پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

المسألة الخامسة: ما هی أدلّة عصمتهم من مصادر التشریع الإسلامی؟

الجواب:

إنّ الأدلّة الدالّة علیها من مصادر التشریع الإسلامی كثیرة جدّاً، تجد المئات منها أیضاً فی كتاب الألفین، ونحن نشیر إلى بعض تلك الأدلّة بتعبیر منّا.

فنقول: من الأدلّة الدالّة علیها من القرآن المجید قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِیمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّیَّتِی قَالَ لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ﴾.([1]) فهذه الآیة الكریمة صریحة فی عِظَم أمر الإمامة، وأنّها عهد الله تعالى لا ینالها الظالمون، والظلم عنوان عامّ لكلّ ما لا یجوز فعله شرعاً أو عقلاً، كما تعرف ذلك من موارد استعمالاته فی الكتاب والسنّة واللغة.

لا یقال: إنّ الآیة لا تدلّ على أكثر من عدم لیاقة الظالم لنیل منصب الإمامة فی حال تلبّسه بالظلم، ولا تدلّ على عدم نیله إذا كان متلبّساً به فیما مضى.

 

لأنّه یقال أوّلاً: لا نُسلّم كون المشتقّ حقیقةً فی المتلبّس بالمبدأ فی الحال، أی فی حال الجری والنسبة، بل هو أعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدأ.

وثانیاً: إنّ ما هو الملاك فی عدم نیل الظالم الإمامة هو صدور الظلم عنه، فما یمنع شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة، والسارق وغیرهم من الظالمین عن التشرّف بمقام الإمامة هو شرب الخمر وقتل النفس والسرقة، وإن صدر عنهم فی الماضی وتابوا بعده، ولیس المراد أنّ الشارب حال تلبّسه بشـرب الخمر، والزانی فی حال تلبّسه بالزنی، والسارق فی حال تلبّسه بالسرقة، وعابد الأصنام فی حال تلبّسه بعبادة الأصنام وعدم توبته عن هذه الأفعال غیر صالح لهذا المقام، أمّا بعد هذا الحال ولو بساعة ولحظة وبعد التوبة لا تقدح هذه المعاصی فی صلاحیته، وهذا واضح یُعرَف بأدنى تأمّل.

إن قلتَ: فما هو معنى قوله’: «الإِسْلَامُ یَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ»([2])، و «التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا»([3])، وقوله’: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».([4])

 

قلتُ: لا ریب فی ذلك، ولكن قد بیّنّا لك أنّ الشـرع إنّما یحكم تأسیساً، وهو المرجع الأوّل فیما لا حكم فیه للعقل، ففی دائرة الأحكام والتكالیف الشرعیة ـ وضعیة كانت أو تكلیفیة ـ الإسلام یجبّ ما قبله، ویذهب بالآثار الشـرعیة المترتّبة على الأفعال الّتی ارتكبها الشخص قبل إسلامه على التفصیل المذكور فی الفقه، أمّا الآثار الوضعیة الحقیقیة فلیست بتشـریعیة، ولا تنالها ید الإنشاء والاعتبار، فلیست قابلةً للمحو بالإسلام والتوبة.

فتنفُّر الطباع عمّن ارتكب قبائح الأعمال والشـرور وعبد الأصنام قبل إسلامه وتوبته لا یزول بهما، وكذا عدم الاعتماد على الكذّابین والخائنین وأهل الفجور والشـرّ والفساد أمر طبیعیّ لا یمكن رفعه بالإنشاء، ومصلحة النبوّات وتربیة العباد، وسیاسة اُمورهم تقتضـی أن یكون النبیّ والإمام من غیرهم.

وكم فرق بین من لم یكفر بالله طرفة عین، وكان له فی سالف عمره سوابق حسنة، وكانت حیاته مضیئةً بالخیرات مشـرقةً بالصلح والسلم والكرامة الإنسانیة والرشد والفلاح ومنع الظلم ورحمة الأیتام والضعفاء والمستضعفین، وبین من مضـى برهة من عمره فی عبادة الأصنام وارتكاب القبائح حتى وَأْد البنات بقساوة شدیدة قلّما یرى مثلها فی تاریخ الإنسان.([5])

 

وثالثاً: عدم نیلِ الظالم عهدَ الله تعالى فی حال ظلمه، سیّما إذا كان ظلمه عبادة الأصنام وارتكاب الفجور، والظلم للعباد بالاستعلاء علیهم واستضعافهم واضح لا یحتاج توهّمه إلى دافع، سیّما إذا كان السائل نبیّاً جلیلاً كإبراهیم الخلیل الّذی بلغ فی معرفة الله تعالى الغایة القصوى، ودفع توهّمه خلاف البلاغة، فإذن لیس المراد منه إلّا مطلق من صدر عنه الظلم، بل خصوص من صدر عنه الظلم فی الماضی، أو یعلم الله بصدوره عنه فی المستقبل، وأمّا المتلبّس بالظلم، فعدم أهلیّته معلوم بالضرورة لا حاجة إلى التنبیه علیه.

نعم، هذه الآیة لا تدلّ على أزید من عصمتهم عن المعاصی.

ومن هذه الآیات قوله تعالى: ﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ أَطِیعُواْ اللّٰهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِی الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.([6])

وهذه الآیة تدلّ على وجوب إطاعة الرسول، واُولی الأمر فی كلّ ما

 

یأمرون به وینهون عنه، ولو لم یكونوا معصومین لزم الأمر بإطاعة غیر المعصوم، والأمر بإطاعته قبیح؛ لكونه معرّضاً للأمر بالقبیح والنهی عن الحسن.

ومنها قوله تعالى: ﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّٰهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِینَ﴾.([7])

فإنّه یدلّ على وجوب الكون مع الصادقین، والكون معهم عبارة عن متابعة أقوالهم والاقتداء بأفعالهم، والتزام سیرتهم وعدم مفارقتهم، فیجب أوّلاً عدم خلوّ الزمان منهم، وثانیاً كونهم معصومین عن المعاصی والخطأ والسهو، بل وترك الأولى، وقد روی من طرق الشیعة وأهل السنّة أنّ الصادقین هم أئمّة أهل البیت(ع).([8])

وللفخر الرازی فی تفسیره الكبیر كلام حول تفسیر هذه الآیة یؤیّد بالإفصاح مذهب الشیعة الإمامیة، وكلامه فی غایة التحقیق، ولا عبرة

 

بما قال فی ذیل كلامه من الجواب عمّا تفطّن به، فإنّه فی غایة الضعف، ویستبعد خفاء ضعفه عن مثله، فلعلّه إنّما قاله خوفاً من النواصب الّذین یرون إنكار فضائل أهل بیت النبیّ(ع) وبغضهم من علائم كون الشخص من أهل السنّة، مع أنّ النبیّ’ قال: «لَا یُحِبُّ عَلِیّاً مُنَافِقٌ، وَلَا یُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ».([9])

وقال علیّ(ع): «عَهِدَ إِلَیَّ النَّبیُّ: أَنَّهُ لَا یُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا یُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ».([10])

ومن الآیات الدالّة على عصمتهم: قوله تعالى حكایةً عن إبلیس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ  * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ﴾؛([11])

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِی لَیْسَ لَكَ عَلَیْهِمْ سُلْطَانٌ﴾؛([12])

وقوله سبحانه: ﴿أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا یَهِدِّیَ إِلَّا أَنْ

 

یُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَیْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ([13])، وقوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ﴾([14])؛ وقوله عزّ من قائل: ﴿إِنَّمَا یُرِیدُ اللّٰهُ لِیُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَكُمْ تَطْهِیراً([15])وغیرها ممّا یطول بنا المقام بذكرها وبیان الاستدلال بها.

إن قلت: إذا كان الأمر بإطاعة غیر المعصوم قبیحاً لا یصدر عن الحكیم ـ كما ذكرتم فی بیان الاستدلال بقوله تعالى: ﴿أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِی الْأَمْرِ مِنْكُمْ([16]) ـ فما تقولون فی اُمراء السرایا، وحكّام البلاد، والمفتی والقاضی، مع أنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعتهم وعدم عصمتهم؟

قلت أوّلاً: إنّهم وإن كانوا ممّن تجب طاعته فیما علم بعدم خطئهم، وفیما لا طریق إلى العلم بخطئهم، إلّا أنّه لو علم بخطئهم لم تجب إطاعتهم؛ لأنّه «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِی مَعْصیَةِ الْـخَالِقِ»([17]) ولیس أمر اُمراء

 

السرایا وحكم حكّام البلاد بحیث لا یمكن تخلّفه عن الواقع وفرض الخطأ فیه، كما هو الأمر فی أمر النبیّ والإمام وحكمهما، لأنّه لا یتخلّف عن الواقع، ودلیل على الشـرع، والشـرع یعرف به كما یعرف بغیره من مصادر التشریع.

وثانیاً: إنّ النبیّ والإمام إذا أخطآ لیس من ورائهما نبیّ أو إمام ینبّه على خطئهما، بخلاف اُمراء السـرایا والحكّام فإنّ النبیّ والإمام من ورائهم یحفظان الشریعة من التحریف والتغییر، وینبّهان على خطأ اُمراء السرایا والعمّال.

وثالثاً نقول: إمّا أن نقول بوجوب إطاعة الإمام فی جمیع الأوقات، أو یخصّص عمومه ببعض الأوقات، لا سبیل إلى الثانی، فإنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعته مطلقاً وفی جمیع الأوقات، وعلى هذا لو فرض كون الإمام غیر معصوم یمكن أن یقع فی الخطأ فی وقت مّا، ویأمر على خلاف ما أمر به النبیّ فحینئذ: إمّا أن تجب إطاعته ومخالفة النبیّ، وهذا باطل قطعاً، وإمّا أن تجب إطاعة النبیّ ومخالفة الإمام، وهو مخالف لوجوب إطاعة كلّ واحد منهما؛ لأنّ الله ساوى بینهما فی الأمر بإطاعتهما، وإمّا أن تجب إطاعة كلّ واحد

 

منهما وهو محال وتكلیف بما لا یطاق، فلا یبقى إلّا الأمر الرابع وهو عصمة الإمام كالنبیّ، وعدم وقوع المخالفة بینهما.

وعلى هذا فنقول: فرق واضح بین إطاعة الإمام وإطاعة اُمراء السـرایا والحكّام، فإنّ الله لم یساوِ بین إطاعتهم وإطاعة الإمام والنبیّ، وإنّما وجبت إطاعتهم بأمر النبیّ أو الإمام بتعیینهما إیّاهم لهذه المناصب؛ ولذا یجب أن یكون الإمام كالنبیّ معصوماً دون غیرهما من اُمراء السرایا والحكّام.

هذا بعض الأدلّة الّتی اُقیمت على عصمة الأنبیاء والأئمّة(ع) من القرآن المجید المصدر الأوّل للتشریع الإسلامی بتقریر منّا.

وهنا أیضاً أدلّة كثیرة من السنّة الّتی هی المصدر الثانی للتشـریع، نشیر إلى طائفة منها:

فمنها: الأحادیث المتواترة المشهورة بین الفریقین بأحادیث الثقلین.([18])

 

وهذه الأحادیث ـ على كثرتها وتواترها، وكثرة مُخرِجِیها ورواتها من الصحابة ـ قد دلّت على عدم خلوّ الزمان من إمام معصوم عن الذنب والسهو والخطأ، وحصر طریق الأمن من الضلال والاختلاف بالتمسّك بالكتاب والعترة الهادیة المعصومة.

ومنها: أحادیث السفینة([19])، الدالّة على أنّ «مثل أهل بیت رسول الله’ كسفینة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق».

وهذه الأحادیث أیضاً دلّت على وجود إمام معصوم من أهل البیت فی جمیع الأعصار.

ومنها: أحادیث الأمان،([20]) وهذه الأحادیث أیضاً دلّت على عدم خلوّ الزمان من معصوم من أهل بیت النبیّ’ یكون وجوده أماناً

 

لأهل الأرض، والتمسّك به أماناً من الضلالة والاختلاف.

وقد أشبعنا الكلام حول هذه الأحادیث «أحادیث الثقلین»، و «أحادیث السفینة»، و «أحادیث الأمان» وأسنادها ومتونها ودلالتها فی كتابنا أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف.

