جمعه: 1403/01/31
نسخة للطباعةSend by email
لبس السواد حزنا على سيد الشهداء عليه السلام
الشعائر الحسينية فی کلام المرجع الديني/ق 1

الشعائر الحسینیة فی کلام المرجع الدینی الصافی الكلبایكانی مد ظله

 القسم الأول : لبس السواد حزنا على سید الشهداء علیه السلام

المصدر : كتاب الشعائر الحسینیة،  ص27ـ ص46

حكم لبس السواد

 

هل أنّ لبس السواد فی عاشوراء حزناً على الإمام الحسین (علیه السلام)، أمر مستحب أو راجح شرعاً؟ وهل یتنافى ذلك مع ماهو معروف فی فقهنا من كراهة لبس السواد؟

الجواب:

نعم انّ لبس السواد فی عزاء سید الشهداء وعزاء سائر المعصومین- صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین- من الأعمال الراجحة، ومن مصادیق تعظیم شعائر الله، ومن مظاهر إعلان الولایة للنبی وآله والبراءة من أعدائهم وظالمیهم، وقد كان هذا المظهر وغیره من مظاهر الحزن شعاراً لمحبی أهل بیت النبی الطاهرین من صدر الاسلام إلى یومنا هذا.

أمّا فتوى عدد الفقهاء بما ینافی ظاهرها ذلك فهی أوّل الكلام، وأمّا الروایات الواردة فی كراهة لبس الثیاب السواد، فهی إن تمّت لا تشمل لبس السواد حزناً فی مناسبات عزاء المعصومین (علیهم السلام)، وخلاصة الكلام فی ذلك:

أوّلًا: أنّ عمدة دلیل الفتوى بكراهة لبس الثیاب السود هو دعوى الإجماع، وهو إجماع غیر محصّل، وعلى فرض أنّه محصّل لا یكون كاشفاً عن قول المعصوم (علیه السلام)، لاحتمال استناده إلى الاخبار الواردة فی هذا الباب.

أمّا الأخبار التی قد یستدلّ بها فعمدتها مراسیل وضعاف، وإنّما تمسّك من أفتى بالكراهة اعتماداً على التسامح فی أدلّة السنن بناء على شموله لأدلّة المكروهات أیضاً.

لكن یرد علیه أنّ من المشكل شمول دلیل التسامح فی أدلّة السنن والمستحبات لأدلّة المكروهات، لأنّ غایة ما یستفاد منه أنّ من بلغه من النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) شی‏ء من ثواب ففعل ذلك طلب قول النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) كان له ذلك، وإن كان النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) لم یقله.[1]

فكیف یمكن تعمیم ذلك إلى أدلة ترك العمل برجاء الثواب إلّا باعمال عنایة بأن یفترض أنّ المقصود منها (من بلغه ثواب على عمل أو على ترك عمل) وهو محل إشكال وتأمّل.

ثانیاً: أنّ القول بجبران ضعف الأخبار الدالّة على كراهة لبس السواد بعمل الأصحاب لایتم إلّا إذا ثبت استنادهم فی فتواهم بالكراهة إلیها، لكن یحتمل استنادهم إلى قاعدة التسامح فی أدلّة السنن، فلا یتم المطلوب.

ولو سلّمنا تمامیة انجبار ضعف الأخبار بالعمل، فإنّ دلالتها على كراهة لبس السواد مطلقاً محل إشكال، بل منع كما سیأتی.

ثالثاً: لو سلّمنا تمامیة الأخبار المذكورة وقبول الفتوى بكراهة لبس السواد، فإنّ إثبات حكم موضوع لموضوع آخر، أو إثبات حكم موضوع ذی خصوصیة لموضوع فاقد الخصوصیة، لا یصح إلّا مع الیقین بتساوی الموضوعین فی موضوعیتهما للحكم، وبعدم دخالة الخصوصیة فی الحكم، وإلّا لكان قیاساً وحكماً بغیر علم.

ومن أین لنا العلم بأنّ لبس السواد حزناً لمناسبات عزاء المعصومین (علیهم السلام) لا خصوصیة له؟! فیبقى لبس السواد فیها على حكمه الأولی، وهو الاستحباب والرجحان، لأنّه من مصادیق إعلان الولایة والبراءة، ومصادیق تعظیم شعائر الله تعالى، ومصادیق «یحزنون لحزننا ...»[2] وغیرها من الأدلّة المعتمدة.

2- الظروف السیاسیة لأخبار لبس السواد

من الثابت تاریخیاً وفقهیاً أنّ بنی العباس جعلوا شعارهم فی حركتهم الرایات السود، والظاهر أنّ هدفهم من ذلك محاولة تطبیق أحادیث النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) فی المهدی (عج) وظهور الرایات السود التی تمهّد له، على حركتهم ورایاتهم!

ثم اتّخذوا لبس الثیاب السود شعاراً لهم وعلّلوا بأنّه شعار حزن على قتل الإمام الحسین (علیه السلام) وغیره من شهداء أهل البیت (علیهم السلام)، وبأنّه أكثر هیبة.

وبعد سیطرتهم ألزموا أعضاء دولتهم به ثم ألزموا عامّة الناس بلبس السواد! ثم بلبس القلانس‏[3] السوداء الطولیة!! .. الخ.

وهذه نماذج من أخبارهم فی ذلك:

* روی ابن شهر آشوب فی كتاب «مناقب آل أبی طالب» عن «تاریخ الطبری»: أنّ إبراهیم الإمام أنفذ إلى أبی مسلم لواء النصرة وظل السحاب، وكان أبیض طوله أربعة عشر ذراعاً مكتوب علیها بالحبر (أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِیرٌ)[4]، فأمر أبو مسلم غلامه أرقم أن یتحوّل بكلّ لون من الثیاب، فلمّا لبس السواد قال: معه هیبة، فاختاره خلافاً لبنی أمیة، وهیبة للناظر. وكانوا یقولون: هذا السواد حداد آل محمد، وشهداء كربلا، وزید، ویحیى.[5]

وروی أبو الفرج الاصفهانی فی كتابه «مقاتل الطالبیین».

