پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

قبر هارون الرشید

قال رئیس الوفد فی الصفحة (15): ولم نعرف أثراً لضـریح الخلیفة هارون الرشید الّذی دوّى اسمه فی الآفاق، ونال من الشهرة حظّاً لم ینله ملك من ملوك المسلمین أو ملوك الشرق، والّذی قال لقطعة سحاب مرّت على رأسه: امطری حیث شئت فسیأتینی خراجك.

فإذا كان الاُستاذ الندوی یرید من هذا تنبیه القرّاء بأنّ الدهر هكذا یفعل بالملوك وأهل الدنیا الجبابرة، ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاُء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِینَ([1])، ولا تُعرف قبورهم، وإن عُرفت فالناس یعرضون عنها ولا یسألون عنها، ولا یعتنون بها كاعتنائهم بآثار أولیاء الله ورجال الدین والخیر، فلا ریب أنّ ما ذكر إنّما هو من العِبَر، وما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار، وقد عزف عن قبر هارون والترحّم علیه حتى أهل السنّة، فلم یقصده أحد تقرّباً إلى الله تعالى أو تقدیراً لشخصیته، فی حین أنّ أكابر العلماء من أهل السنّة كانوا ولا یزالون یزورون مرقد علیّ بن موسى

 

الرضا÷ فی البقعة الهارونیة، ویقدّسون قبره، ویروون عنه الكرامات، كما یزورون قبر والده الإمام موسى بن جعفر الكاظم÷ فی الكاظمیة ببغداد، الّذی أخذه هارون ظلماً وحبسه ثمّ أمر السندیّ بن شاهك بقتله.

وإن أراد بحدیثه هذا إبداء الأسف على عدم معرفة قبر هارون، وكان یودّ أن یكون له ضریح كضـریح الإمام الرضا× ویحترمه المسلمون كاحترامهم للإمام، فهذا أمر لا یتوقّعه إلّا من لم تكن له بصیرة بفلسفة الاجتماع وآثار مواقف الرجال، فموقف الإمام الرضا وسائر أئمّة أهل البیت^ موقف یجذب العواطف، وینفذ إلى أعماق القلوب، ویحبّب صاحبه إلى كلّ قریب وبعید، بینما موقف أعدائهم وظالمیهم موقف یجعل صاحبه معرضاً للطعن، وتنفر منه القلوب، وتشمئزُّ منه النفوس، ویبغّض صاحبه إلى كلّ قریب وبعید.

وإنّ من أقوى الأدلّة على حرّیة التفكیر الإسلامی واستقرار روح العدل والمساواة، والنفور من الدكتاتوریة والظلم عند المسلمین، عدم اعتنائهم بآثار الجبابرة، واعتناؤهم بآثار أهل البیت^ والصحابة والعلماء والمصلحین المشهورین بالغیرة على الإسلام والجهاد ضدّ استبداد المستبدّین.

 

وإنّی ـ وقد ساقنا الحدیث إلى هنا ـ أرى أنّه من الضـرورة بمكان أن نعلن ـ كمسلمین واعین ـ عدمَ شرعیة حكومة هؤلاء المستكبرین، أو اُولئك الّذین ملكوا المسلمین، وأحیوا سنن الملوكیة بكلّ ما فیها من التواء وانحراف عن خطّ الرسالة وصفاء التعالیم السماویة المباركة، وسمّوا أنفسهم خلفاء، ویشهد التاریخ ـ كالكامل وغیره([2]) ـ على سیرتهم غیر المرضیّة، وأنّ منهاج الشریعة وبرامج الإسلام لا یمكن أن تنجب حكومات كهذه الحكومات، أو تعترف بها وبشـرعیّتها، كما لا یمكن أن تنجب من یعترف بشرعیّتها ویدافع عنها.

فالإسلام والمسلم لا یفخر بهؤلاء، بل یفخر بمبادئه السامیة البنّاءة، وبمُثُله العلیا، وقیمه الرفیعة، ورجاله المؤمنین، الّذین أدركوا حقیقة رسالة الإسلام، من الصحابة والتابعین لهم بإحسان.

فما هی صلة ملوك بنی اُمیّة وبنی العبّاس فی سیرتهم وسلوكهم الحكومی والسیاسی والمالی بالإسلام؟ وما عذرنا عند الباحثین فی مبادئ الإسلام وتاریخه إن اعتبرنا حكومة هؤلاء شرعیة، واعتبرناهم مَثَلاً لسیاسة الحكم والإدارة واحترام حقوق الإنسان ومبدأ المساواة

 

والمواساة الإنسانیة فی الإسلام، ومظهراً بارزاً من مظاهر التربیة الإسلامیة؟

فما یرید من قبر هارون والمأمون والأمین والمتوكّل والولید ومعاویة ویزید وعبد الملك وأمثالهم، مَن لم یكن فی قلبه مرض، وهوى نفسه مع الحكّام الجبابرة، الّذین استكبروا فی الأرض وعتوا عتوّاً كبیراً؟

والمناهج التربویة الإسلامیة أسمى وأنزه من أن تؤیّد حكّاماً وقادةً یستضعفون الناس، ویتجاهرون بالفسق من الخمر والمیسـر، والظلم بمصادرة أموال الناس وقتل النفوس البریئة، ولم یكن هؤلاء أحسن سیرةً ممّن یتولّون الیوم اُمور المسلمین بإسم الملك أو الأمیر أو القائد. فهل تسمح یا أخی أن تسند سِیَرهم الّتی یُعلَن عنها فی الإذاعات وعلى شاشات التلفاز والصحف والمجلّات، وسائر وسائل الإعلام، إلى الإسلام، وتقول: إنّ الإسلام ونظامه التربویّ یرتضی حاكماً یرقص مع النساء الأجنبیّات فی النوادی والحفلات والمجالس الرسمیة، ویأتی بالمغنّیات والراقصات المحسوبات على المسلمات فی مجالس ضیافته للكفّار، ولا یحترم السنن الإسلامیة، ویسمح باختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبیّات، ولا یتجنّب الآداب الغربیة فی ضیافاتها واستقبالاتها الرسمیة، ویشوّق النساء بترك الآداب الإسلامیة ویهتك العفاف؟

 

اعرف أیّها المثقّف! مناهج الإسلام التربویة، وأهدافه فی الحكم والإدارة، وتأمّل فی آیات القرآن الكریم والسنّة النبویة الشـریفة وسیرة الأئمّة الهداة المهدیّین، وأعرض سیرة هارون وغیره من رؤساء الاستكبار والاستعلاء على كتاب الله تعالى، سیّما على مثل هذه الآیة الكریمة: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ([3])حتّى تعرف أنّ الإسلام وبرامجه وتعالیمه لا ینجب حكّاماً مثل هؤلاء المستكبرین، الّذین أحیوا سنن الأكاسرة والقیاصرة الجبّارین، وتركوا سنن الأنبیاء والمرسلین.

 

 

 

 

([1]) الدخان، 29.

([2]) ابن الأثیر الجزری، الکامل فی التاریخ، ج3، ص201 (ذکر تفریق علیّ عمّاله وخلافة معاویة)؛ ج4، ص14 (ذکر بیعة یزید).

([3]) القصص، 83.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: