جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

 

فی بحث النفوس والأرواح جرى نقاش من قبلُ فاُورد على کلام الصدوق حیث قال: «اعتقادنا فی النفوس أنّها هی الأرواح الّتی بها الحیاة، وأنّها الخلق الأوّل، وأنّها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء، وأنّها فی الأرض غریبة وفی الأبدان مسجونة».([1]) فردّ علیه بشدّة قائلاً: «کلام أبی جعفر فی النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقیق، ولو اقتصر على الأخبار ولم یتعاط ذكرَ معانیها کان أسلم له من الدخول فی باب یضیق علیه سلوكه». ثم ذكر المفید لکلّ من النفس والروح أربعة معانٍ([2]) لا تلاقی بین کلّ معنى ومعنى لا فی الترادف ولا فی المفهوم.

ونحن نقول هنا محتملین: الظاهر أنّ الصدوق أراد بالنفوس هنا ذوات الناس، أی: الخصوصیة أو الامتیاز ما بین هذا الإنسان وذاك الإنسان، وهذا هو المعنى الأوّل من المعانی الأربعة الّتی ذكرها المفید للنفس.

وبعبارة اُخری: إنّ نفس الإنسان وذاته روح، وفی قبال هذا المعنى ما قیل فی نفس الحیوان([3]) وذاته: بأنّها بدنه العنصری الحیّ، فإذا لم نقل بأنّ الحیوانات لها روح بحسب طبیعتها ونفسها، أو روح أطلقها الصدوق على النفس، لا تصحّ على أیّ معنى من المعانی الّتی عرّفها المفید للنفس.

 

فإنّ معنى هاتین الکلمتین غیر منحصر بهذا العدد من المعانی.

فقد قال المفید: «وأمّا الروح فعبارة عن معانٍ، أحدها: الحیاة. والثانی: القرآن. والثالث: ملك من ملائكة الله تعالى. والرابع: جبرئیل×».([4])

مع أنّه ورد فی أحادیث كثیرة التعبیر بالروح واُرید بها روح الإنسان، والمفید نفسُه أشار إلی أنّ الروح تطلق على سائر الملائكة أیضاً، وقال إضافة إلی ذلك بصـراحة: «إنّ الأرواح بعد موت الأجساد على ضربین»،([5]) مع أنّ هذا المعنى هو غیر المعانی الأربعة الّتی ذكرها المفید للروح.

وعمدة ما فی نقاش المفید وإشكاله على الصدوق فی ما یلی:

أوّلاً: فی خلق الأرواح قبل الأجسام الّذی یعتقد به الصدوق وفقاً

 

لدلالة الروایات الكثیرة علیه، وکأنّ المفید أنكر ذلك حتى نسبه إلی القائلین بالتناسخ والحشویة من الشیعة الّذین یقولون بأنّ الذوات الفعّالة أو الأرواح مخلوقة فی عالم الذرّ، واستدلّ على نفی کلّ ذلك بقوله: «ولو کان ذلك كذلك، لكنّا نعرف نحن ما كنّا علیه، وإذا ذُكّرنا به ذكرناه ولا یخفی علینا الحال فیه».([6])

وقد فسّر حدیث الأرواح بالملائكة، واعترض على شیخه الصدوق بشدّة حتى قال: «والّذی صرّح به أبو جعفر فی معنى النفس والروح هو قول التناسخیة بعینه! من غیر أن یعلم أنّه قولهم، فالجنایة بذلك على نفسه وعلى غیره عظیمة».([7])

وینبغی أن ننوّه هنا قائلین: إنّه وإن کانت حقیقة الروح والنفس والعقل وما بطن من وجود الإنسان، كسائر كثیر من الحقائق الاُخری، ما تزال مجهولة، إلّا أنّه ورد التصریح بخلق الأرواح قبل الأجساد فی أحادیث كثیرة، ولمّا لم یكن للصدوق& سبیل إلی ردّها فقد أظهر اعتقاده بها، ولا علاقة لهذا الاعتقاد بالتناسخ؛ لأنّ التناسخ هو عبارة عن تعلّق الروح بالأجسام العنصریة المتعدّدة فی هذه الدنیا، فهی تحلّ

 

بعد فناء کلّ جسم بجسم آخر،([8]) وأنْ تظهر الحقیقة الواحدة فی صور متعدّدة، وأن تنال فی کلّ مرحلة جزاء المرحلة السابقة من ثواب أو عقاب، مع أنّ خلق الأرواح قبل الأجسام، یعنی تعلّق الروح منحصـراً بجسم عنصریّ واحد، وهو غیر الأرواح والأجسام الاُخری روحاً وجسماً.

وهذا المعنى ممكن فی حدّ نفسه دون أن نكون فی صدد إثباته، وإن کان عند مثل الصدوق ثابتاً فقد أخذه عن رجال کان لهم تحذّق وتتبّع كامل فی الأخبار، ولا ینبغی قیاسه بالقول بالتناسخ !...

والبحث الآخر: ویظهر أنّ مناقشة المفید الثانیة للصدوق، فی مسألة بقاء الأرواح، حیث قال: «اعتقادنا أنّها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء، لقول النبیّ|: «ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء، وإنّما تنقلون من دار إلی دار»، وإنّها فی الأرض غریبة وفی الأبدان مسجونة، واعتقادنا أنّها إذا فارقت الأبدان فهی باقیة منها منعّمة ومنها معذّبة إلی أن یردّها الله تعالی بقدرته إلى أبدانها».([9])

فاستدرك المفید على هذا التعبیر بقوله: «ما ذكره من أنّ الأنفس باقیة

 

فعبارة مذمومة ولفظ یضادّ ألفاظ القرآن، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَیْهَا فَانٍ  *  وَیَبْقَى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ([10])».([11])

وفی استدراكنا على کلام الشیخ المفید نقول: إنّ بقاء الأرواح بالجملة مستفاد من آیات القرآن، وفی مقام الجمع بین هذه الآیات والآیة الّتی تمسّك بها المفید، یردّ هذا الاحتمال، وهو أنّ الحكم أو الإخبار فی قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَیْهَا فَانٍ﴾،([12]) یتعلّق بمخلوقات الكرة الأرضیة، ولا ینافی بقاء الروح بعد فناء ذات الإنسان بعد الموت، كما ورد التصـریح بحیاة الشهداء بعد الموت فی هذه الآیة: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی‏ سَبِیلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْیَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ‏ * فَرِحِینَ بِمَا آتَاهُمُ اللّٰهُ... ﴾؛([13]) وجاء التصـریح فی بعض الآیات الاُخری، وكثیر من الأخبار بحیاتهم بعد الموت، وأنّ النبیّ الأكرم| وأمیر المؤمنین× کلّ منهما خاطباهم بعد الموت.

مضافاً إلی ذلك أنّ الشیخ الأعظم أبا عبد الله المفید نفسه بَیَّن الحیاة بعد الموت فی هذا الفصل، وأكّد على ذلك فی الجملة،([14]) وفی كتابه أوائل

 

المقالات أیضاً، فی مثل باب (القول فی احتمال الرسل والأنبیاء والأئمّة، الآلام وأحوالهم بعد الممات)، أبان المفید حیاة الأنبیاء والأئمّة^ بعد الموت، واستشهد بهذه الآیة: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی‏ سَبِیلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً﴾؛([15]) واستشهد فی قصّة مؤمن آل فرعون بالآیة: ﴿قِیلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ یَا لَیْتَ قَوْمِی‏ یَعْلَمُونَ‏ * بِمَا غَفَرَ لِی‏ رَبِّی وَجَعَلَنی‏ مِنَ الْمُكْرَمِینَ‏َََ﴾([16])،([17]) وأكّد على هذا المعنى أیضاً فی المسألة 24 من المسائل العكبریّة،([18]) وصرّح بحیاة الروح فی أبواب (القول فی أحوال المکلّفین) و (القول فی نزول الملكین) و (القول فی تنعیم أصحاب القبور) أیضاً.([19])

وعلى هذا فالظاهر أنّ مراد المفید هو:

أوّلاً: أنّ أرواح الجمیع فی البرزخ لا تنتقل إلی حال الثواب أو العقاب، وهو فی قبال جماعة یقولون: إنّ أرواح المؤمنین تحیا فی البرزخ جمیعاً، وأمّا من لم  یمحّضوا الإیمان أو الكفر فتنعدم أرواحهم.

وثانیاً: کلّ الأرواح تفنى وتنعدم بحكم الآیة: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَیْهَا فَانٍ  *

 

وَیَبْقَى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ والْإِكْرَامِ‏﴾.([20])

وكما یستفاد من کلامه فی باب (المساءلة فی القبر) أنّها تحیا هناك، حیث قال: «وهذا یدلّ على أنّ الله تعالى یحیی العبد بعد موته للمساءلة، ویدیم حیاته لنعیم إن كان یستحقّه، أو لعذاب إن کان یستحقّه».([21])

وبدیهی أنّه لا الاعتقاد بأنّ الأرواح تفنى، ولا الاعتقاد بأنّ الأرواح لا تفنى، لا یصطدم بالبرهان العقلی على استحالتها، وینبغی استفادة ذلك من دلیل النقل، ومسلك المحدّثین فی هذا الباب ـ طبعاً ـ هو أكثر مظنّة للاعتماد، وتصریحهم بالبقاء أدعى للاطمئنان، وإن کان لا یصحّ الاعتماد على التقلید فی مثل هذه المسائل، لأنّه لا یكون موجباً لعلم ولا لعمل.

وأكثر الکلمات ـ كما یظهر ـ متّفقة على أنّ الأرواح باقیة إلی یوم القیامة، فإمّا هی فی العذاب والنقمة، أو الثواب والنعمة، والحدیث المعروف: «القبر روضة من ریاض الجنّة، أو حفرة من حفر النار»،([22]) یشیر إلی هذا المعنى.

 

وقال المفید فی باب (فی ما وصف به الموت): «الدنیا سجن المؤمن، والقبر بیته، والجنّة مأواه، والدنیا جنّة الكافر، والقبر سجنه، والنار مأواه».([23])

 


([1]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص47.

([2]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص79.

([3]) ورد التعبیر فی أصل المقال بصیغة الجمع وقد استغنى المترجم بصیغة المفرد الداخلة علیها لامُ الجنس لأنّها تدلّ على العموم، فاعلم. المترجم.

([4]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص80.

([5]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص88.

([6]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص81 ـ 85.

([7]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص87.

([8]) لیس هذا رأی صاحب المقال بل هو زعم القائلین بالتناسخ. المترجم.

([9]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص47.

([10]) الرحمن، 26ـ 27.

([11]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص87.

([12]) الرحمن، 26.

([13]) آل عمران، 169ـ171.

([14]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص88 ـ 90.

([15]) آل عمران، 169.

([16]) یس، 26 ـ 27.

([17]) المفید، أوائل المقالات، ص72 ـ 73، رقم 49.

([18]) المفید، المسائل العکبریّة، ص79، المسألة 24.

([19]) المفید، المسائل العکبریّة، ص75 ـ 76.

([20]) الرحمن، 26 ـ 27.

([21]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص100.

([22]) المجلسی، بحار الأنوار، ج6، ص214، ذیل ح2، ص218، ح13.

([23]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص96 ـ 97.

موضوع: 
نويسنده: