جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الأمر السابع:
فی الصحیح والأعمّ

قد وقع الخلاف بینهم فی أنّ المسمّى بأسماء العبادات مثل الصلاة والصوم والحجّ، هو ما كان مصادیقه خصوص الصحیح وما یترتّب علیه الأثر ویقع به الإمتثال، أو أعمّ منه وممّا یقع فاسداً ولا یتحقّق به الإمتثال؟

فلا یتوهم أنّ مرادهم من عنوان البحث ـ بأنّ ألفاظ العبادات هل هی أسامٍ لخصوص الصحیحة أو أعمّ منها ـ هو كون مفهوم الصحیح مأخوذاً فی المعنى والمسمّى أم لا؟ فإنّ عدم كون ذلك مأخوذاً فی تلك الأسامی، معلوم مسلّم عند الجمیع.

وقبل الورود فی البحث ینبغی التنبیه على اُمور:

التنبیه الأوّل: المراد من الصحّة والفساد

إنّ المراد بالصحّة هو التمامیّة، ویعبّر عنها فی الفارسیة بـ «درستى»؛ وعمّا یوصف بها بالصحیح والتامّ بالعربیة، وبالفارسیة بـ «درست». ومقابل الصحّة الفساد المعبّر عنه فی الفارسیة بـ «نادرستى»، كما أنّ مقابل الصحیح الفاسد المعبّر عنه فی الفارسیة بـ «نادرست».

وهذا التقابل لا یأتی فی الأشیاء بالنسبة إلى نفس ذواتها فلا یتّصف بالصحّة والفساد الموجود فی الخارج، بل ولا المفاهیم بالنسبة إلى ذواتها، بل الاتّصاف بهما

 

یكون بالنسبة إلى غیر ذواتها من العناوین الخارجة عنها، فیوصف الشـیء بالصحّة إذا كان مصداقاً لعنوان مّا، وبالفساد إذا لم یكن كذلك.

وبالجملة التقابل بین الصحّة والفساد تقابل العدم والملكة،([1]) ولا یتصوّر فی نفس الشیء وذاته بل لابدّ أن یكون بین الشیء وعنوان من العناوین، فهو یتّصف بالصحّة إذا كان مصداقاً لهذا العنوان، ویتّصف بالفساد إذا لم یكن مصداقاً له مع أنّ من شأنه أن یقع مصداقاً له.

وبالجملة: الصحّة والفساد لا یأتیان مثلاً فی أفعال الصلاة مثل الركوع والسجود والقیام بالنسبة إلى ذواتها، أی الحركة المحقّقة فی الخارج، فهی لا تتّصف بالفساد؛ لأنّ معنى اتّصافها بالفساد نفی ذاتها عن ذاتها وسلب الشیء عن نفسه، ولذا لا توصف بالصّحة أیضاً؛ لأنّ ما لا یوصف بالفساد لا یوصف بالصّحة، ولكن توصف هذه الحركة الخاصّة بالصحّة بالنسبة إلى عنوان الركوع أو السجود أو القیام، فإذا كانت مصداقاً بالنسبة إلى هذا العنوان تكون صحیحة، وإذا لم تكن مصداقاً له تكون فاسدة.

وممّا ذكر یظهر أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافیّان، ولذلك یمكن أن یكون شیء واحد صحیحاً بالنسبة إلى عنوان أو عناوین، وفاسداً بالنسبة إلى عنوان أو عناوین اُخرى.

التنبیه الثانی: تصویر الجامع

لا یخفى أنّه لابدّ من تصویر الجامع بین أفراد الصحیح على القول به، وأفراد الأعمّ أیضاً على القول به، إلّا أنّهم وقعوا لذلك فی الإشكال. ولا ریب فی عدم إمكان تصویر

 

جامع ذاتی على القولین، لعدم تعقّل الجامع الذاتی بین الاُمور المتباینة بالذات. كیف ولا یعقل ذلك فی خصوص ما هو المصداق للصلاة مثلاً، كصلاة الكامل المختار التامّة الشرائط والأجزاء، فلا جامع ذاتی بین هذه الأجزاء والشرائط یختصّ بها دون غیرها؛ فما ظنّك بالجامع الذاتی بین جمیع مراتب الصلاة ـ قصراً وتماماً، ومضطرّاً ومختاراًـ .

أمّا الجامع بین مثل أجزاء الصلاة وشرائطها وبین مراتبها وأفرادها فلیس إلّا ما یكون عرضیاً، سواء كان المختار هو القول بالصحیح أو الأعمّ.

فنقول: أمّا الجامع العرضی بین أفراد الصحیح، فقال فی الكفایة: «لا إشكال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة، وإمكان الإشارة إلیه بخواصّه وآثاره، فإنّ الاشتراك فی الأثر كاشف عن الاشتراك فی جامع واحد، یؤثّر الكلّ فیه بذاك الجامع، فیصحّ تصویر المسمّى بلفظ الصلاة مثلاً: بالناهیة عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما».([2]) انتهى.

ویمكن الإیراد علیه:

أوّلاً: بأنّ الأثر الخاصّ المترتّب على أفراد الصلاة إذا كان مثل النهی عن الفحشاء أو كونها معراج المؤمن، لا یمكن أن یكون هو الجامع بین الأفراد والمسمّى بالصلاة، لأنّه لا یثبت به عدم ترتّبه على غیرها.

وثانیاً: بأنّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنْكَرِ﴾،([3]) أنّها حقیقة یكون النهی عن الفحشاء أثرها، ولو كان معنى الصلاة هو الناهیة عن الفحشاء یصیر المعنى: الناهیة عن الفحشاء تنهى عن الفحشاء، وهو المصادرة على المطلوب، وهذا لا یلیق بالقرآن الكریم.

 

فالصحیح أن یقال بأنّ ما هو الجامع العرضی بین أفراد الصلاة هو ما لا یتحقّق فی ضمن غیرها مثل: غایة الخضوع وكمال العبودیة والتوجه الخاصّ الّذی یتحقّق فی ضمن أفرادها المختلفة الأجزاء والـشرائط بحسب الحالات، حتى وإن لم نعلم به تفصیلاً إلّا أ نّنا نعلم بوجوده فی الجملة، فإذا دلّ الدلیل على أنّ المسمّى باسم الصلاة أو الصوم أو غیرهما هو الصحیح نأخذ به، ونقول بالقدر الجامع بین أفراد الصلاة الصحیحة أو الصوم الصحیح.

وقد یشكل: بأنّ الجامع الّذی لم نتحصّله بعنوان لا یمكن أن یكون أمراً مركّباً؛ إذ کلّ ما فرض جامعاً یمكن أن یكون صحیحاً وفاسداً. كما لا یمكن أن یكون أمراً بسیطاً؛ لأنّه إمّا أن یكون مثل عنوان المطلوب، أو ملزوم المطلوب المساوی له، والأوّل مستلزم للدور لتوقّف تحقّق هذا العنوان على الطلب وتوقّف الطلب علیه. مضافاً إلى أنّه جامع عامّ یشمل جمیع أفراد العبادات. ومضافاً إلى أنّ ذلك مانع من إجراء البراءة فی أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال حینئذٍ فی المأموربه وإنّما الإجمال فیما یتحقّق به وفی مثله لا مجال لها، كما حقّق فی محلّه، مع أنّ المشهور القائلین بالصحیح قائلون بها فی الشكّ فیهما.

وبهذا یشكل لو كان البسیط هو ملزوم المطلوب أیضاً، فلا تجری البراءة معه.

وأجاب فی الكفایة عن هذا الإشكال: «بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکّبات المختلفة زیادة ونقیصة بحسب اختلاف الحالات، متّحد معها نحو اتّحاد، وفی مثله تجری البراءة، وإنّما لا تجری فیما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجیاً مسبّباً عن مركّب مردّد بین الأقلّ والأكثر، كالطهارة المسبّبة عن الغسل والوضوء فیما إذا شكّ فی أجزائهما».([4])

 

وتوضیحه: أنّ مفهوم الصلاة لیس عنوان المطلوب ولا عناوین الأجزاء بذواتها، بل یكون عنواناً عرضیاً صادقاً على کلّ الأجزاء الأصلیة تارة، وعلى البعض اُخرى، وعلى أبدالها ثالثة، مع وجود جمیع الشروط فی الجملة تارة ومع عدمها اُخرى، وهكذا فی الموانع.

وهذا العنوان العرضی لمّا كان صادقاً على الأجزاء بالفعل متّحداً معها فی الخارج، كان وجوده عین وجودها، فكان بحسب الوجود مركّباً وإن كان بحسب المفهوم بسیطاً، فإذا شكّ فی جزئیة شیءٍ شكّ فی نفس متعلّق الوجوب، فینحلّ العلم الإجمالی إلى العلم التفصیلی بالوجوب والشكّ البدویّ فیه، فتجری البراءة النقلیة على مختاره، والعقلیة أیضاً على مختارنا تبعاً للقوم. وإنّما لا تجری البراءة فیما إذا كان البسیط المعلوم مسبّباً عن المرکّب، فإنّ وجوده غیر صادق علیه.

ویمكن الإشكال بأنّه وإن شیّدنا أركان القول بجریان البراءة العقلیة عند الشكّ فی الجزئیة والشرطیة ودفعنا ما أورده شیخنا+، لكن جریان البراءة فیما إذا كان المكلّف به مفهوماً منتزعاً من جملة وجودات باعتبار الإضافة إلى شیءٍ آخر إمّا بالعلّیة أو بغیرها وشكّ فی مدخلیّة وجود فی انتزاع هذا المفهوم وتحقّق هذه الإضافة فی نفس الأمر عند عدم هذا الوجود، فی غایة الإشكال، وإن كان هذا المفهوم متّحداً معها حین ما یصدق، وصادق علیها حین یتحقّق، ألا ترى أنّه إذا أمر المولى عبده بإزهاق روح حیوان وهو یتحقّق منه بجملة اُمور شكّ فی دخل واحد، فلم یوجده ولم یتحقّق الإزهاق لم یعدّ معذوراً وإن كان الإزهاق حین تحقّقه صادقاً على نفس هذه الجملة، وهكذا عنوان التعظیم إذا تحقّق بجملة اُمور صادق علیها وشكّ فی دخل شیءٍ ـ جزءاً أو شرطاًـ، وتمام الكلام فی محلّه.([5])

 

هذا كلّه فی تصویر القدر الجامع على القول بالصحیح. وأمّا على القول بالأعمّ فقد ذكر لتصویره فی الكفایة وجوهاً:

أحدها: أن یكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان فی الصلاة مثلاً، وكان الزائد علیها معتبراً فی المأموربه لا فی المسمّى.([6])

وأجاب عنه أوّلاً: بأنّ التسمیة بها لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان.

وثانیاً: بعدم الصدق علیها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمّی.

وثالثاً: بلزوم أن یكون الإستعمال فیما هو المأمور به ـ بأجزائه وشرائطه ‏ـ مجازاً عنده، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الكلّ، لا من باب إطلاق الكلّی على الفرد، ولا یلتزم به القائل بالأعمّ، فافهم.

 

ثانیها: أن تكون موضوعة لمعظم الأجزاء الّتی تدور مدارها التسمیة عرفاً، فصدق الاسم كذلك یكشف عن وجود المسمّى، وعدم صدقه عن عدمه.

وأجاب عنه أوّلاً: بما أورد على الأوّل أخیراً.

وثانیاً: بأنّه علیه یتبادل ما هو المعتبر فی المسمّى، فیكون شیءٌ واحدٌ داخلاً فیه تارةً وخارجاً عنه اُخرى، بل مردّداً بین أن یكون هو الخارج أو غیره وذلك عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سیّما إذا لوحظ هذا مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

أقول: إنّ مراد القائل بهذا الوجه إن كان مفهوم الأجزاء أو مفهوم معظم الأجزاء أو مفهوم أجزاء المطلوب بأمر «أقیموا الصلاة» أو الصحیح من الصلاة، فلا تتحصّل هذه المفاهیم إلّا بتحصّل مفهوم الصلاة، فإذا كان تحصّل مفهوم الصلاة متوقّفاً على تحصّل هذه المفاهیم یدور.

وإن كان مراده مصداق معظم الأجزاء، فمصادیقه كثیرة فلابدّ من تعدّد الوضع أو الوضع لواحدٍ منها، وهو غیر الجامع بین الأفراد.

ثالثها: أن یكون وضع الصلاة كوضع الأعلام الشخصیة، فكما لا یضرّ فی التسمیة فیها تبادل الحالات من الصغر والكبر، ونقص بعض الأجزاء وزیادتها، كذلك فی الصلاة وسائر العبادات لا یضرّ بالتسمیة اختلاف أفرادها حسب تبادل الحالات.

والجواب عنه: بالفرق بین ما نحن فیه وبین الأعلام الشخصیة، فإنّ تلك الأعلام موضوعة للأشخاص، مثلاً لفظ «زید» موضوع لابن عمرو، والموضوع له لیس جسم زید وبدنه المرکّب حتى یكون اختلافه بحسب الزیادة والنقیصة موجباً لاختلاف معناه، بل الموضوع له یكون أمراً واحداً، وهو ابن عمرو الّذی هو فردٌ معیّنٌ للإنسان، وهو محفوظ فی جمیع الحالات الطارئة علیه، وهذا بخلاف الحقائق المرکّبة، فإنّ كلّ فردٍ منها موجودٌ بوجودٍ خاصّ تصدق علیه الحقیقة الّتی هو تحتها، وهی الجامعة بین أفرادها.

 

وبعبارة اُخرى: الموضوع له فیما یكون هو الجامع للأفراد كلّی ینطبق على أفراده لا تصویر له على القول بالأعمّ، بخلاف ما هو الموضوع له فی الأعلام الشخصیة، فإنّها موضوعة لها، وتشخّص كلّ فردٍ منها بوجوده الخاصّ الباقی ما بقی وجوده.

بل یمكن أن یقال: إنّ الأعلام الشخصیة أیضاً وضعها كأسماء الأنواع، فهی أیضاً موضوعة للشخص الإنسانی الّذی ینطبق علیه إذا كان واجداً لجمیع الأعضاء والأجزاء، وكذا إذا كان فاقداً لبعضها، لكن ذلك لا یكون مصحّحاً لتصویر الجامع على القول بالأعمّ، بل یؤیّد ما ذكرناه فی تصویره على القول بالصحیح، لأنّ تصویره على القول بالأعمّ یحتاج إلى جزء خارجی للعبادة یكون باقیاً مع انتفاء غیره ممّا له دخل فی صحّتها ـ جزءً أو شرطاً ـ، فتدبّر.

رابعها: ما ذكره أیضاً فی الكفایة وردّ علیه.([7])

ویرد علیه مضافاً إلى ما أورده شیخنا الاُستاذ+: أنّ استعمال اللفظ الّذی وضع للصحیح فی ما وضع له وإرادة الفاسد منه وغیر ما هو الموضوع له منه بدعوى كون

 

الفاسد هو هو أو فرداً منه، لا یجعل الموضوع له الأعمّ وحقیقة فیه ولا یحدث بذلك جامعاً بین الصحیح والفاسد. غایة الأمر لو استعمل اللفظ فی الفاسد وفی غیر الموضوع له حتى صار حقیقةً فیه، یصیر اللفظ به مشتركاً لفظیاً بین المعنیین اللذین لا جامع بینهما.

نعم، یمكن تصویر الجامع بین أفراد الفاسد بأنّه ما لا یترتّب علیه أثر الصحیح.

خامسها: أیضاً ما ذكره فی الكفایة وأجاب عنه.([8])

أقول: إنّ الكمیّة فی أسامی المقادیر والأوزان ملحوظةٌ فی معانی ألفاظها، لكن یمكن أن لا تكون ملحوظة على نحو لا تشمل الأقلّ منه أو الأكثر بما یتسامح العرف فیه، بل كانت ملحوظة كذلك أی على نحوٍ تشمل الأقلّ منه أو الأكثر فی الجملة؛ ولیس الأمر كذلك فی العبادات، إذ لیست الكمیّات المتّصلة أو المنفصلة مأخوذةً فیها حتى یقال بوضع الألفاظ لها، ولا ینافی ذلك أن یعرضها العدد ببعض الاعتبارات.

التنبیه الثالث: ثمرة النزاع

ذكروا([9]) أنّ ثمرة النزاع بین الصحیحی والأعمّی هو: الرجوع إلى البراءة على الأعمّ، وإلى الاشتغال على الصحیح، وذلك بناءً على التفصیل فی مسألة البراءة

 

والاشتغال بین ما إذا كان منشأ الشكّ ـ فی مدخلیة شیء من الجزء أو الشرط فی المأمور به ـ إجمال النصّ، فالمرجع الاحتیاط، أو عدم النصّ، فالمرجع البراءة، وذلك لأنّه إذا حصل الشكّ فی دخل شیء فی المأمور به فعلى القول بالصحیح یكون الشكّ فی المسمّى، فیصیر الخطاب مجملاً، وعلى القول بالأعمّ یكون الشكّ فی الزائد على المسمّى لا لإجمال الخطاب، بل لفقد النصّ الدالّ على اعتبار المشكوك فیه.

وأمّا لو قلنا بعدم الفرق ـ فی إجراء البراءة فی الشكّ فی الجزئیّة والـشرطیّة ـ بین إجمال النصّ وفقده، فلا یكون ذلك ثمرة للنزاع، لأنّ البراءة تكون هی المرجع على كلا القولین.