أخبرنا یحیى بن علی قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا علی بن الجعد قال: رأیت أهل الكوفة أیام أخذوا بلبس السواد حتى أنّ البقّالین إن كان أحدهم لیصبغ الثوب بالأنقاس‏[6] ثم یلبسه.[7]

* وقال: عن عبد الله بن الحسین بن عبد الله بن إسماعیل بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب: امتنع من لبس السواد، وخرقه لمّا طولب بلبسه، فحبس بسر من رأى حتى مات فی حبسه، رضوان الله علیه.[8]

* عن القاسم بن عبد الله بن الحسین بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (علیه السلام): كان عمر بن الفرج الرخجی حمله إلى سر من رأى، فأمر بلبس السواد فامتنع، فلم یزالوا به حتى لبس شیئاً یشبه السواد، فرضى منه (بذلك) وكان القاسم رجلًا فاضلًا.[9]

* وقال ابن الاثیر فی «البدایة والنهایة» عن الأوزاعی: «وقد اجتمع الأوزاعی بالمنصور حین دخل الشام ووعظه وأحبّه المنصور وعظّمه، ولمّا أراد الانصراف من بین یدیه استأذنه أن لا یلبس السواد فأذن له، فلمّا خرج قال المنصور للربیع الحاجب: الحقه فاسأله لم كره لبس السواد؟ ولا تعلمه أنّی قلت لك، فسأله الربیع؟ فقال: لأنّی لم أر محرماً أحرم فیه، ولا میتاً كفن فیه، ولا عروساً جلیت فیه، فلهذا أكرهه».[10]

وقال: «وفیها بایع المأمون لعلی الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسین الشهید بن علی بن أبی طالب أن یكون ولی العهد من بعده، وسمّاه الرضا من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقالیم، وكانت مبایعته له یوم الثلاثاء للیلتین خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتین، وذلك أنّ المأمون رأى أنّ علیاً الرضا خیر أهل البیت، ولیس فی بنی العباس مثله فی علمه ودینه، فجعله ولی عهده من بعده ... فلمّا كان یوم السبت الآخر (سنة 204 ه-) دخل (المأمون) بغداد حین ارتفع النهار لأربع عشرة لیلة خلت من صفر، فی أبّهة عظیمة وجیش عظیم، وعلیه وعلى جمیع أصحابه وفتیانه الخضرة، فلبس أهل بغداد وجمیع بنی هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحوّل إلى قصر على دجلة، وجعل الأُمراء ووجوه الدولة یتردّدون إلى منزله على العادة، وقد تحوّل لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا یحرقون كلّ ما یجدونه من السواد، فمكثوا كذلك ثمانیة أیام.

ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسین‏[11]، فكان أوّل حاجة سألها أن یرجع إلى لباس السواد، فإنّه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبیاء. فلمّا كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرین‏

من صفر جلس المأمون للناس وعلیه الخضرة، ثم إنّه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهراً، ثم ألبس بعده جماعة من الأُمراء السواد، فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة، وقیل: إنّه مكث یلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعاً وعشرین یوماً، فالله أعلم.[12]

*** حكم لبس السواد ...

الروایات التی استدل بها على كراهة لبس السواد

نورد فیما یلی أهم الروایات التی ربّما یستدلّ بها للفتوى بكراهة لبس السواد، فمنها:

ما رواه الحر العاملی فی «وسائل الشیعة»:

1- عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن عبد الله، عن بعض أصحابه، عن صفوان الجمّال قال: حملت أبا عبد الله (علیه السلام) الحملة الثانیة إلى الكوفة وأبو جعفر المنصور بها، فلمّا أشرف على الهاشمیة مدینة أبی جعفر، أخرج رجله من غرز الرحل، ثم نزل فدعا ببغلة شهباء ولبس ثیاباً بیضاء وكمة بیضاء، فلمّا دخل علیه قال له أبو جعفر: لقد تشبّهت بالأنبیاء، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): «وأنّى تبعدنی من أبناء الأنبیاء ...» الحدیث.[13]

2- عبد الله بن جعفر «قرب الاسناد»: عن السندی بن محمد، عن أبی البختری عن جعفر بن محمد، عن أبیه (علیهما السلام) أنّ علیاً (علیه السلام) كان لا یلبس إلّا البیاض أكثر ما یلبس، ویقول: فیه تكفین الموتى.

3- وعن عبد الله بن سلیمان، عن أبیه أنّ علی بن الحسین (علیه السلام) دخل المسجد وعلیه عمامة سوداء قد أرسل طرفیها بین كتفیه.[14]

4- وعن معاویة بن عمار، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته وهو یقول: «دخل رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) الحرم یوم دخل مكة وعلیه عمامة سوداء وعلیه السلاح».[15]

ما رواه الكلینی فی «الكافی»

5- عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبی عبد الله، عن بعض آصحابه رفعه قال: كان رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) یكره السواد إلّا فی ثلاث: الخف، والعمامة، والكساء.[16]

6- أبو علی الأشعری، عن بعض أصحابه، عن محمد بن سنان، عن حذیفة بن منصور قال: كنت عند أبی عبد الله (علیه السلام) بالحیرة، فأتاه رسول أبی جعفر الخلیفة یدعوه،

فدعا بممطر أحد وجهیه أسود والآخر أبیض فلبسه ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام): «أما إنّی ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار».[17]

7- عدة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد، عن محمد بن عیسی، عن سلیمان بن راشد، عن أبیه، قال: رأیت علی بن الحسین (علیه السلام) وعلیه دراعة سوداء وطیلسان أزرق.[18]

8. عن علی بن محمد، عن سهل بن زیاد، عن محسن بن أحمد، عمّن ذكره، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: أُصلّى فی القلنسوة السوداء؟ فقال: «لا تصل فیها فإنّها لباس أهل النار»[19].

ما نقله الصدوق فی «علل الشرائع»

9- وبهذا الاسناد عن محمد بن أحمد، عن الحسن بن الحسین اللؤلؤی، عن محمد بن سنان، عن حذیفة بن منصور قال: كنت عند أبی عبد الله بالحیرة فأتاه رسول أبی العباس الخلیفة یدعوه، فدعا بممطرة له أحد وجهیه أسود والآخر أبیض فلبسه، ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام): «أما إنّی ألبسه وأنا أعلم أنّه من لباس أهل النار».

ثم قال الصدوق: (قال مؤلّف هذا الكتاب: لبسه للتقیة وإنّما أخبر حذیفة بن منصور بأنّه لباس أهل النار. لأنّه ائتمنه، وقد دخل إلیه قوم من الشیعة یسألونه عن السواد ولم یثق إلیهم فی كتمان السر فاتّقاهم فیه).[20]

10- حدّثنی محمد بن الحسین قال: حدّثنی محمد بن یحین العطار، عن محمد بن أحمد، عن علی بن إبراهیم الجعفری، عن محمد بن الفضل، عن داود الرقی قال: كانت الشیعة تسأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن لبس السواد؟ قال: فوجدناه قاعداً علیه جبة سوداء وقلنسوة سوداء وخف أسود مبطن بسواد قال، ثم فتق ناحیة منه وقال: «أما إنّ قطنه أسود» وأخرج منه قطناً أسود ثم قال: «بیّض قلبك والیس ماشئت».

