سه شنبه: 1402/12/29
نسخة للطباعةSend by email
بحث فقهي في حکم لُبس السواد

 

بحث فقهی فی حکم لُبس السواد

لسماحة آیة الله العظمی الشیخ لطف الله الصافی الکلبایکانی دام ظله العالی

 

 

 

 

 

هل أنّ لبس السواد فی عاشوراء حزناً على الإمام الحسین علیه السلام، أمر مستحب أو راجح شرعاً؟ وهل یتنافى ذلك مع ماهو معروف فی فقهنا من كراهة لبس السواد؟

 

الجواب:

نعم انّ لبس السواد فی عزاء سید الشهداء وعزاء سائر المعصومین ـ صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ـ من الأعمال الراجحة، ومن مصادیق تعظیم شعائر الله، ومن مظاهر إعلان الولایة للنبی وآله والبراءة من أعدائهم وظالمیهم، وقد كان هذا المظهر وغیره من مظاهر الحزن شعاراً لمحبی أهل بیت النبی الطاهرین من صدر الاسلام إلى یومنا هذا.

أمّا فتوى عدد الفقهاء بما ینافی ظاهرها ذلك فهی أوّل الكلام، وأمّا الروایات الواردة فی كراهة لبس الثیاب السواد، فهی إن تمّت لا تشمل لبس السواد حزناً فی مناسبات عزاء المعصومین (علیهم السلام)، وخلاصة الكلام فی ذلك:

أوّلاً: أنّ عمدة دلیل الفتوى بكراهة لبس الثیاب السود هو دعوى الإجماع، وهو إجماع غیر محصّل، وعلى فرض أنّه محصّل لا یكون كاشفاً عن قول المعصوم (علیه السلام)، لاحتمال استناده إلى الاخبار الواردة فی هذا الباب.

أمّا الأخبار التی قد یستدلّ بها فعمدتها مراسیل وضعاف، وإنّما تمسّك من أفتى بالكراهة اعتماداً على التسامح فی أدلّة السنن بناء على شموله لأدلّة المكروهات أیضاً.

لكن یرد علیه أنّ من المشكل شمول دلیل التسامح فی أدلّة السنن والمستحبات لأدلّة المكروهات، لأنّ غایة ما یستفاد منه أنّ من بلغه من النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)شیء من ثواب ففعل ذلك طلب قول النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)كان له ذلك، وإن كان النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)لم یقله .([1])

فكیف یمكن تعمیم ذلك إلى أدلة ترك العمل برجاء الثواب إلاّ باعمال عنایة بأن یفترض أنّ المقصود منها (من بلغه ثواب على عمل أو على ترك عمل) وهو محل إشكال وتأمّل.

ثانیاً: أنّ القول بجبران ضعف الأخبار الدالّة على كراهة لبس السواد بعمل الأصحاب لایتم إلاّ إذا ثبت استنادهم فی فتواهم بالكراهة إلیها، لكن یحتمل استنادهم إلى قاعدة التسامح فی أدلّة السنن، فلا یتم المطلوب.

ولو سلّمنا تمامیة انجبار ضعف الأخبار بالعمل، فإنّ دلالتها على كراهة لبس السواد مطلقاً محل إشكال، بل منع كما سیأتی.

ثالثاً: لو سلّمنا تمامیة الأخبار المذكورة وقبول الفتوى بكراهة لبس السواد، فإنّ إثبات حكم موضوع لموضوع آخر، أو إثبات حكم موضوع ذی خصوصیة لموضوع فاقد الخصوصیة، لا یصح إلاّ مع الیقین بتساوی الموضوعین فی موضوعیتهما للحكم، وبعدم دخالة الخصوصیة فی الحكم، وإلاّ لكان قیاساً وحكماً بغیر علم.

ومن أین لنا العلم بأنّ لبس السواد حزناً لمناسبات عزاء المعصومین(علیهم السلام) لا خصوصیة له؟! فیبقى لبس السواد فیها على حكمه الأولی، وهو الاستحباب والرجحان، لأنّه من مصادیق إعلان الولایة والبراءة، ومصادیق تعظیم شعائر الله تعالى، ومصادیق «یحزنون لحزننا...»([2]) وغیرها من الأدلّة المعتمدة.

2- الظروف السیاسیة لأخبار لبس السواد

من الثابت تاریخیاً وفقهیاً أنّ بنی العباس جعلوا شعارهم فی حركتهم الرایات السود، والظاهر أنّ هدفهم من ذلك محاولة تطبیق أحادیث النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) فی المهدی (عج) وظهور الرایات السود التی تمهّد له، على حركتهم ورایاتهم!

ثم اتّخذوا لبس الثیاب السود شعاراً لهم وعلّلوا بأنّه شعار حزن على قتل الإمام الحسین (علیه السلام)وغیره من شهداء أهل البیت (علیهم السلام)، وبأنّه أكثر هیبة.

وبعد سیطرتهم ألزموا أعضاء دولتهم به ثم ألزموا عامّة الناس بلبس السواد! ثم بلبس القلانس ([3]) السوداء الطولیة!!.. الخ.

وهذه نماذج من أخبارهم فی ذلك:

* روی ابن شهر آشوب فی كتاب «مناقب آل أبی طالب» عن «تاریخ الطبری»: أنّ إبراهیم الإمام أنفذ إلى أبی مسلم لواء النصرة وظل السحاب، وكان أبیض طوله أربعة عشر ذراعاً مكتوب علیها بالحبر (أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِیرٌ)([4])، فأمر أبو مسلم غلامه أرقم أن یتحوّل بكلّ لون من الثیاب، فلمّا لبس السواد قال: معه هیبة، فاختاره خلافاً لبنی أمیة، وهیبة للناظر. وكانوا یقولون: هذا السواد حداد آل محمد، وشهداء كربلا، وزید، ویحیى.([5])

وروی أبو الفرج الاصفهانی فی كتابه «مقاتل الطالبیین» .

أخبرنا یحیى بن علی قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا علی بن الجعد قال: رأیت أهل الكوفة أیام أخذوا بلبس السواد حتى أنّ البقّالین إن كان أحدهم لیصبغ الثوب بالأنقاس([6]) ثم یلبسه.([7])

* وقال: عن عبد الله بن الحسین بن عبد الله بن إسماعیل بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب: امتنع من لبس السواد، وخرقه لمّا طولب بلبسه، فحبس بسر من رأى حتى مات فی حبسه، رضوان الله علیه.([8])

* عن القاسم بن عبد الله بن الحسین بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (علیه السلام): كان عمر بن الفرج الرخجی حمله إلى سر من رأى، فأمر بلبس السواد فامتنع، فلم یزالوا به حتى لبس شیئاً یشبه السواد، فرضى منه (بذلك) وكان القاسم رجلاً فاضلاً.([9])

* وقال ابن الاثیر فی «البدایة والنهایة» عن الأوزاعی: «وقد اجتمع الأوزاعی بالمنصور حین دخل الشام ووعظه وأحبّه المنصور وعظّمه، ولمّا أراد الانصراف من بین یدیه استأذنه أن لا یلبس السواد فأذن له، فلمّا خرج قال المنصور للربیع الحاجب: الحقه فاسأله لم كره لبس السواد؟ ولا تعلمه أنّی قلت لك، فسأله الربیع؟ فقال: لأنّی لم أر محرماً أحرم فیه، ولا میتاً كفن فیه، ولا عروساً جلیت فیه، فلهذا أكرهه».([10])

وقال: «وفیها بایع المأمون لعلی الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسین الشهید بن علی بن أبی طالب أن یكون ولی العهد من بعده، وسمّاه الرضا من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقالیم، وكانت مبایعته له یوم الثلاثاء للیلتین خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتین، وذلك أنّ المأمون رأى أنّ علیاً الرضا خیر أهل البیت، ولیس فی بنی العباس مثله فی علمه ودینه، فجعله ولی عهده من بعده... فلمّا كان یوم السبت الآخر (سنة 204 هـ) دخل (المأمون) بغداد حین ارتفع النهار لأربع عشرة لیلة خلت من صفر، فی أبّهة عظیمة وجیش عظیم،وعلیه وعلى جمیع أصحابه وفتیانه الخضرة، فلبس أهل بغداد وجمیع بنی هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحوّل إلى قصر على دجلة، وجعل الأُمراء ووجوه الدولة یتردّدون إلى منزله على العادة، وقد تحوّل لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا یحرقون كلّ ما یجدونه من السواد،فمكثوا كذلك ثمانیة أیام.

ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسین([11])، فكان أوّل حاجة سألها أن یرجع إلى لباس السواد، فإنّه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبیاء. فلمّا كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرین من صفر جلس المأمون للناس وعلیه الخضرة، ثم إنّه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهراً، ثم ألبس بعده جماعة من الأُمراء السواد،فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة، وقیل: إنّه مكث یلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعاً وعشرین یوماً، فالله أعلم.([12])

 

 

[1] . الوسائل: ج 1 ص 60، الباب 18 من أبواب العبادات، ح 4 .

[2] .  ذكر الشیخ الصدوق فی خصاله فی حدیث الأربعمائة عن أمیر المؤمنین (علیه السلام)أنّه قال: إن الله تبارك وتعال اطّلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شیعة ینصروننا، ویفرحون لفرحنا، ویحزنون لحزننا، ویبذلون أموالهم وأنفسهم فینا، أُولئك منا وإلینا. الخصال: 2 / 625 ; بحار الأنوار: 44 / 287 ح 26 .

[3] . جمع قلنسوة وهو نوع من ملابس الرأس وهی على هیئات متعدّدة.

[4] . الحج :39.

[5] . مناقب آل أبی طالب: 3 / 86.

[6] . الأنقاس: جمع نقس ـ بالكسر ـ المداد أو الحبر الذی یكتب به .

[7] . مقاتل الطالبیین: 212.

[8] . مقاتل الطالبیین: 393.

[9] . المصدر نفسه: 407.

[10] . البدایة والنهایة: 10 / 127.

[11] . هو أبو الطیب أو أبو طلحة طاهر بن الحسین بن مصعب بن زریق بن ماهان الملقّب بـ «ذو الیمنین» والی خراسان، كان من أكبر قوّاد المأمون والمخلصین فی تثبیت دولته فی محاربة أخیه الأمین محمد بن زبیدة ببغداد .

كان جده زریق بن ماهان أو باذان مجوسیاً، فأسلم على ید طلحة الطلحات الخزاعی المشهور بالكرم والی سجستان، وكان مولاه ولذلك اشتهر بالطاهر الخزاعی.

وبنو طاهر ینسب إلیهم التشیع. رسالة فی آل أعین: 12 ; مستدركات علم رجال الحدیث: 289 برقم 8198 ; سیر أعلام النبلاء: 10 / 108 برقم 7.

[12] . البدایة والنهایة: 10 / 269 ـ 273. وذكر شبیهاً لما تقدم الیعقوبی فی تاریخه: 2 / 448، 453، والمسعودی فی التنبیه والأشراف: 302 .

السبت / 17 أكتوبر / 2015