والصحیح أنّه لا وجه للرجوع إلى الأصل فی صورة وجود الدلیل مثل الإطلاق أو العموم، وهنا ـ على القول بالأعمّ ـ المرجع هو إطلاق الدلیل وصدق الصلاة على الفاقد للمشكوك جزئیّته فیه أو شرطیته له، فإنّه أحد أفراد المأمور به ومصادیقه. نعم، هذا یكون بعد توفّر شرائط التمسّك بالإطلاق؛ وأمّا على القول بالصحیح فلا مجال للتمسّك بالإطلاق، ولابدّ من الرجوع إلى الاحتیاط. اللّهمّ إلّا أن نقول برجوع ذلك إلى الشكّ فی الزائد ببیان أسلفناه فی طیّ تصویر الوجوب الضمنی للأجزاء.

فتلخّص ممّا ذكر: عدم الثمرة للنزاع فی الصحیح والأعمّ بالقول بإجراء البراءة أو التمسّك بالإطلاق على القول بالأعمّ، والرجوع إلى الاحتیاط على القول بالصحیح، وذلك لما قد ظهر لك من جریان البراءة على القول بالصحیح أیضاً.

المختار فی المسألة:([10]) والحقّ الّذی یؤدی إلیه النظر فی بیان المختار هو: أنّ ألفاظ العبادات كلّها مستعملة فی لسان الشرع فیما هو الموضوع له من أوّل الأمر فی العصور الجاهلیة وما قبلها بل من بدو تكوّن الإنسان، كما تدلّ علیه الآیات والأخبار على أنّ هذه الماهیّات

 

العبادیة لیست من مخترعات الشریعة الإسلامیة، بل هی مرسومةٌ ومعمولٌ بها بین أبناء نوع الإنسان من أوائل التاریخ بل من قبل التاریخ،([11]) إلّا أنّها تختلف صورها باختلاف الأدوار والأكوار.

والخصوصیات المجعولة المستحدثة فی زمن الإسلام إنّما هی الخصوصیات الفردیة المذكورة فی لسان الشارع لا ترتبط بالوضع أو الاستعمال المجازی، بل هی مستفادة بالقرینة من باب تعدّد الدالّ والمدلول، كما بنى علیه الباقلانی.([12])

وهذا الّذی قلناه ثابت فی تمام الماهیات العبادیة من الصوم والصلاة والحجّ والزكاة وغیرها من العبادات، ولذلك قد أنكرنا الحقائق الشرعیة أو المتشرعیّة. فالموضوع له هو الحقیقة الّتی وضعت لها هذه الألفاظ من أوّل الأمر، ومعلوم أنّ معانیها أعمّ من الأفراد الموجودة فی العصور الجاهلیة أو الأفراد الصحیحة الّتی أمر بها الشارع، وهذا یكفی فی إثبات القول بالأعمّ، فلا نحتاج فی إثبات الأعمّ إلى غیر ما أسلفناه فی الحقیقة الشرعیة.([13])

ونتیجة ذلك: أنّ المرجع فیما شكّ فی جزئیّته أو شرطیته فی العبادات هو أصالة البراءة؛ لأنّ الشكّ فیه شكّ فی وجود الدلیل على دخل المشكوك فیه فی المأمور به ـ شرطاً أو شطراً ـ . وأمّا الإطلاقات فلیست فی مقام بیان ما هو من مصادیق الصلاة مثلاً فی شرع الإسلام حتى یتمسّك بها، وإنّما هی تشیر إلى المعنى المركوز فی الأذهان ـ بحسب العرف واللغة ـ الصادق على أفراده المختلفة حسب المقرّر فی الشرائع السابقة وحسب ما یقرّر أو قرّر وبیّن فی شرعنا الخالد. إذن فلیس هنا إلّا البراءة عمّا نشك فی دخله فی الصلاة وغیرها، والله هو العالم.

 

ثم إنّه قد استدلّ للقائل بالصحیح بوجوه:([14])

منها: الأخبار الظاهرة فی إثبات بعض الخواصّ والآثار، للصلاة مثلاً ، كقوله×: «الصلاة عمود الدین»،([15]) أو «الصوم جُنّةٌ من النار»،([16]) فإنّ هذه الخواص لا تترتب إلّا على الصحیح منها.

وكذا: ما یدلّ من الأخبار على نفی ماهیتها وحقیقتها لفقد بعض شرائطها أو أجزائها، كقوله×: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»،([17]) ولو كان الموضوع له هو الأعمّ لا یصحّ نفی الحقیقة لمجرد ذلك.

وفیه:([18]) أنّ التمسّك بمثل أصالة العموم أو أصالة الحقیقة إنّما یصحّ إذا كان الشكّ واقعاً فی مراد المتکلّم، وأ نّه أراد العموم أو أراد الحقیقة أم لا؟ أمّا إذا شككنا فی كیفیة إرادته مع العلم بمراده فلا یتمسّك بالاُصول اللفظیة؛ وفی المقام نعلم أنّ مراده×

 

من الصلاة الّتی هی عمود الدین الصلاة الصحیحة، ونتردّد فی كیفیة الاستعمال المذكور فهل هو حقیقی أو مجازی؟ فإذا قال المولى: أكرم العلماء وقال: لا تكرم زیداً، یدور الأمر بین كون خروج زید عن تحت عنوان «العلماء» العامّ، تخصیصاً أو تخصّصاً، بعدم وجوب إكرام زید لا یصحّ التمسّك بأصالة العموم لإثبات خروج زید عن تحت العامّ بالتخصیص، كما لا یجوز التمسّك بأصالة العموم إذا شككنا فی كون زید أو عمرو عالماً، لكونه من التمسّك بعموم العامّ فی الشبهة المصداقیه.

وهكذا نقول فی مثل قوله×: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»، فتدبّر.

ثم إنّه قد استدلّ للأعمّی بوجوه:([19])

منها: صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة فی المكان المكروه فیه الصلاة كالحمّام لمرجوحیتها، فلو كان ما وضع له لفظ «الصلاة» خصوص الصحیح، یكون متعلّق النذر هو ترك الصلاة الصحیحة، وهی بعد تعلّق النذر بتركها لا یمكن أن تقع صحیحة، فلا موقع لتركها فی المكان المنذور تركها فیه وفاءً بالنذر بل مطلقاً، لانتفاء متعلّق الترك المنذور لوقوعه فاسداً لا صحیحاً، فلا یتحقّق به الحنث، وما یتحقّق به الحنث لا یمكن تحقّقه لحرمته ولوقوع الحنث المحرم به، فیلزم من تعلّق النذر بترك الصلاة الصحیحة عدم ما یمكن أن یكون صحیحاً حتى یتعلّق الترك المنذور به، فیلزم من وجوده عدمه.

وفیه: أنّ هذا الإشكال یأتی على القول بالأعمّ أیضاً، لأنّ متعلّق النذر إن كان فعلاً من الأفعال یجب أن یكون راجحاً، وإن كان ترك فعل من الأفعال یجب أن یكون ذاك الفعل مرجوحاً، وما هو المرجوح فی المكان المكروه فیه الصلاة كالحمّام هو الصلاة

 

الصحیحة سواء كان الموضوع له الصحیح أو أعمّ. ولا یصحّ أن یكون متعلّق النذر ترك الصلاة الفاسدة أو أعمّ منها، لما ذكرنا من اشتراط كون الفعل الّذی تعلّق النذر بتركه مرجوحاً، إذن فلا فرق فی تأتّی الإشكال بین القولین.

والجواب عن أصل الإشكال: عدم صحّة النذر فی المقام بأن یقال: إنّ المصحّح للنذر ـ إذا تعلّق بترك فعل ـ إنّما هو مرجوحیته ذاتاً لا بالإضافة إلى سائر أفراده العرضیة، كالصلاة فی الحمّام، فإنّها مرجوحة بالنسبة إلى الصلاة فی البیت أو فی المسجد لا بملاحظة ذاتها بل بملاحظة كون غیرها أفضل وأكثر ثواباً منها، فلا یتعلّق بتركها النذر بل یتعلّق بفعلها النذر، إلّا أن یرجع النذر فی الأوّل إلى إتیان الصلاة فی البیت أو فی المسجد، فلا یجوز إتیانها فی الحمّام لوقوعها عصیاناً للأمر بإیقاعها فی المسجد، وفی الثانی یرجع إلى ترك الصلاة فی المسجد وفی البیت، فتدبّر.([20])

هنا مطالب

الأوّل: هل یجری النزاع المذكور فی العبادات، فی المعاملات أیضاً أو لا؟

ذهب المحقّق الخراسانی إلى التفصیل بین القول بكون أسامی المعاملات موضوعة للمسبّبات، فقال: لا مجال للنزاع فی كونها للصحیحة أو للأعمّ؛ لعدم اتّصافها بهما، وبین كونها موضوعة للأسباب.([21]) فلم یمانع من جریانه.

وتوضیحه: أنّ لکلّ قسم من المعاملات معنى إعتباریاً لیس له وجود إلّا فی عالم الاعتبار، فلا وجود له حقیقیاً سوى منشأ انتزاع هذا الاعتبار الّذی هو كالعلّة بالنسبة إلیه، فإذا تحقّق ذلك المنشأ وجد هذا العنوان الاعتباری فی عالم الاعتبار، وإذا اختلّت بعض شرائطه فلا یتحقّق.

 

وبعبارة اُخرى: أمر هذا الأمر الاعتباری دائرٌ بین الوجود والعدم، ووجوده یدور مدار وجود علّته، فلا یتّصف بالصحّة تارةً وبالفساد اُخرى، بل یتّصف بالوجود أو بالعدم. وعلیه فإن كانت الأسماء موضوعة لهذا المعنى الاعتباری ـ المسبّب ـ فلا مجال للنزاع.

أمّا إذا كانت تلك الأسامی موضوعة للأسباب (وإن شئت قلت: مستعملة فی الأسباب) فیمكن وقوع النزاع فیها، ویقال: إنّ عنواناً، مثل البیع، هل هو موضوع للعقد الجامع لشرائط التأثیر فی ملكیة الثمن والمثمن للمشتری والبائع، أو موضوع لأعمّ منه ومن غیر المؤثّر؟

ولا یبعد دعوى كونه موضوعاً لما هو الصحیح والمؤثّر.

هذا بیان لما أفاده شیخنا الاُستاذ+، لکنّه تفصیل لا یخلو عن الإشكال، وذلك لأنّ أسامی المعاملات، مثل البیع والإجارة، إنّما تكون موضوعة لماهیّاتها من غیر تحیّثها بحیثیة الوجود والعدم، فالماهیّات وإن كانت تارة موجودة فی الخارج واُخرى غیر موجودة، لكنّ الموضوع له هو نفس ماهیّة الملكیة ونفس ماهیّة (عُلقة) الزوجیّة وغیرهما، فلا یصحّ التفصیل المذكور.

والدلیل على ذلك صحّة إطلاق المعدوم علیها، فیقال: البیع معدوم، ولو كان البیع موضوعاً للمسبب الموجود والماهیة الموجودة، یلزم التناقض بحمل المعدوم علیه. وكذلك یقال: البیع موجود، فلو كان معناه الماهیّة الموجودة یكون معناه: الّذی هو موجود موجود. فما ذكره+ وجهاً للتفصیل غیر وجیه، لأنّ السببیّة والمسبّبیّة من لوازم الوجود لا الماهیة، وقد عرفت أنّ أسامی المعاملات موضوعة للمعانی المعرّاة عن الوجود، أی الماهیّات.

نعم، الألفاظ المشتقّة من هذه الأسامی، كلفظ «باع» و«یبیع» و«بع» الموضوعة للإخبار والأمر، تدلّ على وجود مصادیقها أو طلب إیجادها.

 

وعلى هذا، فالحقّ عدم تأتّی الخلاف فی أسماء المعاملات مطلقاً من غیر تفصیل بین الأسباب والمسبّبات.

الأمر الثانی: أفاد فی الكفایة:([22]) كون ألفاظ المعاملات أسامی للصحیحة لا یوجب إجمالها، بناءً على تعلّق الأحكام بالأفراد، كما توهّم فی ألفاظ العبادات.

لأنّ إطلاقها ـ لو كان فی مقام البیان ـ یشمل کلّ ما هو فردٌ لها عند العرف، فلو كان یعتبر فی البیع مثلاً شیئاً زائداً على ما هو المعتبر عند العرف لكان على المولى أن یبیّنه. نعم، لو شكّ فی اعتبار أمرٍ فیه عند العرف لا یصحّ التمسّك بالإطلاق، كما أنّه لا یتمسّك بالإطلاق إلّا مع وجود ما یسمّونه بمقدّمات الحكمة الّتی هی عند صاحب الكفایة الاُمور الثلاثة المذكورة فی محلّها.([23])

وأمّا بناءً على تعلّق الأحكام بالطبائع، كما هو الحقّ، فیشكل التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم مدخلیة المشكوك دخله؛ لأنّ الشكّ فی اعتبار شیءٍ، فی فردیة عقدٍ معیّنٍ لطبیعة البیع مثلاً، شكّ فی كونه مصداقاً لتلك الطبیعة، والتمسّك بالإطلاق لإثبات ذلك تمسّك بالعامّ فی الشبهة المصداقیه.

نعم، إذا رجع ذلك إلى الشكّ فی دخل جهة زائدة على نفس الطبیعة صحّ التمسّك بالإطلاق لنفیها.

وربما یقال: إنّ الطبیعة إذا كانت معلومة عند العرف، لا یكون الشكّ فی فردیة شیءٍ لها إلّا بالشكّ فی مدخلیة حیثیةٍ زائدة على ما هی حیثیتها عند العرف، فیتمسّك لعدم دخلها بالإطلاق، فتأمّل.([24])

 

الأمر الثالث: فی تحقیق معنى الجزء، والشرط، والفرق بینهما، فنقول: إنّ دخل شیءٍ فی تحقّق المأمور به إمّا یكون بتركّب المأمور به منه ومن غیره، ویكون ممّا به قوام ذاته وماهیته كالركوع والسجود وغیرهما من أجزاء الصلاة، فهذا جزؤه وما به قوام ماهیته وحقیقته؛ وإمّا یكون شیئاً خارجاً عن حقیقة المأمور به وما یتركّب منه، لكن له دخلٌ فی تحقّقه أو تحقّق أجزائه، فهو من مقدّماته ویسمّى شرطه، كمقدّمات الصلاة، مثل الطهارة وغیرها ممّا تتوقّف الصلاة علیه وتكون مشروطة بوجوده قبلها أو بعدها أو حین أدائها.

فالأمر الوجودی الّذی یكون مع غیره تكویناً أو تشریعاً ـ ویعدّ بالاعتبار شیئاً واحدا ًـ هو جزء ذلك الشیء؛ والأمر الوجودی الذی یكون وجود المأمور به وتحقّقه متوقّفاً على وجوده ـ قبله أو بعده أو مقارناً له ـ هو شرط المأمور به.

وبعبارة اُخرى: یكون المأمور به مقیّداً بذلك الشیء ولا یتحقّق بدونه، بنحوٍ یكون التقیّد داخلاً فی المأمور به، والقید كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة خارجاً عنه. وهذا معنى كون الطهارة من شرائط الصلاة.

وأمّا ما یستفاد من الكفایة([25]) من دخل شیءٍ عدمیّ فی المأمور به واعتباره شرطاً أو شطراً، ففیه: أنّ العدم لا یؤثّر ولا یوصف بالتأثیر والتأثّر. وعدّهم «عدم المانع» من أجزاء العلّة التامّة، یكون من المسامحة فی التعبیر، والمراد: أنّ وجود المانع، كالقهقهة، یكون مخلّا، لا أنّ عدمه مؤثّرٌ فی وجود المأمور به ـ شطراً أو شرطاًـ .

وبالجملة: المأمور به لیس إلّا المشروط والمقیّد بقیدٍ كذائیّ وجودیّ الّذی یكون لوجود القید دخل فی وجوده لتقیّد وجوده به، وأمّا عدم المانع فلا یؤثّر فی وجوده. نعم،

 

وجوده یكون فی ظرف عدم مانعه، لا أنّ عدم مانعه یكون مقدّمة لوجوده. ومعنى اعتبار عدم المانع: وجوب إزالة المانع، وفرقٌ بین كون وجود شیءٍ مانعاً عن وجود آخر، وبین كون عدمه شرطاً لوجوده، وما لا یعقل تصوّره هو الثانی. وكیف كان، فالمعانی معلومة خارجاً سواء كانت التعابیر عنها مطابقةً للإصطلاح، أو مخالفةً له.

 

 

([1]) قال فی التعریفات باب المیم: «المتقابلان بالعدم والملکة أمران أحدهما وجودی والآخر عدمیّ ذلك الوجودیّ لا مطلقاً، بل من موضوع قابل له، کالبصر والعمی والجهل؛ فإنّ العمی عدم البصر عمّا من شأنه البصر، والجهل عدم العلم عمّا من شأنه العلم». الجرجانی، التعریفات، ص 86.

([2]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص36. ولا إشکال فیما أفاد؛ فإنّ ترتّب أثرٍ واحدٍ علی أشیاء متباینة متکثّرة، یدلّ علی وجود جامع عرضی واحدٍ بینها. [منه دام ظلّه العالی].

([3]) العنکبوت، 45.

([4]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص37.

([5]) راجع: الحاشیة علی کفایة الاُصول للحجّتی البروجردی، ج1، ص77 79.

أقول: مراده من تشیید أرکان القول بجریان البراءة العقلیة ما أفاده فی مبحث الأقلّ والأکثر الارتباطیّین، وأنّ الأمر إذا تعلّق بمرکّب مثل الصلاة یتعلّق بأجزائه أیضاً (ضمناً) بعین تعلّقه بالمرکّب وینبسط الأمر علی أجزائه، بحیث یوزّع علی کلّ جزءٍ من أجزائه، فیکون کلّ واحد من أجزائه مأموراً به وواجباً بالوجوب النفسی فی ضمن کون جمیعها مأموراً به، لإمکان تبعّضه بالإضافة إلی کلّ جزء والحکم بوجوب هذا وهذا وغیرهما من الأجزاء، کما یمکن أن یقال بتعلّق العلم بکون هذا الجزء مأموراً به وکون هذا مشکوك الوجوب، وعلی ذلك یجوز إجراء البراءة فی المشکوك وجوبه؛ للشكّ فی تعلّق الأمر به ووقوعه تحت الأمر المنبسط علی الأجزاء.

وعلی هذا لایکون المقام من أفراد العلم الإجمالی ومصادیقه حتی یقال بلزوم الاحتیاط فی أطرافه ونحتاج لإجراء البراءة فی الأکثر بالإلتزام بالإنحلال، بل تکون الشبهة بالإضافة إلی الجزء المشکوك من الشبهات البدویّة الّتی تکون المؤاخذة والعقاب علیها من العقاب بلا بیان.

فإن قلت: سلّمنا أنّ الشبهة بالنسبة إلی وقوع الأکثر تحت الأمر ـ المنبسط علی الأجزاء ـ شبهة بدویة تجری البراءة فیها، ولکن بسبب الشكّ فی الزائد نشكّ فی امتثال الأمر المتعلّق بالأقلّ، وأنّه هل یتحقّق بدون الإتیان بالزائد أم لا؟ فالعقل حاکم بوجوب الإتیان بالمأمور به علی وجه یقطع بحصول امتثال الأمر المتعلّق به، فلابدّ إذن من الإتیان بالأکثر تحصیلاً لامتثال الأمر بالأقلّ.

قلت: أوّلاً بناءً علی ما قلناه من بسط الأمر وتبعّضه وتوزیعه علی الأجزاء ووجوب کلّ واحد منها بالوجوب الضمنی، یحصل لنا القطع بامتثال مقدار من الأمر ـ  المنبسط علی جمیع الأجزاء ـ وهو الّذی انبسط علی الأقلّ الّذی تنجّز بالعلم به، وأمّا الزائد علیه فلیس بمتنجّز لعدم العلم به، ویعبّر عنه بالفعلی قبل التنجّز.

و بالجملة: ما یتنجّز بالعلم به هو الأقلّ فقط، فیجب الإتیان به، ولا یکون العقاب علی ترکه بلا بیان. وأمّا الزائد علیه فدخله فی صحّته مشکوك فیه ومرفوع بالبراءة.

والغرض من عدم حصول الامتثال بدون الإتیان بالأکثر إن کان عدم العلم بحصول الغرض، ففیه: أنّ الواجب علینا الإتیان بالمأمور به ولایجب علینا تحصیل الغرض والعلم بحصوله.

وإن کان المراد منه أنّ مقتضی قضیة إرتباطیة الأجزاء عدم العلم بإتیان المأمور به الأقلّ من غیر إتیانه بالأکثر وإن کان وقوعه تحت الأمر مشکوکاً فیه، ففیه: أنّ معنی الإرتباطیة: دخل کلّ جزء من أجزاء المرکّب فی تحصّل المرکّب وتحقّقه، بحیث إذا لم یأت المکلّف بواحد من الأجزاء لم یأت بالمرکّب ولا یترتّب علیه أثره؛ ولیس معناه کون الجزء السابق مشروطاً بالجزء اللاحق. فالجزء المعلوم وجوبه بالوجوب الضمنی یجب امتثاله ککلّ واحد من سائر الأجزاء، ومقتضی العبودیة وکون العبد فی مقام امتثال الأمر المولی الإتیان به، سواء کان ما یأتی به بالوجوب الضمنی (وامتثالاً للأمر الضمنی المتعلّق به) تمام المرکّب المأمور به أو بعضه. نعم، إن کان بعضه ولم یأت بالبعض الآخر لعدم تنجّزه ـ حیث لم یتعلّق به ـ لا یترتّب علیه إلّا ثواب الإنقیاد، کمن علم بوجوب أمر وأتی به ثم انکشف خلافه، بل فی المقام لاینکشف الخلاف، فإنّ البعض الّذی تعلّق به العلم مأمور به مطلقاً وإن لم یتعلّق علمه بغیره.

وبالجملة: مقتضی وجوب البعض المعلوم وقوعه تحت الأمر بالوجوب الضمنی، وجوب الإتیان به. ومقتضی کون البعض الآخر مشکوك الوجوب بالوجوب الضمنی، عدم وجوبه. فالمعلوم وجوبه واجب ضمنی صالح لأن یلحق به المشکوك وجوبه إن کان فی الواقع واجباً، ولکن لایجب الإتیان به لأنّه مشکوك فی وجوبه.

إن قلت: فعلی هذا، إذا لم یکن المعلوم وجوبه تمام المرکّب وترکه المکلّف لم یکن عاصیاً وکان تارکاً للامتثال.

قلت: أمّا عدم العصیان فیمکن أن نقول به، لکونه معذوراً لجهله بجمیع أجزاء المرکّب. وأمّا ترك الامتثال فیمکن التسلیم أیضاً، لأنّ الجزء المعلوم وجوبه کان مأموراً به، لعدم انکشاف الخلاف فیه، بل لا نستبعد القول بتحقّق العصیان أیضاً.

واعلم: أنّ ما ذکر فی هذا المقام لا نسنده بهذا التفصیل إلی السیّد الاُستاذ+، وإنّما هو استفادة ذهنی القاصر ممّا أفاده عنه المقرّر المذکور، والله أعلم بالصواب.

و لایخفی علیك: أنّ الأمر علی هذا المبنی وتبعّض الوجوب والأمر علی القول بالبراءة النقلیة فی کمال السهولة؛ فإنّ مقتضی الجمع بین حدیث الرفع والدلیل الدالّ علی الوجوب الضمنی المتعلّق بالجزء المشکوك کون البقیّة هو مصداق الصلاة. ویأتی بعض الکلام فی ذلك فی مبحث الإجزاء، إن شاء الله تعالی، والله هو الهادی. [منه دام ظلّه العالی].

([6]) راجع: القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص44.

([7]) قال فی الکفایة (الخراسانی، ج1، ص40-41): «رابعها: إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصحیح التامّ الواجد لتمام الأجزاء والشرائط، إلّا أنّ العرف یتسامحون ـ کما هو دیدنهم ـ ویطلقون تلك الألفاظ علی الفاقد للبعض، تنزیلاً له منزلة الواجد، فلا یکون مجازاً فی الکلمة ـ علی ما ذهب إلیه السکّاکی فی الاستعارة ـ بل یمکن دعوی صیرورته حقیقة فیه، بعد الاستعمال فیه کذلك دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلی الکثرة والشهرة، للاُنس الحاصل من جهة المشابهة فی الصورة، أو المشارکة فی التأثیر، کما فی أسامی المعاجین الموضوعة ابتداءً لخصوص مرکّبات واجدة لأجزاء خاصّة، حیث یصحّ إطلاقها علی الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورة، والمشارك فی المهمّ أثراً تنزیلاً أو حقیقة.

وفیه: أنّه إنّما یتمّ ذلك فی مثل أسامی المعاجین، وسائر المرکّبات الخارجیة ممّا یکون الموضوع له فیها ابتداءً مرکّباً خاصّاً، ولایکاد یتمّ فی مثل العبادات الّتی عرفت أنّ الصحیح منها یختلف حسب اختلاف الحالات، وکون الصحیح بحسب حالة، فاسداً بحسب حالة اُخری، کما لایخفی، فتأمّل جیّداً».

یستفاد هذا الوجه لتصویر الجامع من کلمات المحقّق القمّی فی القوانین (ج1، ص59).

وانظر کلام السکّاکی فی مفتاح العلوم (ص56، الفصل الثالث فی الاستعارة).

([8]) قال فی الکفایة (الخراسانی، ج1، ص41-42): «خامسها: أن یکون حالها حال أسامی المقادیر والأوزان، مثل المثقال والحقّة والوزنة، إلی غیر ذلك ممّا لا شبهة فی کونها حقیقة فی الزائد والناقص فی الجملة، فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً إلّا أنّه لم یضع له بخصوصه بل بخصوصه بل لأعمّ منه ومن الزائد والناقص، أو أنّه وإن خصّ به أوّلاً بالاستعمال کثیراً فیهما، بعنایة أنّهما منه، قد صار حقیقة فی الأعمّ ثانیاً.

وفیه: أنّ الصحیح ـ کما عرفت فی الوجه السابق ـ یختلف زیادةً ونقیصةً، فلایکون هناك ما یلحظ الزائد والناقص بالقیاس علیه کی یوضع اللفظ لما هو الأعمّ، فتدبّر جیداً».

وانظر الوجه فی بدائع الأفکار (الرشتی، ص139)، بعنوان الوجه الرابع. وقال المحقّق الرشتی فیه: «وهو أحسن الوجوه سلامة عن الإشکالات».

([9]) القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص40؛ الأصفهانی، هدایة المسترشدین، ص113؛ الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص9؛ الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص43 44.

([10]) ربما یظهر ممّا أفاده زمیلنا الفقیه الفاضل الحائری&، وغیره فی تقریراته لبحث سیّدنا الاُستاذ+ أنّه اختار فی آخر البحث القول بالأعمّ. [منه دام ظلّه العالی].

([11]) الظاهر أنّ مثل هذا التعبیر لیس من السیّد الاُستاذ کما لایخفی. [منه دام ظلّه العالی].

([12]) راجع: شرح العضدی علی مختصر ابن الحاجب، ص51-52.

([13]) الحائری الیزدی، الحجّة فی الفقه، ج1، ص68-69.

([14]) انظر الوجوه فی هدایة المسترشدین (الأصفهانی، ص101-105؛ الفصول الغرویة (الأصفهانی، ص46-47)؛ القوانین (القمّی، ج1، ص44)؛ الکفایة (الخراسانی، ج1، ص43-46).

([15]) البرقی، المحاسن، کتاب ثواب الأعمال، ج1، ص44، ب44، ح60؛ المغربی، دعائم الاسلام، ج1، ص133، ذکر الرغائب فی الصلاة و...؛ الشعیری، جامع الأخبار، ص85؛ الکلینی، الکافی، ج3، ص99؛ باب النفساء من کتاب الحیض، ح4؛ ابن أبی جمهور الأحسائی، عوالی اللئالی، ج1، ص322، ح55؛ الحرّ العاملی، الوسائل الشیعة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ج4، ص34-35، ب8، ح13؛ ج4، ص27، ب6، ح12.

([16]) الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج2، ص74 75، باب فضل الصیام، ح2و6؛ الکلینی، الکافی، ج4، ص62، باب ما جاء فی فضل الصوم والصائم، ح1؛ البرقی، المحاسن، باب الشـرائع، ح430، ج1، ص286 287 ؛ ح434، ج1، ص289؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب الصوم المندوب، ج10، ص395، ب1، ح1.

([17]) ابن أبی جمهور الأحسائی، عوالی اللئالی، ج1، ص196، ح2؛ ج2، ص218، ح13؛ المحدّث النوری، مستدرك الوسائل، أبواب القراءة، ج4، ص158، ب1، ح5.

([18]) انظر الإشکال من صاحب الکفایة فی حاشیته علی الکفایة (الخراسانی، ج1، ص46).

([19]) انظر الوجوه فی القوانین ( القمّی، ج1، ص44)؛ الفصول الغرویة (الأصفهانی، ص48)؛ مطارح الأنظار (الکلانتری الطهرانی، ص16)؛ کفایة الاُصول (الخراسانی، ج1، ص46-49).

([20]) راجع: الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص48-49.

([21]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص49.

([22]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص50.

([23]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج2، ص384.

([24]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج1، ص101.

([25]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص50.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: