جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

مقیاس صدق الدعوة

وأمّا ما تمسَّك به فی الصفحة (35) من أنّ الناس قد اعتادوا أن یقیسوا صدق الدعوة بكثرة ما أبرزته هذه الدعوة من نماذج رائعة، وسوء النظر إلى الصحابة یضعّف تأثیر الدعوة وقیمة هذه التعالیم، ویضعّف الإیمان بمربّیهم وقائدهم، فهذا كلام خطابیّ شعریّ لیست له أیّة قیمة علمیة، وإلّا فیدّعی ذلك بالنسبة إلى الله تعالى ـ العیاذ بالله ـ ویُستدلّ على ضعف هدایته وتعالیمه بقلّة مَن اهتدى بهداه، وعلى قوّة إغواء إبلیس بكثرة الكفّار وأهل المعاصی، ویُستدلّ لقوّة تعالیم بوذا بكثرة مؤیّدیه.

على أنّ دعوة الرسول’ وتربیته أثّرت فی جمیع الصحابة حتى المنافقین منهم، فغیّر تفكیرهم ومسیر حیاتهم، فعرفوا للإنسان حقوقاً لم یكونوا یعرفونها لولا هدایة الله تعالى وتعالیم رسوله، وقدّمت فی مجالات مختلفة رجالاً وأبطالاً، وإذا قسنا نجاح دعوة الإسلام بنجاح الدعوات الاُخرى رأینا أنّ الإسلام أكثر نجاحاً من الجمیع. فالإسلام وإن لم ینجح بعدُ فی جمیع أهدافه ومطالبه وأغراضه؛ لكنّه قدّم للبشـریة

 

مثالاً رائعاً ونموذجاً حیّاً من الرجال الكُمَّل، أمثال أبی ذرّ وسلمان ومقداد وعَمّار وسعد بن معاذ وخُزیمة بن ثابت وابن التیّهان وخَبّاب بن الأَرَتّ وحُجر بن عدیّ وعَمرو بن الحَمق الخزاعی وغیرهم، وبهؤلاء الرجال والآلاف من الجهابذة والأبطال ورجال التضحیة والإباء والمثل الإنسانیة العلیا، الّذین أنجبهم الإسلام خلال أربعة عشر قرناً، تعرف قیمة تربیة الإسلام وأهدافه ومقاصده.

ولا یُعابُ على الإسلام أو الدعوة إن ظهر فیها أشقى البریّة كابن ملجم المرادیّ ویزید ومسلم بن عقبة والحجّاج، بل یجب أن نعرف الأسباب الّتی دعت للقیام فی وجه هذه الدعوة ومسخها، حتى آل أمر الاُمّة إلى حكومة هؤلاء.

فلا ینبغی لنا تبرئة الخاطئین والخائنین رغم المصادر الوثیقة، ورغم ما نعرف عنهم من الخطأ والخیانة من أجل أن لا یسیء أحد ظنّه، خاصّة إذا كان یجهل الاُمور ولا یعلم المقاییس الصحیحة، فإنّ الإسلام أعلى وأقوى برهاناً من أن یمسّ كرامته هذا الزعم الفاسد.

وهذا المنطق یؤدّی بنا ـ إذا ما أحسنّا الظنّ واعتبرنا ما فعله بعض السلف والصحابة حسناً وسلیماً وشرعیّاً ـ إلى اتّهام الإسلام وتعالیمه بأنّ هذه التعالیم وهذه المناهج لا تهدی ـ والعیاذ بالله ـ إلى الرشاد

 

والعدل والمساواة والمواساة، وإلى الصلاح والإصلاح.

والحقّ هو إسناد كلّ فعل حسن صدر عنهم إلى الإسلام وتربیته، وإلى هدى القرآن، وإسناد أفعالهم المخالفة لهدى القرآن وغیر اللائقة بشأنهم إلى أنفسهم.

فمثلاً وقعة الحَرّة وأضرابها من الوقائع الكثیرة الّتی وقعت أیّام خلفاء بنی اُمیّة وبنی العبّاس، والّتی سَوَّدت وجهَ التاریخ، لیست من آثار دعوة الإسلام، ولا علاقة لها ـ بعیدة أو قریبة ـ بالإسلام والتربیة الإسلامیة، إلّا علاقة التباین والتضادّ، وهی بعیدة عنه بُعد المشـرقین. وتبرئة الّذین لم ینسَ التاریخ خیاناتهم وخطیئاتهم مردودة ومرفوضة عند الباحثین المنصفین.

فلیس ما ذكرتم عذراً لتحسین الاعتقاد بهم وتصویب أخطائهم. وقد سبق مثل هذا الكلام من الشیخ نظام الدین عبد الملك المراغی ـ أفضل علماء الشافعیة فی عصره ـ عند مناظرته للعلّامة الحلّی فی المذهب، وقد اُفحِم آنذاك بالأدلّة الساطعة والبراهین القاطعة الّتی أقامها العلّامة& بحیث لم یبقَ للحاضرین شبهة، وبهت الشیخ وخجل، وأخذ فی الثناء على العلّامة، وذكر محامده وقال: قوّة أدلّة حضرة هذا الشیخ فی غایة الظهور، إلّا أنّ السّلَف منّا سلكوا طریقاً، والخلَفُ ـ لأجل

 

إلجام العوامّ ودفع شقّ عصا أهل الإسلام ـ سكتوا عن زلل أقدامهم، فبالحَرِیّ أن لا تُهتَك أسرارهم ...([1])

والأخذ بهذه النصیحة إنّما یفید لو لم یسجّل التاریخ، ولم تدوّن كتب الحدیث والجوامع والمسانید والصحاح ما صدر عن بعض الصحابة، ولم یكن صدر عن النبیّ الأكرم’ من أقوال فی أهل بیته ومناقبهم وفضائلهم.

أمّا بعد ذلك وبعد مثل أحادیث الثقلین والروایات المتواترة كروایة: «اَلْأَئِمَّةُ اثْنَا عَشَـرَ»([2]) وغیرها، وما حفظ التاریخ من الأحداث والفتن، رغم كونه تحت رقابـة السیاسة، فإنّ طلب السكوت وترك البحث والتنقیب غیرُ ممكِنَین ولا مُجدِیَین.

 

 

 

([1]) العلّامة الحلّی، إرشاد الأذهان، ج1، ص135؛ العلّامة الحلّی، مختلف الشیعة، ج1، ص114.

([2]) الکلینی، الکافی، ج1، ص531؛ الصدوق، الأمالی، ص173.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: