پنجشنبه: 30/فرو/1403 (الخميس: 9/شوال/1445)

 

وأوّل باب فتحه أبو جعفر‌‌(رحمهالله) فی هذه الرسالة الموسومة بالاعتقادات، باب له تقدّم مطلق على جمیع الأبواب، وهو باب ‏التوحید الّذی عبّر عنه بـ (باب فی صفة اعتقاد الإمامیة فی التوحید)، ثم قال:

«اعلم أنّ اعتقادنا فی التوحید: أنّ الله تعالى واحد أحد لیس كمثله شیء، قدیم لم یزل ولایزال سمیعاً بصیراً، علیماً حكیماً، حیّاً قیّوماً، عزیزاً قدّوساً، قادراً غنیّاً، لا یوصف بجوهر ولا جسم، ولا صورة ولا عرض، ولا خطّ ولا سطح، ولا ثقل ولا خفّة، ولا سكون ولا حركة، ولا مكان ولا زمان، وأنّه تعالى متعالٍ عن جمیع صفات خلقه، خارجٌ عن الحدّین حدِّ الإبطال وحدِّ التشبیه».([1])

ثم واصل هذه الکلمات الرفیعة العرفانیة مشیراً إلی بعض آیات القرآن وتفسیرها.

ومنها: هذه‏ الآیة ‏الكریمة: ﴿یَوْمَ یُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَیُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ

 

فَلا یَسْتَطِیعُونَ *...وهُمْ سَالِمُونَ﴾؛([2]) فقال فی مقام نفی توهّم دلالة الساق على ساق الرِجل: الساق وجه الأمر وشدّته.([3])

وقال المفید‌‌(رحمهالله) أیضاً: «﴿یَوْمَ یُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾؛([4]) یرید به: یوم القیامة یكشف فیه عن أمر شدید صعب عظیم، وهو الحساب والمداقّة على الأعمال والجزاء».([5])

ومنها هذه الآیة: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَیْنَاهَا بِأَیْدٍ﴾؛([6]) فقال فی تفسیرها: الأید: القوّة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَیْدِ﴾؛([7]) یعنی ذا القوّة.([8])

وجاء فی کلام المفید: «ومضى فی کلام أبی جعفر‌‌(رحمهالله) شاهد الید عن القدرة قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَیْدِ﴾؛([9]) فقال: ذو القوّة».([10])

 

قال الشیخ المفید: «وفیه وجه آخر وهو أنّ الید عبارة عن النعمة، قال الشاعر:

له علیّ أیادٍ لست أكفرُها                     وإنّما الكفر ألّا تُشكَر النعمُ

فیحتمل أنّ قوله تعالى: ﴿دَاوُدَ  ذَاالْأَیْدِ﴾؛([11]) یرید به ذا النعم، ومنه قوله تعالى: ﴿بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ([12])».([13])

أقول: كأنّه اشتبه الأید المفرد الّذی هو بمعنى القدرة والقوّة بالأید الّذی جمع ید، والشیخ أبو جعفر فسّر الآیة على الأید المفرد لا على الأید الّذی هو جمع، والشیخ أبو عبد الله فسّره على ما هو جمع الید. والظاهر هو الأوّل الّذی فسّـر اللفظ به.

ومنها: تفسیره هذه الآیة: ﴿وَنَفَخْتُ فیهِ مِنْ رُوحِی﴾؛([14]) إذ قال: وهی روح مخلوقة جعل الله منها فی آدم وعیسى(ع) وإنّما قال: روحی، كما قال: بیتی وعبدی وجنّتی، وناری وسمائی وأرضی، أی مخلوقی.([15])

وقد استدرك الشیخ أبو عبد الله المفید على هذا التفسیر فقال: «لیس

 

وجه إضافة الروح والبیت إلی نفسه والنسبة إلیه من حیث الخلق فحسب، بل الوجه فی ذلك التمییز لهما بالإعظام والإجلال».([16])

لكن هذا الاستدراك على الصدوق ـ كما یبدو ـ غیر موجّه؛ لأنّ الظاهر هو أنّ الغرض من وصف الروح بقوله: هی روح مخلوقة، بیان حدوث الروح ومخلوقیّتها وإثبات صفات الحدوث والمخلوقیة لها، ودفع توهّم عدم حدوثها، لا أنّه لم یلتفت إلی أنّ الإضافة تكریمیة وتشریفیة، ویكفی دلیلاً على التفاته إلى هذه اللطیفة أنّه فی مقام التشبیه شبّه إضافة الروح بإضافة البیت إلی ذاته المقدّسة.

ومن الآیات الّتی فسّـرها الصدوق فی هذا الباب فی رفع توهّم المجسّمة، قوله تعالى: ﴿قَالَ یَا إِبْلِیسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِیَدَیَّ﴾؛([17]) فقال: إنّ المراد: بقدرتی  وقوّتی.([18])

وقد استدرك علیه الشیخ المفید فقال: هذا یفید تكرار المعنى فكأنّه قال: بقدرتی وقدرتی، أو بقوّتی وقوّتی، إذ القدرة هی القوّة والقوّة هی القدرة، بل المراد من «بیدیَّ» هو: بنعمتیَّ، والمراد منهما نعمة الدنیا ونعمة الآخرة، و«الباء» فی قوله تعالى: «بیدیَّ» تقوم مقام اللام ـ واللام

 

لام الغایة ـ أی خلقت لنعمتیَّ كما قال فی سورة الذاریات: ﴿ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ‏﴾؛([19]) ثم قال: وفی تأویل الآیة وجهٌ آخر وهو أنّ المراد بالیدین فیها هو القوّة والنعمة، فكأنّه قال : خلقت بقوّتی ونعمتی، وفیه وجه آخر، وهو: أنّ إضافة الیدین إلیه إنّما اُرید به تحقّق الفعل له وتأكید إضافته إلیه وتخصیصه به دون ما سوى ذلك من قدرة أو نعمة، وشاهد ذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ یَداكَ﴾؛([20]) وإنّما أراد بذلك من فعلك، والعرب تقول فی أمثالها: «یداك أوكَتا، وفُوك نَفخ».([21])

وممّا تجدر الإشارة إلیه هو أنّ الصدوق قال فی تفسیر الآیة أیضاً: ﴿بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾؛([22]) یعنی نعمة الدنیا ونعمة الآخرة.([23])

وربّما استفید ذلك من قول الیهود: ﴿یَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ﴾؛([24]) حیث ذكروا الید مفردة بمعنى أنّ الیهود لمّا کانوا غیر معتقدین بعالم الآخرة، بل کانوا یعتقدون بنعمة الدنیا وهذا العالم فحسب، فإنّهم عبّروا عن ذلك

 

بالید، وبما أنّهم کانوا یزعمون أنّ هذا العالم یجری لوحده وأنّ الله فرغ منه وخرج عن أمره، فقد أنكروا استمرار نعمة الله وإفاضة فیضه، ولذا فقد عبّر عن قولهم: ﴿یَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ﴾.([25])

وفی عبارة: ﴿ بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾؛([26]) ردّ على الاعتقادین الفاسدین، وذلك بأنّ ‏الدنیا ونعمتها واستمرارها منه سبحانه، والآخرة ونعمتها واستمرارها من قبله أیضاً. فالله لم یفرغ من الأمر و ﴿كُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی‏ شَأْنٍ﴾.([27])

أما تفسیره لقوله تعالى: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِیَدَیَّ﴾؛([28]) حیث اعتبر الباء بمعنى اللام، وجعل اللام للغایة فیبدو بعیداً، أضف إلی ذلك أنّ لفظی القوّة والقدرة لیسا مترادفین بمعنى واحد، فمعناهما مختلف بحسب اللغة، ولذا فقد قیل فی الأسماء الحسنى لله: إنّ معنى القادر غیر معنى القویّ.

وبعد هذا نقول: یبدو أنّ أظهر الوجوه فی تفسیر الآیة الشـریفة هو الوجه الثالث من الوجوه الّتی أشار إلیها المفید، وهو بما أنّ ظهور قدرة الإنسان إنّما یكون بکلتی یدیه، وبکلتی الیدین تتجلّى القدرة بصورة

 

أكمل وأكثر، لذا فقد بیّن بهذا التعبیر ظهور كمال قدرة الله فی خلق آدم وعبّر عن ذلك: ﴿بِیَدَیَّ﴾، ولیس المراد منه أنّ قدرة الله لها مراتب، ولیس شأنها كما هی الحال بالنسبة إلى المقدورات كالإنسان مثلاً، إذ لا یستطیع أن یحمل بید واحدة ما ینبغی حمله بیدیه معاً.

وفی علم الله وقدرته لا یوجد هذا التفاوت والاختلاف فیهما بالنسبة إلى المقدورات والمعلومات، لكن قدرة الله الواسعة غیر المتناهیة هذه هی الّتی  أظهرها بخلق المخلوقات الصغیرة والكبیرة، وما یرى وما لا یرى، والإنسان والحیوان، والملائكة والمجرّدات، والنمل والجراد، والذرّة و... إلخ.

وفی ذكر بیان وجود الإنسان إظهار للقدرة بصورة أجلى، ومن البشـر الكاملین آدم(ع) وسائر الأنبیاء، وخاصّة الرسول الأكرم محمّد(ص) وأوصیاؤه، فهم أكمل وأجلى وأتمّ صورةً لإظهار قدرة الله.