(قال محمد بن علی مؤلف هذا الكتاب:

فعل ذلك كلّه تقیة، والدلیل عل ذلك قوله فی الحدیث الذی قبل هذا: «أما إنّی ألبسه وأنا أعلم أنه من لباس أهل النار». وأی غرض كان له (علیه السلام) فی أن یصبغ القطن بالسواد، إلّا لأنّه كان متهماً عند الأعداء أنّه لا یرى لبس السواد فأحب أن یتّقی بأجهد ما یمكنه لتزول التهمة عن قلوبهم فیأمن شرهم.[21]

11- حدّثنا محمد بن الحسین قال: حدّثنا محمد بن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف عن الحسین بن یزید النوفلی، عن السكونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «أوحى الله عزوجل إلى نبی من أنبیائه: قل للمؤمنین لاتلبسوا لباس أعدائی، ولا تطعموا طعام أعدائی، ولا تسلكوا مسالك أعدائی، فتكونوا أعدائی كما هم أعدائی»[22].

ما نقله الحر العاملی فی «وسائل الشیعة»

12- وفی العلل، عن محمد بن الحسین، عن محمد بن یحیى، عن محمد بن أحمد، عن علی بن إبراهیم الجعفری، عن محمد بن المفضل، عن داود الرقی قال: ... وأورد الحدیث ثم قال: أقول: ویمكن حمله على إرادة الجواز ونفی التحریم بقرینة آخره.[23]

4- مناقشة دلالة الروایات على الكراهة.

* بعد غضّ النظر عن سند هذه الروایات نكتفی بالمناقشه فی دلالتها بشكل عام، فنقول:

أوّلًا: من الواضح أنّ النهی فی هذه الروایات- بملاحظة روایات اتّخاذ العباسیّین شعار السواد- لم یرد على موضوع السواد بعنوانه الأوّلی، بل بسبب تعنونه بعنوان ثانوی، وهو أنّه شعار لبنی العباس، وأنّ لبسه تشبّه بهم وموجب لزیادة نفوذهم فی أوساط المسلمین. نعم منها روایة واحدة مرسلة عن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) وهی ضعیفة سنداً وتختص بهم ولا یحتج بها.

بل إنّ النهی فی هذه الروایات عن لبسه من مصادیق النهی عن التشبّه بالظلمة ولبس الثیاب التی هی شعارهم. ومثل هذا الحكم دائر مدار بقاء عنوانه على ذلك الموضوع .. فلو بقی بنو العباس وغیّروا شعارهم من لبس الأسود إلى لبس الأحمر أو الأصفر، أو انتهى بنو العباس وانتفى موضوع شعارهم كما حدث، وجاء غیرهم من الظلمة واتّخذوا شعاراً من لون آخر .. لتغیّر الموضوع وثبت الحكم على ماهو شعار الظلمة وأهل الباطل وأهل الكفر.

ثانیاً: لو سلّمنا أنّ الحكم بكراهة لبس السواد ثابت فی الشریعة بدلیل الإجماع، فإنّ دخول لبس السواد فی مناسبات العزاء بالمعصومین (علیهم السلام) فی معقد الاجماع غیر معلوم، خاصة بملاحظة أنّه كان متداولًا فی عصور الائمة (علیهم السلام) وعصر الغیبة، فالقدر المتیقّن من الإجماع هو ما عدا مناسبات العزاء أو اللباس الذّی یصدق علیه أنّه شعار الأعداء.

وكذا لو سلّمنا بأنّ حكم الكراهة بلبس السواد ثابت بالروایات، فإنّ مناسبة حكمها وموضوعها تمنع من شمول ظهوراتها أو عموماتها للبس السواد فی مناسبات العزاء.

ولذا فالأقوى استثناء ذلك من مفادها، وفاقاً لما ذهب إلیه صاحب الحدائق والمجلسی- قدس سرهما- ومال إلیه غیرهما، كما سیأتی.

5- أهم كلمات فقهائنا فی لبس السواد

تناول كبار فقهائنا هذه المسألة فی كتبهم الفقهیة نأتی بنماذج منها.

(باب النوادر) قال والدی (رحمه الله) فی رسالته إلىِّ: ... واعلم أنّ غسل الثیاب یذهب الهم والحزن وهو طهور للصلاة، وعلیك بلبس ثیاب القطن، فإنّه لباس رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) ولباس الأئمة (علیهم السلام)، واتّق لبس السواد فإنّه لباس فرعون. ولا تلبس النعل الأملس فإنّه حذو فرعون، وهو أوّل من اتّخذ الملس.[24]

وقال الشیخ المفید فی «المقنعة»:

وتكره الصلاة فی الثیاب السود، ولیس العمامة من الثیاب فی شئ، ولا بأس بالصلاة فیها وان كانت سوداء.[25]

وقال أبو الصلاح الحلبی فی «الكافی فی الفقه»:

وتكره الصلاة فی الثوب المصبوغ، وأشدّ كراهیة الأسود، ثم الاحمر المشبع والمذهب والموشح والملحم بالحریر والذهب، وما عدا ذلك جائز. وأفضل الثیاب البیاض من القطن والكتان.[26]

وقال الشیخ الطوسی فی «النهایة»:

وتكره الصلاة فی الثیاب السود كلّها ما عدا العمامة والخف، فإنّه لا بأس بالصلاة فیهما وإن كانا سوداوین.[27]

وقال أیضاً فی «الخلاف»:

تكره الصلاة فی الثیاب السود. وخالف جمیع الفقهاء فی ذلك.

دلیلنا: إجماع الفرقة وطریقة الاحتیاط. وروى عن أبی عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: یكره السواد إلّا فی ثلاثة: الخف، والعمامة، والكساء، وروى عنه أیضاً أنّه سئل عن الصلاة فی القلنسوة السوداء؟ فقال: «لا تصل فیها فإنّها لباس أهل النار».[28]

وقال أیضاً: لا یجوز للمحرم لبس السواد، ولم یكره أحد من الفقهاء ذلك. دلیلنا: إجماع الفرقة، وطریقة الاحتیاط.[29]

وقال المحقّق الحلّی فی «المعتبر»:

وتكره الصلاة فی الثیاب السود خلا العمامة، والخف، قاله الأصحاب: روی عن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) أنّه قال: «البسوا من ثیابكم البیاض فإنّها من خیر ثیابكم» وأمره (علیه السلام) بهذا اللون یدل على اختصاصه بالمصلحة الراجحة، فیكون ما یضاد غیر مشارك فی المصلحة، وأشدّ الألوان مضادة للبیاض السواد. ویؤید ذلك من طریق الأصحاب، ما رواه أحمد بن رفعه عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «یكره السواد إلّا فی ثلاث: العمامة، والخف، والكساء».[30]

وقال العلّامة الحلّی فی «تذكرة الفقهاء»:

البحث الثالث: فیما یكره فیه الصلاة وهو أشیاء:- آ- یكره فی الثیاب السود ما عدا العمامة والخف، لقول النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) «البسوا ثیابكم البیض فإنّها من خیر ثیابكم» وأمره (صلى الله علیه وآله وسلم) بهذه اللون یدلّ على اختصاصه بالفضیلة، فیكون أشد الألوان معاندة له وهو السواد مكروهاً.

ومن طریق الخاصة قول الصادق (علیه السلام): «یكره السواد إلّا فی ثلاث: العمامة، والخف، والكساء»[31].

وقال الشهید فی «الذكرى»:

الثالثة: تكره الصلاة فی الثیاب السود لما رواه الكلینی عمّن رفعه عن أبی عبد الله (علیه السلام): «یكره السواد إلّا فی ثلاثة: الخف، والعمامة والكسا».

وفی مرفوع آخر الیه (علیه السلام): «فی القلنسوة السوداء لا تصل فیها فإنّها لباس أهل النار».

وقال ابن بابویه: ولا تصل فی السواد فإنّ النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) قال: «لا تلبسوا لباس أعدائی، ولا تسلكوا مسالك أعدائی، فتكونوا أعدائی». وروى عن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم): «البسوا من ثیابكم البیاض فإنّها من خیر ثیابكم». وفیه دلالة على أفضلیة البیض للمصلحة فالمضاد لا یشاركها فی المصلحة.[32]

وقال المحقّق الكركی فی «جامع المقاصد»:

ویستحب لبس الفاخر من الثیاب، وأفضلها البیض، لقوله (صلى الله علیه وآله وسلم): «أحب الثیاب إلى الله تعالى البیض، یلبسها أحیاؤكم، ویكفن فیها موتاكم».[33]

وقال المقدّس الأردبیلی فی «مجمع الفائدة والبرهان»:

قوله: « (ویكره السود عدا العمامة الخ ...)» دلیل كراهة السود، عدا العمامة والخف، وكذا الكساء: هو الخبر المرفوع عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: «یكره السواد إلّا فی ثلاثة: الخف، والعمامة، والكساء». ولا یخفى أنّه یدلّ على الكراهة مطلقاً. وكأنّ القلنسوة أشدّ كراهة، لما روى عن الصادق (علیه السلام). قال: قلت له: أُصلّی فی القلنسوة السوداء؟ فقال:

«لا تصل فیها فإنّها لباس أهل النار». وروى عن أمیر المؤمنین (علیه السلام)، فیما علم أصحابه: «لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون». وفی روایة أُخرى: «انّه لباس أهل النار»[34].

وقال المحدّث البحرانی فی «الحدائق الناضرة»:

وعن عمر بن علی الحسین (علیه السلام) قال: «لمّا قتل الحسین (علیه السلام) لبس نساء بنی هاشم السواد والمسوح‏[35]، وكنّ لا یشتكین من حر ولا برد، وكان علی بن الحسین (علیهما السلام) یعمل لهنّ الطعام للمأتم».

أقول: الظاهر أنّ ذلك بعد رجوعه (علیه السلام) إلى المدینة.[36]

وقال أیضاً:

و (منها): أنّه یكره الصلاة فی الثیاب السود عدا العمامة والخف والكساء وهو ثوب من صوف ومنه العباء، كذا نقل عن الجوهری.

ویدل علیه ما رواه ثقة الإسلام فی «الكافی» عن أحمد بن محمد، رفعه عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «یكره السواد إلّا فی ثلاثة: الخف، والعمامة، والكساء».

وروی فی كتاب الزی من الكتاب المذكور عن أحمد بن أبی عبد الله، عن بعض أصحابه رفعه قال: «كان رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) یكره السواد إلّا فی ثلاث: الخف، والعمامة، والكساء».

وعن حذیفة بن منصور قال: «كنت عند أبی عبد الله (علیه السلام) بالحیرة فأتاه رسول أبی العباس الخلیفة یدعوه، فدعا بممطر أحد وجهیه أسود والآخر أبیض فلبسه، ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام): «أما إنّی ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار».

أقول: فی القاموس: الممطر والممطرة- بكسرهما- ثوب صوف یتوقّى به من المطر.

ثم أقول: یحتمل أن یكون لبسه (علیه السلام) له فی تلك الحال لضرورة دفع المطر أو تقیة، حیث إنّه المعمول علیه عند المخالفین یومئذ.

وروى الصدوق فی «الفقیه» مرسلًا عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنّه قال فی ما علم أصحابه: «لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون».

وروی باسناده عن إسماعیل بن مسلم عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال «أوحى الله إلى نبی من أنبیائه قل للمؤمنین لا یلبسوا ملابس أعدائی، ولا یطعموا مطاعم أعدائی، ولا یسلكوا مسالك أعدائی، فیكونوا أعدائی كما هم أعدائی».

أقول: قال الصدوق فی كتاب «عیون الأخبار»[37] بعد نقل هذا الخبر بسند آخر عن علی بن أبی طالب عن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم): قال المصنف (رضی الله عنه): لباس الأعداء هو السواد؛ ومطاعم الأعداء هو: النبیذ، والمسكر، والفقاع، والطین، والجری من السمك، والمارماهی والزمیر والطافی وكل ما لم یكن له فلس من السمك، والأرنب والضب والثعلب، وما لم یدف من الطیر، وما استوى طرفاه من البیض، والدبا من الجراد وهو الذی لا یستقل بالطیران، والطحال؛ ومسالك الأعداء: مواضع التهمة، ومجالس شرب الخمر، والمجالس التی فیها الملاهی، ومجالس الذین لا یقضون بالحق، والمجالس التی تعاب فیها الأئمة والمؤمنون، ومجالس أهل المعاصی والظلم والفساد. انتهى.

وحاصله یرجع إلى التخصیص بالمحرّمات فی ماعدا اللباس حملًا للنهی على التحریم. والأظهر الحمل على ماهو أعم من التحریم أو الكراهة، مثل لباس الیهود والنصارى ومأكلهم، وكذا لباس المخالفین ومآكلهم المعلومة مخالفة ذلك للسنن النبویة والشریعة المحمدیة (صلى الله علیه وآله وسلم) ویؤیّده وقوع المناهی فی الاخبار عن جملة من الأشیاء من حیث دخولها فی مضمون هذا الخبر، مثل النهی عن البرطلة لأنّها من زی الیهود، وإسدال الرداء لأنّه من زیهم، وشمّ النرجس فی الصوم لأنّه من فعل المجوس، والأكل بالملاعق كما یفعله الروم والمخالفون لمخالفته لسنة الأكل بالید، وجر الثیاب على الأرض كما یفعلونه أیضاً لمنافاته التشمیر المأمور به، وجز اللحی وإعفاء الشوارب كما یفعلونه لمخالفته للسنّة النبویة فی العكس، وأمثال ذلك. فإنّ الظاهر دخول الجمیع تحت الخبر.

ثم أقول: لا یبعد استثناء لبس السواد فی مأتم الحسین (علیه السلام) من هذه الأخبار لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الاحزان.

ویؤیّده مارواه شیخنا المجلسی 1 عن البرقی فی كتاب «المحاسن» أنّه روی عن عمر بن زین العابدین (علیه السلام) أنّه قال: «لمّا قتل جدی الحسین المظلوم الشهید لبس نساء بنی هاشم فی مأتمه ثیاب السواد، ولم یغیرنها فی حر أو برد، وكان الإمام زین العابدین (علیه السلام) یصنع لهن الطعام فی المأتم». الاستفادة من هذه القضیة مبنی على اقرار الإمام (علیه السلام) لبس النساء السواد فی ماتم الحسین والحدیث منقول من كتاب «جلاء العیون» بالفارسیة ولكن هذا حاصل ترجمته.[38]

وقال صاحب الجواهر فی «جواهر الكلام»:

المسألة (الثامنة: تكره الصلاة فی الثیاب السود ما عدا العمامة والخف) بلا خلاف أجده فی المستثنى منه، بل ربّما ظهر من بعضهم الإجماع علیه، بل عن الخلاف ذلك صریحاً، وهو الحجة، مضافاً إلى استفاضة النصوص فی النهی عن لبسه الذی ربّما قیل باستفادة الكراهة فی خصوص الصلاة منه، إمّا لدعوى اتّحاد الكونین كما سمعته فی المغصوب، أو لأنّ إطلاق الكراهة یقتضی شمول خصوص الصلاة، ولا ینافیه شمول غیرها، إذ لیس المراد اختصاص الصلاة بذلك من بین الأفراد، بل المراد الكراهة فیها بالخصوص وإن كان غیرها من الأفراد كذلك، وقد سمعت نظیره فی استحباب خصوص بعض الأذكار فی الصلاة، لكن لا یخفى علیك أنا فی غنیة عن هذا التكلّف- خصوصاً الأخیر الذی یمكن دعوى ظهور العبارات بخلافه- بما سمعت من الإجماع المحكی المعتضد بما عرفت.

وبالمرسل فی «الكافی» أنه «روی لا تصل فی ثوب أسود، فأمّا الكساء والخف والعمامة فلا بأس».

بل وبالمستفاد من بعض النصوص فی القلنسوة من كراهة لباس أهل النار فی الصلاة، ففی مرسل محمد بن سلیمان «قلت لأبی عبد الله (علیه السلام): إنّی أصلّی فی القلنسوة السوداء قال: «لا تصل فیها فإنها لباس أهل النار» ولا ریب فی ظهور التعلیل فیه بكراهة الصلاة فی كلّ ماكان كذلك. وقد ورد فی السواد أنّه لباس فرعون، وأنّه زی بنی العباس، وفی الممطر منه أنّه لباس أهل النار، ففی مرسل الفقیه قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) فیما علّم أصحابه: «لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون».

وفیه أیضاً: «رروی أنّ جبرئیل (علیه السلام) هبط على رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) فی قباء أسود ومنطقة فیها خنجر، فقال: یا جبرئیل ما هذا؟ فقال: زی ولد عمك العباس، یا محمد (صلى الله علیه وآله وسلم) ویل لولدك من ولد عمك العباس».[39]

وفی خبر حذیفة بن منصور قال: «كنت عند أبی عبد الله (علیه السلام) بالحیرة فأتاه رسول أبی العباس الخلیفة یدعوه، فدعا بممطر أحد وجهیه أسود والآخر أبیض فلبسه، ثم قال: أما إنّی ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار». بل من المعلوم كون ذلك من حیث السواد لا خصوصیة الممطر؛ كما أنّ من المعلوم كون لبسه للتقیة، فیتجه حینئذ كراهة الصلاة فیه للتعلیل المزبور.

بل منه تنقدح المناقشة فیما ذكر غیر واحد من الأصحاب من شدة الكراهة وتأكّدها فی القلنسوة السوداء للخبر المزبور، ضرورة أنّه بعد تعلیل الكراهة فیه بالعلّة المشتركة بین الجمیع لم یبق حینئذ خصوصیة لمورد التعلیل، سیّما مع كونه من كلام السائل، ولعلّه لذا أطلق الباقون.

أمّا المستثنى فقد یقضی عدم الاستثناء فی كلام كثیر من الأصحاب على ما فی الذكرى بعدمه، لكن فیه أنّ النصوص صریحة فی الاستثناء، منها مرسل الكلینی السابق، ومنها قول الصادق فی مرسل أحمد بن محمد «یكره السواد إلّا فی ثلاثة: الخف والعمامة والكساء». ومنها المرسل الآخر: «كان رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) یكره السواد إلّا فی ثلاثة: الخف والكساء والعمامة».

وكذا الفتاوى بالنسبة للخف والعمامة، بل عن «المعتبر» نسبة ذلك إلى الأصحاب، و «المنتهى» إلى علمائنا، ومنه یعلم حینئذ ما فی اقتصاد المفید وسلار وابن حمزة والشهید فی «الدروس» على استثناء العمامة، اللّهم إلّا أنّ یكون لعدم دخول الخف فی المستثنى منه، لانّه لیس من الثیاب.

لكن فیه أوّلًا انّ المحكی عن «المقنعة» عدم كون العمامة من الثیاب أیضاً، كما عن جماعة من الأصحاب فی بحث الحبوة.

وثانیاً: بقاء المناقشة بالنسبة إلى الكساء، بل فی «كشف اللثام» أنّه لم یستثنه أحد من الأصحاب إلّا ابن سعید إلى أن قال: «وكأن إعراضهم جمیعاً عنه لكونه من الثیاب، مع إرسال أخبار الاستثناء، وعموم نحو قول أمیر المؤمنین (علیه السلام)» مشیراً به إلى ما سمعت، قلت: قد یؤیده أیضاً خبر الممطر السابق بناء على أنّه من الأكسیة، لكن فیه أنّا لم نجد الخف مستثنى إلّا مع الكساء، أمّا العمامة فقد یفهم استثناؤها من قول الباقر (علیه السلام) فی خبر علی بن المغیرة «كأنّی بعبد الله بن شریك العامری‏[40] علیه عمامة سوداء ذوابتاها بین كتفیه مصعداً فی لحف الجبل بین یدی قائمنا أهل البیت (علیهم السلام) فی أربعة آلاف یكبرون ویكررون».[41] وخبر عبد الله بن سلیمان المروی عن مكارم الأخلاق «انّ علی بن الحسین (علیهما السلام) دخل المسجد وعلیه عمامة سوداء قد أرسل طرفیها بین كتفیه».

وخبر معاویة بن عمار عن الصادق (علیه السلام) المروی عن الكتاب المزبور أیضاً قال: «سمعته یقول: دخل رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) الحرم یوم دخل مكة وعلیه عمامة سوداء وعلیه السلاح».

لكن الظاهر أنّ مستند الأصحاب فی الاستثناء غیرها، بل لیس هو إلّا تلك النصوص، وحینئذ یقوی الاعتماد علیها، خصوصاً مع ما قیل من استثناء جماعة له كالخلاف والبیان واللمعة والموجز الحاوی وكشف الالتباس وجامع المقاصد وفوائد الشرایع وحاشیة الإرشاد وحاشیة المیسی والروض والروضة والمسالك ومجمع البرهان والكفایة والمفاتیح، بل عن ظاهر الخلاف اندراج هذا الاستثناء فی معقد إجماعه، ومن ذلك یعلم ما فی قوله: إنّه لم یذكر إلّا ابن سعید.

كما «یعلم الحال منه» فیما عساه أن یقال فی المقام: «إنّ النصوص هنا جمیعها لا تخلو من ضعف مانع عن الحجّیة، إلّا أنّه لمّا علم التسامح فی الكراهة وجب قبولها بالنسبة إلیها بخلاف الاستثناء منها، فإنّه محتاج إلى دلیل معتبر، والفرض عدمه، ولیس دلیل الكراهة منحصراً فی المشتمل على الاستثناء حتى یلتزم قبوله فی المستثنی والمستثنی منه، لكونه هو الذی بلغنا، بل قد سمعت نحو قول أمیر المؤمنین (علیه السلام) الظاهر فی العموم بلا استثناء «إذ

قد عرفت أوّلًا اعتضاد أخبار الاستثناء بما تقدّم ونحوه ممّا لا یخفى على الفقیه الماهر من القرائن الدالّة على اعتبارها وإن ضعفت أسانیدها، وثانیاً یمكن أن یقال- بعد اشتراك جمیع النصوص فی الضعف مطلقها ومقیدها-: إنّه ما بلغنا إلّا المقید، ضرورة تساوی المطلق والمقید فی غیر جهة التقیید، فیحكم حینئذ علیه، ویتجه الاستثناء المزبور، فكان على المصنف وغیره ذكره، بل هو أولى من الخف الذی لا یحتاج إلى الاستثناء، لعدم اندراجه فی الثیاب، بل والعمامة فی وجه، وربما یؤید ذلك كلّه سیرة من شاهدناه من العلّماء على لبس العباءة السوداء وعدم اجتنابها ومعاملتها معاملة غیرها من الثیاب، ولعلها من الكساء عندهم، كما عن المیسی وتلمیذه التصریح به، بل فی المسالك نسبته إلى الجوهری، بل قیل: وفی القاموس أنّ العباءة ضرب من الأكسیة.

وكیف كان فالمدار فی السواد على مسمّاه عرفاً من غیر فرق بین المصبوغ وغیره، نعم یمكن عدم اندراج الأدكن فیه عرفاً، بل عن المجمع أنّه لون بین الغبرة والسواد، فلا حاجة حینئذ إلى حمل ما فی خبر جابر عن أبی جعفر (علیه السلام) «قتل الحسین بن علی (علیهما السلام) وعلیه جبة خز دكناء»[42] على بیان الجواز ونفی التحریم، لكن عن المسالك «تكره الصلاة فی غیر السواد من الألوان» وهو- مع أنّه لاصراحة فی الخبر المزبور أنّه كان یلبسها وقت الصلاة- لم نقف على دلیل له فی ذلك، واستفاضة النصوص بلبس الأبیض لا تقتضی كراهة غیره، وكان ما عن المیسی- من أنّ الصلاة فی غیر السواد من الألوان أیضاً على خلاف الأصل، لأنّ الأصل البیاض- یرید به ما ذكرنا.

بل ولم نقف على ما یدلّ على ما عن الغنیة من كراهة الصلاة فی الثوب المصبوغ، وأشدّه الأسود، وإن قیل: إنّ ظاهره الإجماع علیه.

أمّا ما عن السائر- من الكراهة فی الثواب المشبع الصبغ، وكأنّه بمعنی ما عن الكاتب والمبسوط من الكراهة فی الثوب المصبوغ المشبع المفدم «[43] بناء علی إرادة الأعم من الأحمر من المفدم فیه». فعن الجوهری یقال: صبغ أی خاثر مشبع، وكأنّ من خصّ الكراهة بالأحمر حمل المفدم- بكسر الدال- على المصبوغ بالحمرة المشبع كما عن الجوهری أیضاً، ولعل التعمیم أكثر فائدة وأقرب إلى العرف، بل المغروس فی الذهن منه المشبع الشدید.

 

أمّا المزعفر[44] والمعصفر[45] فقد نص على كراهة الصلاة فیهما فی المحكی عن المعتبر والمنتهی ونهایة الأحكام والتحریر والتذكرة والذكرى والموجز الحاوی وكشف الالتباس، ولعلّه للمرسل عن یزید بن خلیفة عن أبی عبد الله (علیه السلام) «انّه كره الصلاة فی المشبع بالعصفر والمضرج بالزعفران»[46] إلّا أنّه كان علیهم التعبیر بمضمون الخبر المزبور، والأمر سهل فی ذلك كلّه بعد التسامح، هذا.

وعن غیر واحد من كتب الأصحاب التصریح باختصاص كراهة السواد فی الرجل، ولعلّه لأنّه أبلغ من غیره فی سترها، وظهور فحوی استثناء العمامة ونحوها فیه، إلّا أنّه كما ترى مناف لقاعدة الاشتراك وظاهر التعلیل السابق، والله أعلم.[47]

وقال الطباطبائی الیزدی فی «العروة الوثقى»:

(10 فصل فیما یكره من اللباس حال الصلاة) وهی أُمور: أحدها الثوب الأسود حتى للنساء، عدا الخف والعمامة والكساء، ومنه العباء والمشبع منه أشد كراهة، وكذا المصبوغ بالزعفران أوالعصفر، بل الأولى اجتناب مطلق المصبوغ.[48]

6- كلمات فقهاء المذاهب الأُخرى‏

تناول علماء المذاهب الأُخرى هذه المسألة فی صحاحهم وسننهم المعتبرة نأتی بنماذج منها:

قال البیهقی فی «السنن الكبرى»:

(أخبرنا) أبو زكریا یحیى بن إبراهیم قال: ثنا أبو العباس محمد بن یعقوب، أنبأ الربیع بن سلیمان، ثنا الشافعی، أنبأ یحیى بن سلیم، عن عبد الله بن عثمان بن خثیم، عن سعید بن جبیر، عن ابن عباس (رضی الله عنه) أنّ النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) قال: من خیر ثیابكم البیاض فلیلبسها أحیاؤكم، وكفّنوا فیها موتاكم.

 (وحدثنا) أبو جعفر كامل بن أحمد المستملی، أنبأ بشر بن أحمد الاسفرائنی، ثنا داود بن الحسین، ثنا یحیى بن یحیى، أنبأ بشر بن المفضل، عن عبد الله بن عثمان بن خثیم، فذكره بنحوه إلّا أنّه قال: البسوا من ثیابكم البیاض فإنّها من خیر ثیابكم.[49]

وقال أبو داود فی سننه:

حدّثنا محمد بن كثیر، أخبرنا همام، عن قتادة، عن مطرف، عن عائشة- رضى الله عنها-، قالت: صنعت لرسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) بردة سوداء فلبسها، فلمّا عرق فیها وجد ریح الصوف فقذفها، قال: وأحسبه قال: وكان تعجبه الریح الطیبة.[50]

ونقل الترمذی فی سننه:

حدّثنا أحمد بن منبع، أخبرنا یحیى بن زكریا بن أبی زائدة، أخبرنی أبی، عن مصعب بن شبیة، عن صفیة ابنة شبیة، عن عائشة قالت: «خرج النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) ذات غداة وعلیه مرط من شعر أسود».

هذا حدیث حسن وصحیح غریب.[51]

7- نتیجة البحث جواز لبس السواد فی عزاء سید الشهداء (علیه السلام).

فی ختام البحث نأتی بالروایات التی تدلّ على جواز لبس السواد.

قال الحر العاملی فی «وسائل الشیعة»:

وعن الحسن بن ظریف بن ناصح، عن أبیه، عن الحسین بن زید، عن عمر بن علی بن الحسین قال: لمّا قتل الحسین بن علی (علیه السلام) لبس نساء بنی هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا یشتكین من حر ولا برد، وكان علی بن الحسین (علیه السلام) یعمل لهنّ الطعام للمأتم.[52]

وقال المجلسی فی «بحار الأنوار»:

وفی روایة أُخرى ... قال: فلمّا أصبح استدعى بحرم رسول الله فقال لهنّ: أیما أحب إلیكن: المقام عندی أو الرجوع إلى المدینة، ولكم الجائزة السنیة؟ قالوا: نحب أوّلًا أن ننوح‏

 

على الحسین، قال: افعلوا ما بدالكم. ثم أُخلیت لهنّ الحجر والبیوت فی دمشق، ولم تبق هاشمیة ولا قرشیة إلّا ولبست السواد على الحسین، وندبوه على ما نقل سبعة أیام، فلمّا كان الیوم الثامن دعاهن یزید، وعرض علیهن المقام فأبین وأرادوا الرجوع إلى المدینة، فأحضر لهن المحامل وزینها وأمر بالأنطاع الإبریسم.[53]

وقال صاحب «وفیات الأئمة»:

ثم رجع الحسن والحسین (علیه السلام) وأخوتهما من دفنه، وقعد فی بیته ولم یخرج ذلك الیوم، ثم خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس، فقال: إنّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد توفّى وانتقل إلى جوار الله وقد ترك بعده خلفاً، فإن أحببتم خرج إلیكم وإن كرهتم فلا أحد على أحد فبكى الناس وضجّوا بالبكاء والنحیب، فقالوا: بل یخرج الینا، فخرج إلیهم الحسن وعلیه ثیاب سود وهو یبكی لفقد أبیه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه وذكر النبی فصلی علیه، ثم قال: «أیّها الناس اتقوا الله فإنّا أُمراء كم وساداتكم وأهل البیت الذین قال الله فیهم: (إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَكُمْ تَطْهِیراً)[54] أیّها الناس لقد قبض فی هذه اللیلة رجل لم یسبقه الأوّلون ولا یلحقه الآخرون، لقد كان یجاهد مع رسول الله فیفدیه بنفسه، لقد كان یوجهه برایته فیكنفه جبرائیل عن یمینه ومیكائیل عن شماله، فلا یرجع حتّى یفتح الله علیه، ولقد توفّی هذه اللیلة التی عرج فیها بعیسى ابن مریم، والتی توفّى فیها یوشع بن نون، وما خلف صفراء، ولا بیضاء إلّا سبعمائة دینار فضلت من عطایاه، أراد أن یبتاع بها خادماً لأهله. (2)

ونقل الشیخ عباس القمی فی «الكنى والألقاب»:

حكی عن تاریخ ابن كثیر أنّه قال: فی سنة 352 أمر معز الدولة أحمد بن بویه‏[55] فی بغداد فی العشر الأُول من المحرم بإغلاق جمیع أسواق بغداد، وأن یلبس السواد ویقیموا

مراسم العزاء، وحیث لم تكن هذه العادة مرسومة فی البلاد لهذا رآه علماء أهل السنّة بدعة كبیرة، وحیث لم یكن لهم ید على معز الدولة لم یقدورا إلّا على التسلیم، وبعد هذا فی كلّ سنة إلى انقراض دولة الدیالمة الشیعة فی العشرة الأُولى من المحرم من كلّ سنة یقیمون مراسم العزاء فی كل البلاد، وكان هذا فی بغداد إلى أوائل سلطنة السلطان طغرل السلجوقی. انتهى.[56]

 

 

 

[1] ( 1). الوسائل: ج 1 ص 60، الباب 18 من أبواب العبادات، ح 4.

[2] ( 2). ذكر الشیخ الصدوق فی خصاله فی حدیث الأربعمائة عن أمیر المؤمنین( علیه السلام) أنّه قال: إن الله تبارك وتعال اطّلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شیعة ینصروننا، ویفرحون لفرحنا، ویحزنون لحزننا، ویبذلون أموالهم وأنفسهم فینا، أُولئك منا وإلینا. الخصال: 2/ 625؛ بحار الأنوار: 44/ 287 ح 26.

[3] ( 1). جمع قلنسوة وهو نوع من ملابس الرأس وهی على هیئات متعدّدة.

[4] ( 2). الحج: 39.

[5] ( 3). مناقب آل أبی طالب: 3/ 86.

[6] ( 4). الأنقاس: جمع نقس- بالكسر- المداد أو الحبر الذی یكتب به.

[7] ( 5). مقاتل الطالبیین: 212.

[8] ( 6). مقاتل الطالبیین: 393.

[9] ( 1). المصدر نفسه: 407.

[10] ( 2). البدایة والنهایة: 10/ 127.

[11] ( 3). هو أبو الطیب أو أبو طلحة طاهر بن الحسین بن مصعب بن زریق بن ماهان الملقّب ب-« ذو الیمنین» والی خراسان، كان من أكبر قوّاد المأمون والمخلصین فی تثبیت دولته فی محاربة أخیه الأمین محمد بن زبیدة ببغداد.

كان جده زریق بن ماهان أو باذان مجوسیاً، فأسلم على ید طلحة الطلحات الخزاعی المشهور بالكرم والی سجستان، وكان مولاه ولذلك اشتهر بالطاهر الخزاعی.

وبنو طاهر ینسب إلیهم التشیع. رسالة فی آل أعین: 12؛ مستدركات علم رجال الحدیث: 289 برقم 8198؛ سیر أعلام النبلاء: 10/ 108 برقم 7.

[12] ( 1). البدایة والنهایة: 10/ 269- 273. وذكر شبیهاً لما تقدم الیعقوبی فی تاریخه: 2/ 448، 453، والمسعودی فی التنبیه والأشراف: 302.

[13] ( 2). وسائل الشیعة: 3/ 355، الحدیث 2.

[14] ( 3). وسائل الشیعة: 3/ 378- 379، الحدیث 9 و 10.

[15] ( 4). المصدر نفسه.

[16] ( 5). الكافی: 6/ 449، باب لبس السواد، الحدیث 1.

[17] ( 1). الكافی: 6/ 449، باب لبس السواد، الحدیث 2.

[18] ( 2). الكافی: 6/ 449، باب لبس السواد، الحدیث 3.

[19] ( 3). الكافی: 3/ 403.

[20] ( 4). علل الشرائع: 2/ 37، الحدیث 4.

[21] ( 1). علل الشرائع: 2/ 37، الحدیث 5 و 6.

[22] ( 2). المصدر نفسه.

[23] ( 3). وسائل الشیعة: 2/ 379، الحدیث 9.

[24] ( 1). المقنع: 194؛ الوسائل: الباب 16، كتاب الصلوة، ح 1.

[25] ( 2). المقنعة: 150.

[26] ( 1). الكافی فی الفقه: 140.

[27] ( 2). النهایة: 97.

[28] ( 3). الخلاف: 1/ 175، المسألة 247.

[29] ( 4). الخلاف: 1/ 392، المسألة 80.

[30] ( 5). المعتبر: 2/ 94.

[31] ( 1). تذكرة الفقهاء: 1/ 99.

[32] ( 2). الذكرى: 147.

[33] ( 3). جامع المقاصد: 2/ 438.

[34] ( 1). مجمع الفائدة والبرهان: 2/ 87.

[35] ( 2). المسوح: كساء من شعر، وهو ما یلبس من نسیج الشعر على البدن تقشّفاً وقهراً للجسد.

[36] ( 3). الحدائق الناضرة: 4/ 160.

[37] ( 1). عیون أخبار الرضا: 1/ 26، الحدیث 51.

[38] ( 1). الحدائق الناضرة: 7/ 116- 118.

[39] ( 1). من لا یحضره الفقیه: 1/ 252 برقم 769.

[40] ( 1). عبد الله بن شریك العامری یكنى أبا المحجل، روى عن علی بن الحسین وأبی جعفر( علیهما السلام) وكان عندهما وحبهاً مقدماً، وروى الكشی مدحه وأنّه من أهل الرجعة. وسائل الشیعة: 30/ 410، الفائدة الثانیة عشرة.

[41] ( 2). بحار الأنوار: 53/ 76 ح 81.

[42] ( 1). الكافی: 6/ 452 ح 9، باب لبس الوشی.

[43] ( 2). الكافی: 3/ 402 ح 22، باب اللباس الذی تكره الصلاة فیه.

[44] ( 1). المزعفر: المصبوغ بالزعفران.

[45] ( 2). المعصفر: المصبوغ باللون الأصفر المأخوذ من العصفر وهو نبات اصفر معروف.

[46] ( 3). تهذیب الأحكام: 2/ 373 ح 550، باب ما یجوز الصلاة فیه.

[47] ( 4). جواهر الكلام: 8/ 230- 235.

[48] ( 5). العروة الوثقى: 1/ 572.

[49] ( 1). سنن البیهقی: 5/ 33.

[50] ( 2). سنن أبی داود: 2/ 264 برقم 4074، الباب 21 فی السواد.

[51] ( 3). سنن الترمذی: 4/ 204 برقم 2966، الباب 82 ما جاء فی الثوب الاسود.

[52] ( 4). وسائل الشیعة: 2/ 357، الحدیث 10، نقلًا عن المحاسن للبرقی: 2/ 420، الحدیث 195.

[53] ( 1). بحار الأنوار: 45/ 195- 197. والأنطاع جمع نطع وهو بساط من جلد.

[54] ( 2). الأحزاب: 2. 33. وفیات الأئمة: 85.

[55] ( 3). هو أبو الحسن أحمد بن بویه بن فنا خسرو بن تمام من سلالة سابور ذی الأكتاف الساسانی، وكان من ملوك بنی بویه فی العراق فقد استولى على بغداد سنة 334 ه- وبایع المستكفی بالله وخلع الخلیفة علیه ولقبه ذلك الیوم بمعز الدولة ولقب أخویه بعماد الدولة وركن الدولة، وأمرأن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانیر والدراهم، وفی أیامه قویت شوكة آل بویه وهو أوّل من أمر الناس بإقامة المآتم للحسین( علیه السلام) فی العشرة الأُولى من المحرم واستمرت علیها الشیعة إلى الیوم. توفّی ببغداد سنة 356 ه- ودفن فی مقابر قریش. الفوائد الرجالیة للسید بحر العلوم: 3/ 96.

[56] ( 1). الكنى والألقاب: 2/ 471.

الخميس / 29 أغسطس / 2019