ولا یخفى علیك أنّ الأحادیث فی عصمة النبیّ والإمام كثیرة جدّاً، والأحادیث المذكورة وإن لم تدلّ على عصمة النبیّ إلّا أنّها بعد الدلالة على عصمة الإمام تدلّ على عصمة النبیّ بالطریق الأولى، وإنّما استشهدنا بهذه الأحادیث لتواترها وشهرتها بین الفریقین، ومن أراد أكثر من ذلك فلیراجع الموسوعات والجوامع، كالكافی والبحار.

وقد ثبت بالأدلّة العقلیة والنقلیة عصمة النبیّ والإمام عن جمیع المعاصی عمداً وخطأً وسهواً، وعن السهو والنسیان فیما یؤول إلى تبلیغ أحكام الله تعالى، وشؤون الرسالة والإمامة، وأمّا العصمة عن الخطأ والنسیان والسهو فی الاُمور العادیّة وترك الأولى لغیر نبیّنا والأئمّة^ من الأنبیاء الماضین فغیر ثابتة، بل ربما یستظهر من بعض الآیات والأحادیث صدور هذه الاُمور من بعضهم، وهذا وإن كان قابلاً للتأویل إلّا أنّه لیس فی البحث عنه كثیر فائدة؛ لأنّ مثل ذلك غیر مضـرّ بشؤون رسالاتهم ومقاماتهم العلیّة الثابتة، ولیس من الاُمور الاعتقادیة

 

الّتی تجب معرفتها، فیكفینا الاعتقاد فی ذلك إن قیل بوجوب الاعتقاد فیه بما هو الواقع.

نعم، لـمّا قلنا: إنّ العصمة هی أعلى مراتب حضور العبد عند مولاه، ونورانیة نفسانیة ملكوتیة تذهب بكلّ الظلام، وتشـرق كلّ وجود صاحبها فلا شكّ أنّ لهذه النورانیة مراتبَ ودرجاتٍ أعلاها ما حصل لنبیّنا والأئمّة^، وأدناها ما یصون الشخص عن المعاصی عمداً وسهواً، وعن الاشتباه والسهو والنسیان فی أمر الرسالة وشؤونها، فعلى هذا یمكن أن یوجد فی عظماء الأنبیاء نورانیة وعنایة ربّانیة دائمة تصرفهم عن ترك الأولى، وتدفع عن قلبهم غطاء السهو و حجاب النسیان.

وأمّا بالنسبة إلى نبیّنا محمد’ وأوصیائه وخلفائه الإثنی عشـر(ع) فحیث إنّهم فی أعلى مراتب القوّة القدسیة والنورانیة الربّانیة، ولا تفوق رتبتَهم فی الحضور عند المولى والجلوس على بساط قربه واُنسه رتبة، فعدم صدور ترك الأولى عنهم كعدم صدور المعاصی فی نهایة الوضوح، یظهر ذلك لكلّ من درس تاریخ حیاتهم النوریة وأخلاقهم الإلهیة، وأدعیتهم ومناجاتهم، وخشیتهم من الله تعالى، وإنابتهم إلیه وانقطاعهم عن الخلق.

فهم أكمل المظاهر لإخلاص العبد وترك الاشتغال بغیر الله تعالى،

 

لا یصدرون إلّا عن أمره، كلّ أفعالهم محمودة مرضیّة، وكلّ حالاتهم حمیدة شریفة، لا تؤثّر فیهم الدواعی إلّا داعی الله، فكمال إخلاصهم یمنعهم عن الاعتناء بغیر داعی الله تعالى، وعن الاشتغال بغیر ذكره وامتثال أوامره ونواهیه، قد خرقت أبصار قلوبهم حجب النور فوصلت إلى معدن العظمة، وصارت أرواحهم معلّقة بعزّ قدسه، جباههم ساجدة لعظمته، وعیونهم ساهرة فی خدمته، ودموعهم سائلة من خشیته، وقلوبهم متعلّقة بمحبّته، وأفئدتهم منخلعة من مهابته، انقطعت همّتهم إلیه، وانصـرفت رغبتهم نحوه، لقاؤه قرّة أعینهم، وقربه غایة سؤلهم. إذن فكیف یصدر ترك الأولى ممّن بعض شؤونه وحالاته ما سمعت؟! رزقنا الله تعالى محبّتهم وولایتهم وشفاعتهم، وحشرنا فی زمرتهم.

ولا یخفى علیك أنّ ترك الأولى لیس معناه ترك المستحبّ أو فعل المكروه فحسب، بل ربّما یكون بترك المستحبّ أو فعل المكروه، وربّما یكون بفعل المستحبّ وترك المكروه، والنبیّ والإمام أعلم بموارد ترك الأولى، فلا یجوز نسبة ترك الأولى إلى النبیّ والولیّ، بل إلى غیرهما من الفقهاء العارفین بأحكام الله تعالى، وموارد تزاحم المستحبّات

 

والمكروهات، بعضها من بعض، بمجرّد ترك المستحبّ أو فعل المكروه، بل یمكن الاستدلال بفعلها على عدم كون هذا الفعل أو الترك مستحبّاً أو مكروهاً بقول مطلق، وإلّا لَما كان یصدر عنهم.

ثم إنّه قد بقی مطلب آخر، وهو: النظر فی الآیات والأحادیث الّتی تُوُهِّم منها عدم عصمة الأنبیاء، ولئلّا یطول بنا المقام نحیل الباحثین إلى التفاسیر المأثورة عن أهل بیت النبوّة أعدال القرآن الكریم، وكتاب تنزیه الأنبیاء و الشافی وتلخیصه، و اللوامع الإلهیة، و بحار الأنوار وغیرها من كتب الكلام والحدیث.

 ومجمل القول فی الآیات: إنّها غیر ظاهرة فی عدم عصمة الأنبیاء، ولو سلّم ظهور لبعضها یجب تأویله وحمله على المجاز، لدلالة هذه القرائن العقلیة على عدم إرادة ظاهرها.

وأمّا الأحادیث فأكثرها من الإسرائیلیّات، ومخرَّجة فی كتب العامّة، فهی إمّا موضوعة لا سند لها ولا أصل، كخبر الغرانیق والإسرائیلیّات الّتی اُخذت من الیهود، مثل «كعب الأحبار» و «وهب بن منبّه» فی قصص الاُمم الماضیة وأنبیائهم، تجد فیها من الخرافات والأعاجیب ما تضحك له الثكلى. وإمّا ضعیفة السند لا یعتمد علیها، سیّما فی اُصول

 

الدین، ومعارضة بأحادیث اُخرى صحیحة معتضدة بحكم العقل.

وبالجملة: فلا تجد فی الأخبار ما یصحّ التعویل علیه، والركون إلیه فی نفی العصمة للأنبیاء(ع)، والله الهادی إلى الصواب.

 


([1]) البقرة، 124.

([2]) أحمد بن حنبل،‌ مسند، ج4، ص199، 204 ـ 205؛ القمّی، تفسیر، ج1، ص148؛ البیهقی، السنن الکبری،‌ج 9، ص123؛ المجلسـی، بحار الأنوار، ج6، ص23، ح 24؛ ج110،‌ ص371.

([3]) ابن أبی ‌جمهور الأحسائی، عوالی اللئالی، ج1، ص237، ح 150؛ المحدّث النوری، مستدرك الوسائل، ج12، ص129، ح 12.

([4]) ابن ماجة القزوینی، سنن، ج2، ص1420؛ الکلینی، الكافی، ج2، ص435، ح 10؛ الصدوق، عیون أخبار الرضا×، ج1، ص79؛ البیهقی، السنن الکبری، ج10، ص154؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج16، ص75.

([5]) وهذا عمر بن الخطّاب قد دفن فیما روی ستّاً من بناته فی الجاهلیة، وإن كانZ
[ لیحفر لإحداهنّ الحفرة یرید أن یئدها فیها فیتخلّله غبار الحفر فتنفض البنت عن أبیها غباره، وتمشّط لحیته بأصابعها حناناً ورقّةً فلا یُلین ذلك من قلبه شیئاً، حتى إذا انتهى زجّها فی قبرها وأهال التراب بین بكائها وعویلها واستنجادها به: یا أبتاه ! (الاُستاذ محمد سعید الأفغانی، مجلّة حضارة الإسلام، طبع دمشق، العدد 2، ص 21، س 22).

([6]) النساء، 59.

([7]) التوبة، 119.

([8]) یراجع فی ذلك: الحاكم الحسكانی، شواهد التنزیل، ج1، ص 341 ـ 345؛ ابن البطریق، خصائص الوحی المبین، الفصل23، ص234 ـ 235؛ السیوطی، الدرّ المنثور، ج3، ص290؛ وغیرها من كتب أعلام الشیعة وأهل السنّة،  ولابن البطریق هنا استدلال على أنّ الإیمان والتقوى لا ینفعان إلّا بعد الكون مع أمیر المؤمنین علیّ × (ص234 ـ 235).

([9]) الترمذی، سنن، ج5، ص299، ح 3801؛ أبو یعلی الموصلی، مسند، ج12، ص361، ح 6931.

([10]) راجع: أحمد بن حنبل،‌ مسند، ج1، ص84، 95، 128؛ الترمذی، سنن، ج5، ص306،
ح 3819؛ النسائی، سنن، ج8، ص116؛ النسائی، السنن الکبری، ج5، ص137.

([11]) ص، 82 ـ 83.

([12]) الحجر، 42؛ الإسراء، 65.

([13]) یونس، 35.

([14]) آل عمران، 31.

([15]) الأحزاب، 33.

([16]) النساء، 59.

([17]) نهج البلاغة، الحکمة 165 (ج4، ص41)؛ الصدوق، من لا یحضـره الفقیه،Z
[ ج4، ص381؛ الطبرسی، مکارم الأخلاق، ص420؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبی طالب، ج3، ص228.

([18]) منها: ما أخرجه عبد بن حمید فی مسنده، عن زید بن ثابت قال: قال رسول الله’: «إِنِّی تَارِكٌ فیكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللّٰـهِ، وَعِتْرَتِی أَهْلَ بَیْتی، إِنَّهُمَا لَنْ یَفْتَرِقَا حَتَّی یَرِدَا عَلَیَّ الْحَوْضَ». عبد بن حمید، ‌منتخب مسند عبد بن حمید، ص108.

ومنها: ما أخرجه أحمد فی مسنده: «إِنِّی أَوْشَكَ أَنْ اُدْعَی فَاُجیبَ، وَإِنِّی تَارِكٌ فِیكُمُ الثَّقَلَیْنِ، كِتَابَ اللّٰـهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِتْرَتِی، کِتَابُ اللّٰـهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ‏ السَّمَاءِ إِلَى‏ الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِی أَهْلُ بَیْتِی، وَإِنَّ اللَّطِیفَ الْـخَبیرَ أَخْبَرَنِی أَنَّهُمَا لَنْ یَفْتَرِقا حَتَّی یَرِدَا عَلَیَّ الْـحَوْضَ، فَانْظُرُونی كَیْفَ تَخْلُفُونَنِی فِیهِمَا». أحمد بن حنبل، مسند، ج3، ص17.

([19]) أخرج هذه الأحادیث من أعلام العامّة ما یربو على المائة عن جمع من الصحابة، وألفاظها فی بعض طرقها هكذا: «مَثَلُ أَهْلِ بَیْتِی مَثَلُ سَفینَةِ نوُحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ». الصفار،‌ بصائر الدرجات، ص317؛ الکوفی،‌ مناقب الإمام أمیر المؤمنین×، ج2، ص146؛‌ المغربی، شرح الاخبار، ج2، ص502 ـ 503؛ ج3، ص3؛ الحاکم النیسابوری، المستدرك، ج2، ص343؛ ج3، ص151.

([20]) ولفظها فی بعض طرقها هكذا: «النُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وأَهْلُ بَیْتی أَمَانٌ لِاُمَّتی مِنَ الْإِخْتِلَافِ ...». الحاکم النیسابوری، المستدرك، ج3، ص149؛ الصالحی الشامی، سبل الهدی والرشاد،‌ ج11،‌ ص7؛ المتّقی الهندی، کنز العمّال، ج12، ص102.

موضوع: 
نويسنده: