر یوافق الأحادیث الشریفة الصحیحة والمعتبرة، ومن هنا فإنّ الكتابة والخطابة حوله، فیهما أجر عظیم، و قربٌ من الله تعالى ورسوله الأكرم (صلى الله علیه وآله وسلم).

وعلاوة على ذلك، فإنّ القصة الحقیقیة لكربلاء، هی قصة صراع الحق مع الباطل، ومناهضة العدوان، وكفاح الفضیلة ضد الرذیلة، وهذه بالطبع هی موضع اهتمام كل صاحب وجدان، وكل باحث عن العدالة، ومتطلّع للحریة، وتثیر الأحاسیس الطاهرة والضمیر الحی والشّعور المرهف لدى الإنسان، وتجعل منه عاشقاً مُتیَّماً بأبطال هذه الواقعة.

ومن هنا وُضعت آلاف الكتب، ونُظمت مئات القصائد، ولم ینسَ الكُتّاب والشعراء الحسینَ الشهید (علیه السلام) حتى فی عصور الإرهاب الفكری، والضّغط الشدید والقتل والإذلال ومصادرة الأموال وسلب الحقوق، وغیر ذلك من الأعمال التی مورست فی العصرین الأُموی والعباسی، وأیّام تسلّط (متوكّلهم).

 

المصدر: کتاب "الشعائر الحسینیة" من مؤلفاة سماحة آیة الله العظمی الصافی الکلبایکانی مدظله العالی

 

السبت / 17 أكتوبر / 2015