چهارشنبه: 5/ارد/1403 (الأربعاء: 15/شوال/1445)

الأمر الأوّل:
فی موضوع العلم

قال+: فی حاشیته على الكفایة ما هذا لفظه:

قوله+: «أمّا المقدّمة ففی بیان اُمور: الأوّل: أنّ موضوع کلّ علم، هو الّذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة».([1])

أقول: إعلم أنّ أرباب العلوم العقلیة والنقلیة([2]) بعد اتّفاقهم ـ سوى من شذّ من متأخّری الاُصولیین ـ على أنّ لکلّ علم من العلوم موضوعاً على ‏حدة، وأنّ تمایزها إنّما یكون بتمایز تلك الموضوعات، قد اتّفقوا أیضاً على أنّ موضوع کلّ علم هو ما یبحث فی هذا العلم عن عوارضه الذاتیة. ولازم ذلك هو أنّ موضوع العلم كما یكون جهة امتیاز مسائله عن مسائل سائر العلوم، كذلك یكون جهة وحدة لمسائله المختلفة أیضاً، لاشتراك جمیعها فی كونها باحثة عن عوارض ذلك الموضوع. وأنّه مقدّم فی التحصّل على مسائل العلم، لأنّها إنّما تكون مسائله باعتبار كونها باحثة عن عوارضه. وأنّه هو الملاك الفذّ لمعرفة حدّ العلم وغایته أیضاً.

 

فموضوع العلم على هذا، هو المعلوم الأوّل الّذی یضعه مدوِّن العلم تجاه عقله لیبحث فیما یدوّنه من المسائل عن شؤونه المجهولة، وكأنّهم لذا سمّوه بموضوع العلم، لا لما قد یتراءى من المتن من أنّه الكلی الصادق على موضوعات مسائله، وسیأتی الكلام فیه.([3])

ثم إنّ مرادهم بالعارض فی تعریفه كما صرّح به شارح المطالع([4]) وغیره، ویدلّ علیه تتبعّ مسائل العلوم، هو: ما اصطلح علیه المنطقیّون فی كتاب إیساغوجی،([5]) وقسّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ، وقابلوه بالذاتی المقسّم إلى النوع والجنس والفصل، وهو الخارج المحمول، أی الكلّی الخارج عن الشیء مفهوماً المتّحد معه وجوداً؛ لا ما اصطلح علیه الطبیعیّون، وقسّموه إلى المقولات التسع، وقابلوه بالجوهر، وهو الموجود فی الموضوع.

والفرق بینهما من وجوه كثیرة:

منها: أنّ الذاتی والعرضی إضافیّان یمكن صدقهما على مفهوم واحد بالقیاس إلى شیئین بخلاف الجوهر والعرض.

ومنها: أنّه یمكن أن یكونا مفهومین کلّ واحد منهما عرضاً للآخر بالمعنى المقابل للذاتی لا بالمعنى المقابل للجوهر، ولذا قالوا: إنّ الجنس عرض عامّ بالإضافة إلى الفصل، والفصل خاصّة غیر شاملة بالنسبة إلى الجنس، وهما ذاتیان بالقیاس إلى النوع.

وأیضاً: فإنّ العرض المقابل للذاتی یصدق على المفاهیم الزائدة الصادقة على

 

الجواهر أیضاً، بخلاف المقابل للجوهر.

ومرادهم بالعرض الذاتی هنا: ما كان عروضه للمعروض، أی اتّحاده معه فی المرتبة المتأخّرة عن مرتبة الذات لحوقاً أوّلیاً بحسب تلك المرتبة، أی لا یكون لحوقه به مترتّباً على لحوق حیثیة اُخرى به كذلك حتى یكون هذا متأخّراً عن الذات بمرتبتین بحسب الاعتبار، ویكون مع ذلك عارضاً بتمام ذاته أو بجزئه المساوی.

ویقابله العرض الغریب، وهو العارض للشیء بتوسّط عارض آخر أو بجزئه الأعمّ.