ولهذه الجهة کان التعبیر «بیدیّ» فی خلق آدم أكثر ملائمة ومناسبة وموافقة للبلاغة. والله هو العالم بمراده.

ومن جملة الآیات الّتی فسّرها الصدوق فی هذا الباب، دفعاً لتوهّم النقص فی ذات الباری تعالى، هذه الآیات: ﴿یُخَادِعوُنَ اللّٰه وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾؛([29]) وقوله

 

تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّٰهُ﴾؛([30]) و ﴿اللّٰهُ یَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛([31]) فقال: وفی القرآن: ﴿یُخَادِعوُنَ اللّٰه وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾؛([32]) وفی القرآن: ﴿اللّٰهُ یَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛([33]) وفی القرآن: ﴿سَخِرَ اللّٰهُ مِنْهُمْ﴾؛([34]) وفی القرآن: ﴿نَسُوا اللّٰهَ فَنَسِیَهُمْ﴾؛([35]) ومعنى ذلك کلّه: أنّه عزّ وجلّ یجازیهم جزاء المكر، وجزاء المخادعة، وجزاء الاستهزاء، وجزاء السخریّة، وجزاء النسیان، وهو أن ینسیهم أنفسهم كما قال عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِینَ نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾؛([36]) لأنّه عزّ وجلّ فی الحقیقة لا یمكر ولا یخادع ولا یستهزئ ولا یسخر ولا ینسى، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبیراً.([37])

وقد استدرك المفید علیه قائلاً: «وهو كما قال، إلّا أنّه لم یذكر الوجه فی ذلك، والوجه أنّ العرب تسمّی الشیء باسم المجازى علیه للتعلّق فیما بینهما والمقارنة، فلمّا کانت الأفعال المجازى علیها مستحقّة لهذه الأسماء

 

کان الجزاء مسمّیً بأسمائها».

ثم استشهد بهذه الآیة: ﴿إِنَّ الَّذینَ یَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْیَتَامَى‏ ظُلْماً إِنَّمَا یَأْكُلُونَ فِی‏ بُطُونِهِمْ نَاراً﴾؛([38]) ثم قال: «فسمّى ما یأکلون من الطیّبات تسمیة النار وجعله ناراً؛ لأنّ الجزاء علیه النار».([39])

وبدیهیٌّ أنّه إذا کان غرض المفید من الاستشهاد بهذه الآیة لیبیّن أنّه بمجرّد المقارنة بین الجزاء والمجازى علیه یطلق أحدهما على الآخر كما هی الحال فی آیات المكر والخدیعة والاستهزاء، إذ اُطلق الجزاء واُرید به المجازى علیه، وفی هذه الآیة انعكس الأمر فاُطلق المجازى علیه مكان الجزاء وهو النار، فذاك إتمام للمطلب.

وقد استدرك المفید على الصدوق فی تفسیر قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللّٰهَ؛([40]) فقال: النسیان فی اللغة هو الترك والتأخیر، وبناء على هذا فمعنى: ﴿نَسُوا اللّٰهَ﴾، تركوا إطاعة الله ومعنى: ﴿نَسِیَهُمْ‏﴾،([41]) یرید به تركهم من ثوابه، و قوله تعالى: ﴿فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾،([42]) أی ألجأهم إلی

 

ترك تعاهدها... إلخ.([43])

لكن یمكن أنْ یقال: إنّ المتبادر إلی ذهن العرف هو تفسیر الصدوق والله أعلم.

 

 

([1]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص21 ـ 22.

([2]) القلم، 42 ـ43.

([3]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص23.

([4]) القلم، 42.

([5]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص27ـ 28.

([6]) الذاریات، 47.

([7]) ص، 17.

([8]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص 23.

([9]) ص، 17.

([10]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص30.

([11]) ص، 17.

([12]) المائدة، 64.

([13]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص30.

([14]) الحجر، 29؛ ص، 72.

([15]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص23.

([16]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص32.

([17]) ص، 75.

([18]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص23 ـ 24.

([19]) الذاریات، 56.

([20]) الحجّ، 10.

([21]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص33 ـ 34.

([22]) المائدة، 64.

([23]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص23.

([24]) المائدة، 64.

([25]) المائدة، 64.

([26]) المائدة، 64.

([27]) الرحمن، 29.

([28]) ص، 75.

([29]) النساء، 142.

([30]) آل عمران، 54.

([31]) البقرة، 15.

([32]) النساء، 142.

([33]) البقرة، 15.

([34]) التوبة، 79.

([35]) التوبة، 67.

([36]) الحشر، 19.

([37]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص25 ـ 26.

([38]) النساء، 10.

([39]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص35 ـ 37.

([40]) الحشر، 19.

([41]) التوبة، 67.

([42]) الحشر، 19.

([43]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص38 ـ 39.

موضوع: 
نويسنده: