پنجشنبه: 1403/01/9
نسخة للطباعةSend by email
من رسالة علمية للمرجع الديني الكبير الصافي الگلبایگاني في تفسير آية التطهير
رسالة في تفسير آية التطهير

بسم اللَّه الرحمن الرحیم‏

الحمد للَّه‏ ربِّ العالمین، وصلّى اللَّه على سیّد رسله أبی القاسم محمدٍ وآله المطهّرین المعصومین.

من الآیات التی استدلّ بها على عصمة سیّدة نساء العالمین وسادتنا الأئمة الهداة المیامین- علیهم أفضل صلاة المصلِّین- وطهارتهم عن كلّ رجس: آیة التطهیر.

قال اللَّه تعالى: [إنَّما یُریدُ اللَّهُ لِیُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَیتِ وَیُطَهِّرَكُمْ تَطْهِیراً][1].

وجه الاستدلال بها مضافاً إلى الأخبار الكثیرة التی أخرجها أعلام المحدِّثین وأكابر المفسّرین من العامة والخاصة فی كتب الحدیث والجوامع والمسانید وكتب التفسیر عن النبی صلى الله علیه و آله وأهل بیته وأصحابه: أنّ لفظة «إنما» محقّقة لِما ثبت بعدها، نافیة لِما لم یثبت.

والإرادة التی جاءت فی الآیة الكریمة هی الإرادة الحتمیة والحقیقیة التی یتبعها التطهیر، دون ما یسمّونه بالإرادة التشریعیة التی یتبعها الأمر أو النهی.

وذلك لأنّه تعالى أراد التطهیر عن الأرجاس عن جمیع المكلّفین بالإرادة التشریعیة ؛ أی‏إنشاء البعث أو الزجر، وأمرهم بكلّ ما ینبغی أن یفعلوه، ونهاهم عن كلّ ما ینبغی أن یتركوه، والآیة الكریمة تدلّ على اختصاص الإرادة المذكورة فیها بأهل‏البیت علیهم السلام دون غیرهم، وهی الإرادة الحتمیة الحقیقیة التی یتبعها التطهیر لا محالة.

وأیضاً لاریب فی أنّ هذا التعبیر الصریح فی اختصاصهم بهذه الإرادة صریح فی المدح والتعظیم لأهل البیت علیهم السلام، وإذا كانت الإرادة غیر حتمیة فلا مدح لهم بها، ویختلّ نظام الكلام المنزّه عنه كلام العقلاء فضلًا عن اللَّه تعالى.

وعلیه فلا مناص من القول بأنّ المراد منها هی‏الإرادة المستتبعة للتطهیر وإذهاب الرجس؛ وبذلك تختصّ الآیة بأهل البیت علیهم السلام؛ لأنّه لم یدّعِ ولم یقل:

أحدٌ بعصمة غیرهم، فیندفع توهّم شمول الآیة لغیر أهل البیت علیهم السلام ممّن ثبت عدم عصمتهم كأزواج النبی صلى الله علیه و آله.

وممّا یدلّ على أنّ الإرادة هی الإرادة الحقیقیة أنّ متعلّق الإرادة فی الآیة إذهاب الرجس عنهم الذی هو فعل اللَّه تعالى، والإرادة التی تتعلّق بفعله تعالى حتمیة لاتتخلّف عن المراد، ففرق بین مایكون المراد فعله تعالى وبین مایكون فعل غیره المختار.

فإذا كان متعلّق الإرادة فعل الغیر مختار یصحّ أن تكون هی التشریعیة، كما یجوز أن تكون التكوینیة، وإن شئت قلت: الحقیقیة، وإن كان الظاهر من موارد الاستعمالات بلا قرینة صارفة هو الأولى، وإطلاق الإرادة التشریعیة على‏ إنشاء ما یصلح لأن یكون باعثاً أو زاجراً مجرد الاصطلاح.

وإذا كان متعلّق الإرادة فعل اللَّه تعالى أو صدور الفعل عن غیره المختار بدون اختیاره كانت الإرادة حتمیةً لاتتخلّف عن المراد، وإلّا لزم إسناد العجز إلى البارئ سبحانه وتعالى شأنه، المنزّه عن كلّ عجز ونقص، والمتعالی عن ذلك علوّاً كبیراً.

ولایخفى علیك أنّ فی الآیة ضروباً من التأكید فی المدح والتعظیم لأهل البیت علیهم السلام، كما یدلّ قوله: [تَطهیراً] أیضاً على عِظَم شأن هذا التطهیر.

إن قلت: على هذا إذا كان إذهاب الرجس عنهم بفعل اللَّه تعالى وإرادته الحقیقیة لا التشریعیة كیف یوجّه مدحهم وتفضیلهم على غیرهم لأمرٍ لم یكن من فعلهم، ولا باختیارهم؟

قلت: إنّ عنایات اللَّه الخاصّة بل والعامّة لاتشمل إلّامَن له قابلیة قبولها، وهو عزّوجلّ أعلم بمحالِّها ومواردها.

قال اللَّه تعالى: [وإن مِن شَی‏ءٍ إلَّاعِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلّابِقَدَرٍ مَعلُومٍ‏][2].

وقال جلّ شأنه: [اللَّهُ أعلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ‏][3].

وقال سبحانه وتعالى: [أَهُمْ یَقْسِمُونَ رَحمَةَ ربِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَینَهُم مَعِیشَتَهُم‏][4].

وهذا كالتوفیق والخذلان فلایفوز بالتوفیق من اللَّه- الذی هو ولی التوفیق- إلّامَن كانت له أهلیة ذلك وكسبها بالاختیار، كما لایصیب الخذلان إلّا مَن جعل نفسه فی معرضه بالاختیار.

قال اللَّه تعالى: [ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الذینَ أسَاؤُا السُوأى‏ أن كَذَّبُوا بِآیَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا یَستَهزِؤُونَ‏][5].

فهذه امور مرتبطة بالشؤون الربوبیة، واستصلاح حال العباد وما تقتضیه الحكمة الإلهیة، وهو العالم بها وبمواردها، وهو الحكیم العلیم الفیّاض الوهّاب الجواد الذی لایبخل، ولا تنفد خزائنه، ولایمنع فیضه ممّن له أهلیة ذلك.

ألا ترى اختلاف الناس فی الاستعدادات والقوى النفسانیة والجسمانیة؟

فاللَّه تعالى أعطى من أعطاه من قوة الدرك والشعور بحكمته؛ ولأ نّه أهل لقبول عطیته وأخذ موهبته، ولم یُحرم مَن لم یُعطِهِ ذلك ولم یبخس حقّه، بل أعطاه بقدر استعداده وقدرته، وهو العالِم بذلك كلّه وهو الحكیم العلیم‏ الفیّاض الوهّاب الجواد الذی لایبخل، ولا تنفد خزائنه، ولایمنع فیضه ممّن له أهلیة ذلك.

ألا ترى اختلاف الناس فی الاستعدادات والقوى النفسانیة والجسمانیة؟

فاللَّه تعالى أعطى من أعطاه من قوة الدرك والشعور بحكمته؛ ولأ نّه أهل لقبول عطیته وأخذ موهبته، ولم یُحرم مَن لم یُعطِهِ ذلك ولم یبخس حقّه، بل أعطاه بقدر استعداده وقدرته، وهو العالِم بذلك كلّه وهو الحكیم العلیم، ونعم ماقاله الشاعر (بالفارسیة):

آنكه هفت اقلیم عالم را نهاد              هر كسى را آنچه لایق بود داد

گربه مسكین اگر پر داشتى‏              تخم گنجشك از زمین برداشتى‏

                  

 

 

گر بریزى آب را در كوزه‏اى‏           چند گنجد قسمت یكروزه‏اى‏

آب كم جو تشنگى آور بدست‏            تا بجوشد آبت از بالا وپست‏

          ثم إنّ بعض أهل الأهواء من المغترّین بالثقافة الغربیة، ومن حذا حذوهم ممّن نعتوا أنفسهم بالثقافة والتنوّر الفكری- وما هم بذلك- زعم أنّ الإرادة لو كانت تشریعیة؛ لیكون أهل العصمة وغیرهم سواءً لكان اجتنابهم عن المعاصی والقبائح باختیارهم لكانت أدلَّ على فضیلتهم، وكمال نفوسهم من اجتنابهم عن المعصیة بصفة أنّهم معصومون، وأنّ اللَّه أراد عصمتهم عن المعاصی، وبهذا البیان التافه أراد نفی العصمة ونفی دلالة آیة التطهیر على عصمتهم، وإنكارها من الأصل.

والجواب عن هذا الزعم الفاسد: أ نّه لاملازمة بین العصمة وعدم الاختیار، ولامنافاة بینها وبین الاختیار، فإنّ الإرادة الحتمیة والتكوینیة تارةً تتعلّق بفعله ، وما یصدر عنه بلاواسطة أمر بینه وبین المراد، وبعبارة اخرى:

تتعلّق بوقوع أمر بدون واسطة أمر آخر، سواء كان فی خارج عالم الاختیار والأسباب والمسببات أو فی عالم الاختیار والأسباب، فلاتتخلّف الإرادة عن المراد، حتى إذا كانت متعلّقة بأمر اختیاری لولا هذه الإرادة، وبما له أسباب كثیرة؛ لأنّه بعد ما أراد وقوعه مطلقاً بدون واسطة الأسباب واختیار فاعل مختار یقع لامحالة كما أراد.

وتارةً اخرى تتعلّق بما یصدر عن العبد بالاختیار، أو بوقوع ما یكون له أسباب متعددة كذلك، أعنی باختیاره وبواسطة الأسباب، ففی مثله فإنّ حصول‏

المراد وتحقّقه وعدم تخلّف الإرادة عن المراد إنّما یكون بصدوره عن العبد بالاختیار، وبكونه مسبّباً لهذه الأسباب، ففی هذه الصورة لاتنافی بین إرادته المتعلقة بما یقع فی عالم الإختیار والأسباب والمسببات، وتوسّط الوسائط والأسباب، بل لو وقع بغیر اختیار العبد أو بتأثیر الأسباب لكان من تخلّف المراد عن إرادته.

وبناءً على هذا نقول: إنّ قضیة إذهاب الرجس عنهم علیهم السلام، وتعلق إرادته تعالى به التی لاتتخلّف عن مراده هی عصمتهم، وعدم صدور القبائح منهم، وطهارتهم عن الأرجاس حال كونهم مختارین فی الفعل والترك، غیر مقهورین، محفوفین بشواغل عالم الطبیعة، ممّا یدعو النفوس إلى الانصراف عن الملأ الأعلى، والاشتغال بذكر اللَّه تعالى.

تحقیق دقیق:

ولنا تحقیق دقیق فی سدّ ثغور دلالة هذه الآیة على عصمة الأئمة علیهم السلام، ألهمنا اللَّه تعالى ببركة ما حقّقه الرجل الإلهی الفرید فی عصره، الإمام فی العلوم الإسلامیة، سیدنا الأستاذ البروجردی- أعلى اللَّه فی الفردوس مقامه- فی مباحثه فی اصول الفقه، فی مبحث الجمع بین الحكم الظاهری والواقعی، ورفع التنافی المتوهم بینهما. نذكرة ومماشاةً لمن یصرّ على كون الإرادة فی الآیة تشریعیة.

فنقول مستمدّین العون من اللَّه تعالى:

اعلم أنّ الإرادة التشریعیة هی عبارة عن العلم بالشی‏ء بأ نّه ینبغی أن یُفعل، أو لایفعل، وإنشاء الأمر والنهی، والطلب والزجر لكونهما صالحین أن یكونا داعیین للعبد إذا فعل ما امر به أوْ زاجراً له إن فعل ما نهی عنه. وبعبارة اخرى: هی إنشاء ما یصلح لأن یكون داعیاً له إلى الفعل المأمور به، وزاجراً عن الفعل المنهیّ عنه؛ كی ینبعث نحو الفعل من ینبعث بأمره، وینتهی عن المنهیّ عنه من ینتهی عن نهیه، ویُتمّ الحجّة على غیره ممّن یستخفّ بأمره، ولایعتنی به.

وهذا قد یجتمع مع الطلب الحقیقی وإرادة الفعل من العبد جداً، وهی روح الحكم كما یمكن أن یفارقه، فإذا علم المولى‏ من حال عبده أ نّه ینبعث بأمره، وینزجر بنهیه، وأنَّ أمره یدعوه إلى إطاعته وامتثاله، یرید منه بالإرادة الجدّیة والطلب الحقیقی فعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه فأمره ونهیه بالنسبة إلى هذا العبد یكون حقیقیاً جدّیاً.

وإذا علم من حاله أ نّه لایؤثّر فیه أمر المولى، ولایحركه بشی‏ء، ولایصیر داعیاً له نحو الإطاعة والامتثال فلایعقل أن یكون أمره ونهیه بالنسبة إلى هذا العبد حقیقیاً، ولایقترن مثل هذا الأمر والنهی بالإرادة الجدّیة من الآمر والناهی.

فإنشاء الأمر والطلب فی الصورة الاولى كما یكون بالإرادة الحقیقیة یكون حقیقیاً مجامعاً مع الإرادة الجدّیة، وفی الصورة الثانیة یكون صوریاً، ولإتمام الحجة وقطع العذر.

وبالجملة: فلایعقل إرادة الانبعاث الجدیة والطلب الحقیقی ممّن یعلم أ نّه لاینبعث بأمر المولى، فلایعقل أن یقول: «قم» أو «لاتزن» أو «لاتشرب الخمر» وطلب القیام وترك الزنا وترك الخمر بالإرادة الجدّیة ممّن یعلم أ نّه لاینبعث بهذا الأمر ولایأتمر به، ولاینزجر عن الزنا وشرب الخمر، ولاینتهی بنهیه عنهما حتى لو كان المولى من الموالی العرفیین، ولم یعلم ذلك من العبد، واحتمل فی حقّه تأثیر أمره فیه وانبعاثه به، وتحریكه نحو الفعل، لاتتأتى منه الإرادة الجدیة بمجرد ذلك الاحتمال، بل إنّما یأمر وینهى برجاء انبعاث عبده أو انتهائه.

والحاصل: أ نّه لایعقل تعلّق الإرادة الجدّیة والطلب الحقیقی بصدور فعل عمّن یعلم المرید أ نّه لایفعله، والأمر أو النهی فی هذه الصورة لایكون إلّا صوریاً. أی ‏إنشاء الأمر لا لغایة الانبعاث، بل لإتمام الحجّة.

وما ذكرناه یستفاد من كثیر من الآیات القرآنیة الكریمة، كقوله تعالى [لیُنذِرَ مَن كَانَ حَیّاً وَیَحِقَّ القَولُ عَلَى الكَافرینَ‏] .

وقوله تعالى: [إنّما تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكرَ وَخَشِیَ الرَّحْمنَ بِالْغَیْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأجْرٍ كَرِیمٍ‏] .

وقوله تعالى جِدّه: [رُسُلًا مُبَشِّرینَ وَمُنْذِرینَ لِئَلّا یَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عزیزاً حكیماً] .

وقوله سبحانه: [لِیَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَیِّنَةٍ وَیَحیى‏ مَن حَیَّ عَن بَیّنَةٍ] .

فإرادة قبول الإنذار من المنذر، والإنذار بقصد أن یُنذَر المنذَر لایكون حقیقیاً إلّاإذا كان المنذر ممّن اتّبع الذكر وخشی الرحمن بالغیب، ویؤثّر فیه الإنذار.

أمّا من لم یؤثّر فیه ذلك، ولایُنذَر بالإنذار فإنذاره لیس إلّاصوریّاً ولرفع عذره؛ ولئلّا یكون له على اللَّه حجّة.

هذا، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة التشریعیة على ضربین:

ضرب منها ما یعلم المرید من حال المراد منه أ نّه ینبعث نحو المأمور به بأمره، ویحرّكه ویصیر داعیاً له، فیطلب منه ذلك بالطلب الحقیقی والإرادة الجدیة.

وضرب منها ما یعلم المرید من حال المراد منه أ نّه لایتأثّر بأمره، فیحكم بأمره أو نهیه بما ینبغی أن یفعل أو لایفعل وینشئ ما یصلح أن یكون داعیاً له، ولكن لاطلب له حقیقیاً فی هذه الصورة، ولایرید انبعاث المأمور بهذا الأمر بالإرادة الجدّیة، بل لایصحّ إطلاق الطلب والإرادة على ذلك بنحو الحقیقة إلّا مجازاً وبالتمحل، بخلاف الأول فإنّ إطلاق الطلب والإرادة وأ نّه مرید وطالب یكون على نحو الحقیقة.

وعلى هذا نقول: إنّ الإرادة المذكورة فی الآیة وإن كانت تشریعیة إلّاأ نّها

جدّیة حقیقیة من النوع الأول الذی أراد الآمر والناهی بالإرادة الجدّیة والطلب الحقیقی انبعاث المأمور، وأمره ونهیه یصدر عنه بداعی انبعاثه، وصراحة الآیة فی ذلك: أنّ الإرادة المذكورة فی الآیة وفی كلّ موردٍ لم تكن قرینة على المجاز صریحة فی الإرادة الجدّیة الحقیقیة.

وإن أبى‏ المعاند عن كلّ ذلك أیضاً وقال: إنّ الإرادة التشریعیة عامة تشمل جمیع المكلفین المطیعین والعاصین على السواء.

قلنا: لاتنازع فی الألفاظ والأسماء والاصطلاحات، وقد قیل من قدیم:

لامَشاحَّة فی الاصطلاح، فعرِّفِ الإرادة التشریعیة بما شئت، وقل: إنّ الإرادة التشریعیة هی جعل ما یصلح لأن یكون داعیاً للعبد أو زاجراً له، وإنشاء ما له قابلیة الداعویة وبعث العبد نحو الفعل أو الترك.

إلّا أنّك تعلم أنّ هذا مجرد اصطلاح، ولایحصر مفهوم الإرادة فی ذلك، ولا یخرج عن مفهومها الحقیقی ولاینفی ما هو واقع الأمر، وهو أنّ المولى إذا علم من حال عبده أ نّه ینبعث بأمره ویتحرك بتشریعاته یطلب منه ما أمره به بالطلب الحقیقی وبالإرادة الجدّیة، وإذا علم من حاله أ نّه لاینبعث بذلك ولایؤثّر أمره ونهیه فی تحریكه أو امتناعه لایطلب منه بتشریعاته ما شرّعه بالطلب الحقیقی والإرادة الحقیقیة، ولایدعوه نحو فعل ما أمره به بداعی أن یفعله، بل یدعوه بداعی أن یُتمَّ علیه الحجّة، و هذا ما نسمّیه بالأمر الصوری، ومن راجع وجدانه یعرف منه ذلك.

فیصحّ أن نقول: إنّ إطلاق الإرادة على التشریعیة إطلاق مجازی، بخلافه‏

على الإرادة الجدّیة فإنّه إطلاق حقیقی.

وبالجملة: فهل یمكنك إنكار الإرادة الجدّیة بالمعنى الذی تلوناه علیك؟

وهل یمكنك أن تقول: إنّها تتعلّق بما لاتؤثّر الإرادة التشریعیة فی الانبعاث نحوه؟

وهل یمكنك إنكار تعلّقها حقیقةً بالانبعاث، وبوقوع الفعل عن العبد إذا كان الأمر والطلب والإرادة التشریعیة مؤثّراً فی بعث العبد أو زجره؟

وهل یمكنك أن تقول بعد ذلك بظهور الإرادة المذكورة فی الآیة فی الإرادة التشریعیة دون الإرادة الجدّیة، مع عدم وجود قرینة صارفة عن‏المعنى الحقیقی، ووجود الشواهد فی‏الكلام على أنّ المراد بالإرادة هی الجدّیة؟

وإن شئت فقل: إنّ الإرادة على قسمین: جدّیة، وتشریعیة.

فالتشریعیة عبارة عن طلب التكالیف عن جمیع المكلّفین على السواء بإنشاء ما یصلح أن یكون داعیاً لهم، والحكم بما ینبغی أو یجب أن یفعل، أو لایفعل.

والجدّیة على ضربین: تكوینیة، وغیر تكوینیة.

فالتكوینیة ما یتعلّق بكون شی‏ء بدون واسطة فعل فاعل مختار.

وغیر التكوینیة ما یتعلّق بفعل فاعل مختار إذا علم من حاله تحریكه وانبعاثه بالطلب منه.

وبعد كلّ ذلك نقول: إنّ اللَّه تعالى وإن قطع بالإرادة التشریعیة عذر عباده، وأنشأ بأوامره ونواهیه ما یصلح أن یكون داعیاً للجمیع نحو الفعل المأمور به، أو زاجراً لهم عن الفعل المنهیّ عنه، وجعل الكلّ فی ذلك سواء، إلّاأنّ إرادته الحقیقیة وطلبه الحقیقی تتعلّق بفعل مَن ینبعث عن أمره وینزجر عن نهیه، وأنّ المستفاد من الآیة الشریفة أ نّه لعلمه بحال هذه الذوات المقدّسة، وأ نّهم عباد مُكرَمون، لایسبقونه بالقول، وهم بأمره یعملون، وما یشاؤون إلّاأن یشاء اللَّه، أراد بالإرادة الجدیة (لاالتكوینیة) انبعاثهم نحو جمیع‏الطاعات، وانزجارهم عن جمیع المنهیّات، فأمرهم بما أمرهم، ونهاهم عمّا نهاهم لا لأن یكون هذا الأمر والنهی لقطع العذر وإتمام الحجّة علیهم، بل لانبعاثهم نحو ما امروا به، وانزجارهم عمّا نُهُوا عنه؛ ولیكون باعثاً وداعیاً لهم للامتثال، وتطهیراً لهم عن جمیع الأرجاس، وقد أخبرَنا بذلك فی هذه الآیة الكریمة إعلاماً بجلالة قدرهم، وعلوّ شأنهم، وسموّ مقامهم، وكمال نفوسهم.

وعلى هذا دلّت الآیة الشریفة على أنّ فیهم ملكة قبول كلّ ما أمر اللَّه تعالى به ونهى عنه، والاهتداء بهدایته، ومن كان حاله هذا یرید اللَّه تعالى إذهاب الرجس عنه، ویوفّر له أسباب التوفیق، ویخصّه بعنایاته الخاصّة، ویجعله تحت رعایته الكاملة یلهمه كلّ خیر، ویمیّز له كلّ شرّ، لایدعه فی حال من الحالات، ولا فی شأن من الشؤون، یختاره ویصطفیه من بین عباده، وهو القادر على ما یرید، وبكلّ شی‏ء علیم، [لا یُسْئَل عَمَّا یَفْعَلُ وَهُمْ یُسْألُونَ‏] .

لا یقال: إنّ ما ذكرتَ هو حاصل لغیر هؤلاء الذوات الكریمة أیضاً من‏ الذین یخشون الرحمان بالغیب، ویتّبعون الذكر، ویقبلون المواعظ بحسب مراتبهم ودرجاتهم.

فإنّه یقال: نعم، ونحن نعرف كثیراً من الناس على بعض مراتب تلك الصفة السامیة والملكة العالیة القدسیة، مطیعین للَّه‏خائفین منه، أهل الخضوع والخشوع وقیام اللیل، معروفین بالعدالة والزهد، ولكن لانعرف على صفة العصمة المطلقة التامة غیر من شهد اللَّه تعالى له بذلك؛ لأنّ صاحب ملكة العصمة المطلقة لا یُعرَف إلّامن طریق الوحی، والارتباط بعالم القدس والملكوت الأعلى.

وقد عرّفَنا اللَّه تعالى فی هذه الآیة أهل البیت علیهم السلام، وأخبرنا بطهارتهم عن الأرجاس كلِّها، وعصمتهم صلوات اللَّه علیهم أجمعین، ورزقنا اللَّه اتّباعهم والاقتداء بهم، وأماتنا بحبّهم وولایتهم، ولایفرّق بیننا وبینهم طرفة عین أبداً فی الدنیا والآخرة، إنّه الكریم المتفضّل الوهّاب.

وآخر دعوانا أنِ الحمد للَّه ‏ربِّ العالمین.

حرّره تراب أقدام محبّی أهل البیت علیهم السلام‏

لطف اللَّه الصافی الگلپایگانی‏

16 صفر الخیر، 1403 هـ

 

[1] ( 1) الأحزاب: الآیة 33.

[2] ( 1) الحجر: الآیة 21.

[3] ( 2) الأنعام: الآیة 124.

[4] ( 1) الزخرف: الآیة 32.

[5] ( 2) الروم: الآیة 10.


جاءت فی كتابه القیم: "لمحات فى الكتاب و الحدیث و المذهب ؛ ج‏1 ؛ ص357ـ ص372"

الأربعاء / 13 مارس / 2019