وربما یقال:([6]) إنّ العارض بتوسّط العارض المساوی عرض ذاتی یبحث عنه أیضاً فی العلوم، وهو بعید محتاج إلى التثبّت.

وما یتراءى من تمثیل صاحب الفصول([7]) للعرض الغریب بالسـرعة العارضة للحركة العارضة للجسم، وبالشدّة العارضة للبیاض العارض للجسم من جملة العرض

 

على مصطلح الطبیعیّین، و[إطلاق] العرض الذاتی لشیء على ما یعرض نفسه، والغریب على ما لا یعرضه أصلاً بل یعرض لما هو عرض له، قد ظهر بطلانه ممّا بیّناه، مضافاً إلى ما فی تمثیله هذا من المناقشات الاُخر الّتی تركناها حذراً من الإطالة.

ثم إنّه یدلّ على ما ذكروه أنّك إذا لاحظت مسائل الفنون المختلفة، وقطعت نظرك عن غیر ذواتها، الّتی هی القضایا المرکّبة من موضوعات ومحمولات ونسب، حتى عن مدوِّنها وعن غرضه منه، وعمّا یصدق على موضوعاتها أو على محمولاتها من المفاهیم، رأیت فی نظرك هذا بین مسائل کلّ فنّ منها من المناسبة والمشاركة ما لا تراه بینها وبین مسائل غیره، فترى تشارك مسائل النحو فقط فی بیان هیأة آخر الكلمة فی لغة العرب؛ مسائل الصرف فی بیان هیأتها من غیر جهة آخرها؛ ومسائل المنطق فی بیان أنّ أیّ معلوم صالح للإیصال إلى مجهول وأیّها غیر صالح؛ ومسائل العلم الإلهی فی أنّ أیّ شیء ممّا نتصوّره موجود فی الأعیان، وأیّها غیر موجود.

ولا ترى هذا التشارك فی غیرها، وهكذا سائر الفنون، وتراها مع ذلك مسائل مختلفة متمایزة بعضها من بعض، فیعلم بذلك أنّها فی مرتبة ذواتها ملتئمة من جهة جامعة مشتركة بین جمیعها، وجهات مائزة ینفرد كل واحد منها بواحدة منها، وقد حمل فیها إحداهما على الاُخرى. ولیس شیء من تلك الجهات المائزة عین الجهة الجامعة ولا جزءها بالضرورة، فهی خارجة عنها مفهوماً، والمفروض هو اتّحادهما وجوداً قضیّة للحمل، فهی عوارض منطقیة لها.

فینتج أنّ لمسائل کلّ فنّ من الفنون جهة جامعة یشترك جمیعها فی البحث عن عوارضها المنطقیة، وأنّ تلك الجهة بعینها مائزة بینها وبین مسائل سائر الفنون لفرض كونها فاقدة لها، وهذا هو المطلوب.

وینبغی التنبیه على أمرین:

 

الأوّل: أنّ مسائل العلم لیست منحصرة فی القضایا الموجبة الّتی تكون الجهات المائزة فیها عوارض واقعیة لموضوع العلم، بل تشمل سوالبها أیضاً وإن كان مفادها سلب العروض، فإنّ البحث عن عوارض الموضوع یستدعی البحث عن كلّ ‏ما قیل أو یحتمل أنّه من عوارضه، سواء أدّى إلى الإثبات أو النفی.

الثانی: أنّ الجهة الجامعة الّتی ذكرنا أنّها هی موضوع العلم لا یلزم وقوعها موضوعة فی مسائل العلم.

وتقدّم أنّ تسمیته به لیست بهذا الإعتبار بل الغالب فی المسائل هو حمل هذه الجهة على الجهات المائزة لكونها أعمّ منها، ومن هنا ترى أنّ مفهوم المنتج لكذا وهو المرادف للموصل إلى المجهول یحمل فی مسائل المنطق على ضروب الأشكال، والموجود بما هو موجود مع أنّه موضوع للفلسفة الكلّیة یقع محمولاً فی مسائلها على ما یبحث فیها عن وجوده.

وقصر بعضهم مسائلها على قضایا معدودة ذكرها هو، وجعل موضوعها الموجود بما هو موجود، ومحمولها ما زعم أنّه من عوارضه من العلم والقدرة والعلیّة وأشباهها، مخالف لما صرّح به أعاظم الفن فی مواضع كثیرة:

منها: ما ذكره المحقّق الطوسی فی الطبیعیّات من شرح الإشارات، حیث عدّ مسألة وجود المادّة والصورة من مسائل العلم الإلهی، واعتذر عن ذكرها هناك بما اعتذر.([8])

إن قلت: ما ذكرته من وقوع الجهات المائزة موضوعة فی المسائل ینافی ما مرّ من أنّها عوارض لموضوع العلم، وأنّ العارض هو الخارج المحمول.

قلت: الحمل هو الاتّحاد فی الوجود وهو بالنسبة إلى الطرفین على السواء.

إن قلت: كیف تكون أخصّ من الجهة الجامعة مع أنّها عوارض ذاتیّة لها، وما

 

بالذات لا یتخلّف؟

قلت: كونها ذاتیّة لیس بمعنى كون الذات علّة لها حتى یمتنع تخلّفها عنها، بل بمعنى أنّه لا واسطة بینهما فی العروض كما مرّ، وقد قالوا: إنّ الفصول عوارض ذاتیّة للجنس مع أنّها أخصّ منه.

قوله+: «أی بلا واسطة فی العروض».

أقول: تعریف العرض الذاتی بهذا كأنّه غیر مطّرد، لصدقه على ما یعرض الشیء بواسطة جزئه الأعمّ مع أنّه عرض غریب. اللّهمّ إلّا أن یقال: بشمول الواسطة فی العروض للجزء أیضاً، فتأمّل.

قوله+: «هو نفس موضوعات مسائله عیناً، وما یتّحد معها خارجاً، وإن كان یغایرها مفهوماً، تغایر الكلّی ومصادیقه، والطبیعی وأفراده. والمسائل عبارة عن جملة من قضایا متشتّتة جمعها اشتراكها فی الدخل فی الغرض... إلخ».

أقول: إردافه+ تفسیر موضوع العلم على طبق ما ذكره القوم بهذا الكلام یهدم أساس موافقته لهم، فإنّ محصّل مجموع كلامه حینئذٍ صدراً وذیلاً هو:

أنّ کلّ فنّ من الفنون عبارة عن جملة من قضایا لا مشاركة بینها فی موضوع ولا محمول، بل هی متباینة بتمام ذواتها كتباینها مع مسائل سائر الفنون، ولكنّها مع تباینها كذلك تترتّب على مجموعها غایة واحدة هی الغرض من تدوینها، وبمداخلة جمیعها فی ذلك الغرض استحقّت لأن تجعل فنّاً واحداً ممتازاً عن سائر الفنون، ویكون أیضاً لموضوعاتها جامع واحد یصدق علیها صدق الطبیعی على أفراده. ولمّا كان محمول كلّ مسألة منها عرضاً ذاتیاً لموضوعها الّذی هو فرد لهذا الجامع كانت محمولاتها عوارض ذاتیة له أیضاً، فیصدق أنّه یبحث فیها عن عوارضه الذاتیة، فیكون هو موضوعاً لذلك الفنّ وإن لم یكن له اسم ولا رسم ولا یتصوّره المدوِّن ولا غیره ولا یكون البحث فی

 

مسائله راجعاً إلیه.

ویرد علیه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ مسائل الفنّ الواحد لیست متباینة بتمام ذاتها، بل لها جهة جامعة بنفسها لا بأفرادها ـ أحد جزئیهاـ .

وثانیاً: أنّ محمولات المسائل بعد فرض كونها عوارض ذاتیة لموضوعاتها، لا یمكن كونها عوارض ذاتیة للكلّیّ الجامع بینها؛ إذ لخصوصیاتها المائزة دخل فی عروضها. اللّهمّ إلّا أن یفسّر العرض الذاتی بما حكیناه عن الفصول، وقد مرّ أنّه غیر متّجه.([9])

وثالثاً: أنّ اندراج موضوعات المسائل تحت كلّیّ صادق علیها صدق الطبیعی على أفراده، بعد فرض عدم صیرورته منشأً لوحدة المسائل وعدم اشتراكها بسببه فی جهة جامعة، لعدم رجوع البحث فیها إلیه وعدم دخله فی وحدة الغرض منها الّتی هی المناط فی كونها فنّاً واحداً ممتازاً عن غیره على ما أفاده، بل وعدم تصوّر أحد له ـ لعدم اسم له ولا رسم ـ أیّة فائدة تترتّب على ثبوته. وأیّ فرق یتصوّر بین أن یكون وبین أن لا یكون حتى یلزمنا القول بثبوته، فهل هو حینئذٍ إلّا كالحجر بجنب الإنسان؟ ثمّ بأیّ دلیل یمكننا إثباته مع أنّ الدلیل قائم على خلافه فی أكثرها، فهل یمكن وجود جامع بین موضوعات مسائل العلم الإلهی یكون كلّیاً طبیعیّاً لها مع أنّ بعضها واجب لذاته وبعضها ممكن؟

ورابعاً: أنّ ترتّب الغایة الواحدة على المسائل المتباینة بتمام الذات غیر معقول، فإنّ غرض المدوِّنین من تدوین المسائل لیس إلّا حصول العلم بها، سواء كان العلم بها مطلوباً لذاته كما فی العلم الإلهی أو مقدّمة للعمل كما فی أكثر الفنون، ومعلوم أنّ وحدة العلم نوعاً أو شخصاً وتعدّده تابعة للمعلوم، فما لم یكن للمسائل المختلفة جهة

 

وحدة لم یكن للعلم بها تشارك واتّحاد.

إن قلت: مراده بالغرض الواحد هو مجموع الأغراض المترتّبة على مجموع المسائل، ووحدته حینئذٍ شخصیة اعتباریة كوحدة سائر المركّبات الاعتباریة، ولذا قال: «جمعها إشتراكها فی الدخل فی الغرض»، ولیست هذه الوحدة مترتّبة على وجود الجهة الجامعة بین المسائل.

قلت: لا یمكن كون وحدة الغرض بهذا المعنى ملاك تمایز العلوم، إذ کلّ جملة من المسائل یكون لا محالة لمجموع أغراضها وحدة كذلك وإن لم تكن من سنخ واحد، فیسأل حینئذٍ أنّه لم جعل هذه الجملة فنّاً واحداً واعتبرت أغراضها واحدة كذلك؟ ولا جواب عنه إلّا بأن یقال: إنّ أغراضها من سنخ واحد، بخلاف غیرها، فیرجع إلى وحدتها النوعیة الّتی ذكرنا أنّها مترتّبة على ثبوت جهة الوحدة فی نفس المسائل.

قوله+: «لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان کلّ باب، بل كلّ مسألة من کلّ علم علماً على حدّة».

أقول: فیه أنّهم قالوا: إنّ کلّ واحد من الفنون المدوَّنة یكون له موضوع خاصّ هو جهة وحدة مسائله وامتیازه عن غیره، لا أنّ كلّ جملة من المسائل إذا كان لها جهة وحدة كذلك، یلزم أن یجعل فنّاً على حدة حتى یرد علیه ما ذكر. مع أنّ هذا مشترك الورود، إذ الغرض من كلّ باب بل کلّ مسألة ممتاز عن الغرض من غیره.

ثم إنّ قوله: «ولا المحمولات» لعلّه إشارة إلى ما ذكره صاحب الفصول من أنّ امتیاز العلوم یكون بامتیاز الموضوعات أو حیثیّات البحث، زعماً منه أنّ موضوع النحو والصرف واحد وهو الكلمة والكلام، وإنّما یمتازان بأنّ البحث عنهما فی النحو من حیث الإعراب والبناء، وفی الصرف من حیث الصحّة والاعتلال.([10])

وهو غیر وجیه، فإنّ الحیثیّتین مأخوذتان فی موضوعیهما. وحقیقة الأمر هی ما

 

أشرنا إلیه سابقاً من أنّ موضوع النحو هو: هیأة الكلمة من جهة آخرها، وإلیها أشاروا بقولهم: من حیث الإعراب والبناء، وموضوع الـصرف هو: هیأتها من غیر جهة آخرها، وهی المراد بقولهم من حیث الصحّة والاعتلال، وإنّما عبّروا بما ذكر تقریباً إلى فهم المبتدئین.

قوله+: «وقد انقدح بذلك أنّ موضوع علم الاُصول، هو الكلّیّ المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هی أدلّة، بل ولا بما هی هی...إلخ».

]أقول:[([11]) الاُصولیّون بعد ما تسالموا على ما تسالم علیه غیرهم من أنّ تمایز العلوم بتمایز الموضوعات، وأ نّه ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة، قالوا: إنّ موضوع اُصول الفقه هو أدلّة الفقة. ومرادهم بها أدلّته بما هی أدلّته. ومرادهم بالدلالة هو الحجّیة، فمرجع كلامهم حینئذٍ إلى أنّ موضوعه هو حیثیّة «الحجّة فی الفقه».

ولذا استشكله المحقّق القمّی& فی «الحواشی» بأنّ لازمه خروج المسائل الباحثة عن حجّیة الحجج كخبر الواحد والإجماع ونحوهما عن مسائل هذا العلم، ودخولها فی مبادیه، إذ الحجّیة على هذا مقوّم للموضوع لا من عوارضه.([12])

ودفعه فی الفصول بالتزام أنّ موضوعه هو ذوات الأدلّة الأربعة، لا بما هی أدلّته حتى یلزم ما ذكر.([13])

وفیه مضافاً إلى استلزامه كون موضوع الفنّ الواحد أربعة اُمور متباینة، بل وأكثر أو أقلّ على الخلاف فیه أنّه لو كان كذلك لكان یبحث فیه عن جمیع عوارض الأربعة

 

لا عن الحجّیة فقط. مع أنّه لا ینفع فی إدخال مسألة حجّیة الخبر فیها لأنّ الحجّیة من عوارض الخبر لا السنّة، كما ذكره+ فی المتن وأطال الكلام فیه.

وكأنّ استصعاب دفع هذا الإشكال هو الّذی دعا شیخنا العلّامة+ إلى العدول عن ذلك إلى ما قال: من أنّ موضوعه بل موضوع عامّة العلوم هو: الكلّیّ الجامع بین موضوعات مسائله وإن لم یكن له اسم ولا رسم. ولأجل منافاة هذا لكون تمایزها بتمایز الموضوعات، لاقتضائه تقدّم المسائل على الموضوع فی التحصل عدل عنه أیضاً إلى أنّ تمایزها بالأغراض لا بالموضوعات.

وأنت بعد الإحاطة بما بیّناه تعلم أنّ هذا الإشكال إنّما نشأ من عدم تحصیل مراد القوم من موضوع العلم ومن عوارضه الذاتیة، وتوهّم أنّ موضوع العلم یلزم أن یقع موضوعاً فی المسائل أیضاً.

فالحقّ فی الجواب عنه هو: أنّ وقوع الحجّة محمولة فی تلك المسائل لخبر الواحد والإجماع ونحوهما، لا ینافی كون البحث فیها عن عوارض الحجّة، فإنّ عوارضها الّتی بحثوا فی هذه المسائل عن عروضها لها، أی اتّحادها معها فی نفس الأمر، هی خبر الواحد والإجماع وغیرهما ممّا وقع موضوعاً فیها لا الحجّیة حتى یقال: إنّها مقوّمة للموضوع، بل الظاهر أنّ هذه القضایا الباحثة عن حجّیة شیء وعدم حجّیته هی المسائل لهذا العلم فقط. ولذا اقتصـر الشافعی فی رسالته ـ الّتی صنّفها فی ذلك العلم فی أواخر القرن الثانی، وهی أوّل ما صنّف فیه فیما نعلم ـ على ذكر مسألة حجّیة الكتاب والسنّة غیر المنسوخین، والإجماع وخبر الواحد والقیاس والاجتهاد والاستحسان. نعم، أطال الكلام فی نسخ الكتاب والسنّة وفروعه. ثم زاد من جاء بعده على ما ذكره أشیاء من سنخها وأشیاء اُخر من غیر سنخها إمّا على وجه الإستطراد أو من باب المبادی.

فظهر بما ذكرناه أنّ مسائل حجّیة القطع والظنّ على تقریری الحكومة والكشف على

 

القول بها، وحجّیة الأمارات الحاكیة عن الواقع بلا معارض أو مع المعارض، وحجّیة الاحتمالات غیر الحاكیة عنه كاحتمال بقاء ما ثبت فی الاستصحاب المثبت للتكلیف، كلّها من مسائل هذا العلم، وكذا المسائل النافیة لحجّیة ما احتمل حجّیته أو قیل بها مثل القیاس والاستحسان والاجتهاد، وبعض ما مرّ على القول بعدم حجّیته، بل ومن هذا القسم أیضاً مسألة أصالة البراءة فی الشبهة البدویّة فإنّ مرجعها إلى عدم حجّیة احتمال التكلیف بالنسبة إلى التكلیف المحتمل وعدم تنجّزه به على تقدیر ثبوته واقعاً.

هذا إذا قلنا بأنّ المراد بالحجّة ما كان للمولى على العبد، وأمّا إذا عمّمت لعكسه فهی من مسائله.

ثم لیعلم: أنّ مسألتی أصالة الاشتغال والتخییر أیضاً مرجعهما إلى البحث عن الحجّیة وإثباتها بتقریب: أنّ ما ثبت حجّیته من العلم والأمارات وغیرهما یكون حجّة على الواقع مطلقاً سواء علم متعلّقها تفصیلاً أو تردّد بین أمرین أو اُمور، فإن أمكنت الموافقة القطعیة لزمت عقلاً وهو أصالة الاشتغال، وإلّا فإن أمكنت الموافقة الاحتمالیة ـ بکلا شقّیها ـ والمخالفة القطعیة، كان اللازم هو الموافقة الاحتمالیة وتخیّر بین شقّیها مع عدم المرجّح، وهو أصالة التخییر. وإن لم یكن شیء منهما، كما إذا دار الأمر بین الوجوب والحرمة بلا مرجّح، كانت الحجّة على الواقع مسلوبة كما فی أصالة البراءة. نعم، المسلوب هناك هو حجّیة احتمال التكلیف، وهنا حجّیة الحجّة الإجمالیة كذلك، فتفطّن.

فظهر أنّ مسائل الاُصول العملیّة لیست من سنخ آخر، ولا الغرض منها أمراً آخر غیر ما هو الغرض من مسائل حجّیة الأدلّة كما یتراءى من المتن، بل ویمكن على هذا التقریر إدراج جملة من مباحث الألفاظ فی مسائل هذا العلم أیضاً.

بیانه: أنّ الأقدمین لمّا كانت حجّیة دلالة الألفاظ عندهم واضحة، لم یبحثوا عنها بحثاً واحداً كلّیاً، لكن لمّا احتملوا عدم حجّیة جملة منها، إمّا لضعفها كالدلالات

 

المفهومیة الناشئة من ذكر القید، والإطلاقیة الناشئة من عدم ذكره، أو لوجود ما احتملوا مانعیته منها كما فی العامّ المخصَّص أو المطلق المقیَّد، أو لاحتمال اعتبار شیء فیها كالفحص عن المخصّص أو عن قرینة المجاز، عقدوا لکلّ منها مسألة. فالبحث فیها یرجع إلى البحث عن حجّیة دلالة الألفاظ إذا كانت بهذه الخصوصیّة.

قوله+: «یعرف بها القواعد الّتی یمكن أن تقع فی طریق استنباط الأحكام».

أقول: إدراج مسائل حجّیة الأدلّة فی هذا مشكل، إذ استنباط الحكم الواقعی فی مواردها على وجه القطع غیر ممكن، وعلى وجه الظنّ حاصل من دون دخالة لها فیه؛ والحكم الظاهری هو عینها لا أنّها تقع فی طریق استنباطه.

 

 

 

 

 

 

([1]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج1، ص5.

([2]) منهم الحکماء وأصحاب المیزان والفقهاء. راجع: ابن سهلان الساوی، البصائر النصیریّة، ص5-6؛ قطب الدین الرازی، شرح الشمسیّة، ص14؛ اللاهیجی، شوارق الإلهام، ج1، ص5؛ الأصفهانی، الفصول الغرویّة، ص10؛ الأصفهانی، هدایة المسترشدین، ص14.

([3]) یأتی فی ذیل قوله7: «هو نفس موضوعات مسائله عیناً...».

([4]) حیث قال: «العرض هو المحمول علی الشـیء الخارج عنه». قطب الدین الرازی، شرح المطالع، ص18. وغیره فی شرح الشمسیّة (قطب الدین الرازی، ص23)؛ وشرح المنظومة (السبزواری، ص29).

([5]) أی الکلیات الخمس المنقسمة إلی الذی وهی: الجنس والفصل والنوع؛ والعرضی وهی: الخاصّة والعرض العامّ.

و الذاتی فی هذا الباب: هو المحمول الّذی تنقوّم ذات الموضوع به غیر خارج عنها، کالحیوان أو الناطق المحمولین علی الإنسان، والعرضی: هو المحمول الخارج عن ذات الموضوع لاحقاً به بعد تقوّمة بجمیع ذاتیاته، کالضاحك اللاحق للإنسان، والماشی اللاحق للحیوان.

([6]) قال فی شرح الشمسیّة ( قطب الدین الرازی، ص23): «والعوارض الذاتیة هی الّتی تلحق الشـیء لما هو هو، أی لذاته...أو تلحق الشـیء لجزئه...أو تلحقه بواسطة أمر خارج عنه...».

وهذا القول هو المشهور بینهم، وقد ردّه صاحب الفصول بالتفصیل فی فصوله (الأصفهانی، ص10 11).

([7]) الأصفهانی، الفصول الغرویّة، ص10. راجع أیضاً: قطب الدین الرازی، شرح الشمسیّة، ص23.

وصاحب الفصول هو، الشیخ محمد حسین بن محمد رحیم الطهرانی الحائری. ولد فی قریة «ایوان کیف» بالقرب من طهران. أخذ مقدّمات العلوم فی طهران، ثم اکتسب من شقیقه الحجّة الشیخ محمد تقی الأصفهانی صاحب هدایة المسترشدین فی أصفهان، ثم هاجر إلی العراق، فسکن کربلاء، وکان یقیم الجماعة فی الحرم المطهّر من جهة الرأس الشریف، فیأتمّ به خیار الطلبة والصلحاء وعامّة الناس.

وکان فی کربلاء یومذا فریق من الشیخیة، وکان المرحوم کثیر التشنیع علیهم حتی ضعّف نفوذهم وکسر شوکتهم؛ إذ کان مرجعاً عامّاً فی التدریس والتقلید، وقد تخرّج من معهده جمع من کبار العلماء، وله آثار أشهرها «الفصول الغرویة».

أجاب داعی ربّه سنة (1254ق)، ودفن فی الصحن الصغیر فی الحجرة الواقعة علی یمین الداخل، سبقه فیها صاحب الریاض+. انظر: آغا بزرگ الطهرانی، أعلام الشیعة الکرام البررة فی القرن الثالث بعد الهجرة، رقم 795.

([8]) الخواجة نصیر الدین الطوسی، شرح الإشارات والتنبیهات، ج2، ص3.

([9]) مرّ فی الصفحة 11 12.

([10]) الأصفهانی ، الفصول الغرویّة، ص11.

([11]) أضفنا ما بین المعقوفین وهو المناسب ذکره هنا بدلاً عن البیاض فی النسخة.

([12]) الحواشی المطبوعة ضمن کتاب قوانین الاُصول (القمّی، ج1، ص8).

([13]) الأصفهانی، الفصول الغرویّة، ص12.

موضوع: 
نويسنده: