جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

التنبیه الثالث: ثمرة النزاع

ذكروا([9]) أنّ ثمرة النزاع بین الصحیحی والأعمّی هو: الرجوع إلى البراءة على الأعمّ، وإلى الاشتغال على الصحیح، وذلك بناءً على التفصیل فی مسألة البراءة

 

والاشتغال بین ما إذا كان منشأ الشكّ ـ فی مدخلیة شیء من الجزء أو الشرط فی المأمور به ـ إجمال النصّ، فالمرجع الاحتیاط، أو عدم النصّ، فالمرجع البراءة، وذلك لأنّه إذا حصل الشكّ فی دخل شیء فی المأمور به فعلى القول بالصحیح یكون الشكّ فی المسمّى، فیصیر الخطاب مجملاً، وعلى القول بالأعمّ یكون الشكّ فی الزائد على المسمّى لا لإجمال الخطاب، بل لفقد النصّ الدالّ على اعتبار المشكوك فیه.

وأمّا لو قلنا بعدم الفرق ـ فی إجراء البراءة فی الشكّ فی الجزئیّة والـشرطیّة ـ بین إجمال النصّ وفقده، فلا یكون ذلك ثمرة للنزاع، لأنّ البراءة تكون هی المرجع على كلا القولین.

والصحیح أنّه لا وجه للرجوع إلى الأصل فی صورة وجود الدلیل مثل الإطلاق أو العموم، وهنا ـ على القول بالأعمّ ـ المرجع هو إطلاق الدلیل وصدق الصلاة على الفاقد للمشكوك جزئیّته فیه أو شرطیته له، فإنّه أحد أفراد المأمور به ومصادیقه. نعم، هذا یكون بعد توفّر شرائط التمسّك بالإطلاق؛ وأمّا على القول بالصحیح فلا مجال للتمسّك بالإطلاق، ولابدّ من الرجوع إلى الاحتیاط. اللّهمّ إلّا أن نقول برجوع ذلك إلى الشكّ فی الزائد ببیان أسلفناه فی طیّ تصویر الوجوب الضمنی للأجزاء.

فتلخّص ممّا ذكر: عدم الثمرة للنزاع فی الصحیح والأعمّ بالقول بإجراء البراءة أو التمسّك بالإطلاق على القول بالأعمّ، والرجوع إلى الاحتیاط على القول بالصحیح، وذلك لما قد ظهر لك من جریان البراءة على القول بالصحیح أیضاً.

المختار فی المسألة:([10]) والحقّ الّذی یؤدی إلیه النظر فی بیان المختار هو: أنّ ألفاظ العبادات كلّها مستعملة فی لسان الشرع فیما هو الموضوع له من أوّل الأمر فی العصور الجاهلیة وما قبلها بل من بدو تكوّن الإنسان، كما تدلّ علیه الآیات والأخبار على أنّ هذه الماهیّات

 

العبادیة لیست من مخترعات الشریعة الإسلامیة، بل هی مرسومةٌ ومعمولٌ بها بین أبناء نوع الإنسان من أوائل التاریخ بل من قبل التاریخ،([11]) إلّا أنّها تختلف صورها باختلاف الأدوار والأكوار.

والخصوصیات المجعولة المستحدثة فی زمن الإسلام إنّما هی الخصوصیات الفردیة المذكورة فی لسان الشارع لا ترتبط بالوضع أو الاستعمال المجازی، بل هی مستفادة بالقرینة من باب تعدّد الدالّ والمدلول، كما بنى علیه الباقلانی.([12])

وهذا الّذی قلناه ثابت فی تمام الماهیات العبادیة من الصوم والصلاة والحجّ والزكاة وغیرها من العبادات، ولذلك قد أنكرنا الحقائق الشرعیة أو المتشرعیّة. فالموضوع له هو الحقیقة الّتی وضعت لها هذه الألفاظ من أوّل الأمر، ومعلوم أنّ معانیها أعمّ من الأفراد الموجودة فی العصور الجاهلیة أو الأفراد الصحیحة الّتی أمر بها الشارع، وهذا یكفی فی إثبات القول بالأعمّ، فلا نحتاج فی إثبات الأعمّ إلى غیر ما أسلفناه فی الحقیقة الشرعیة.([13])

ونتیجة ذلك: أنّ المرجع فیما شكّ فی جزئیّته أو شرطیته فی العبادات هو أصالة البراءة؛ لأنّ الشكّ فیه شكّ فی وجود الدلیل على دخل المشكوك فیه فی المأمور به ـ شرطاً أو شطراً ـ . وأمّا الإطلاقات فلیست فی مقام بیان ما هو من مصادیق الصلاة مثلاً فی شرع الإسلام حتى یتمسّك بها، وإنّما هی تشیر إلى المعنى المركوز فی الأذهان ـ بحسب العرف واللغة ـ الصادق على أفراده المختلفة حسب المقرّر فی الشرائع السابقة وحسب ما یقرّر أو قرّر وبیّن فی شرعنا الخالد. إذن فلیس هنا إلّا البراءة عمّا نشك فی دخله فی الصلاة وغیرها، والله هو العالم.

 

ثم إنّه قد استدلّ للقائل بالصحیح بوجوه:([14])

منها: الأخبار الظاهرة فی إثبات بعض الخواصّ والآثار، للصلاة مثلاً ، كقوله×: «الصلاة عمود الدین»،([15]) أو «الصوم جُنّةٌ من النار»،([16]) فإنّ هذه الخواص لا تترتب إلّا على الصحیح منها.

وكذا: ما یدلّ من الأخبار على نفی ماهیتها وحقیقتها لفقد بعض شرائطها أو أجزائها، كقوله×: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»،([17]) ولو كان الموضوع له هو الأعمّ لا یصحّ نفی الحقیقة لمجرد ذلك.

وفیه:([18]) أنّ التمسّك بمثل أصالة العموم أو أصالة الحقیقة إنّما یصحّ إذا كان الشكّ واقعاً فی مراد المتکلّم، وأ نّه أراد العموم أو أراد الحقیقة أم لا؟ أمّا إذا شككنا فی كیفیة إرادته مع العلم بمراده فلا یتمسّك بالاُصول اللفظیة؛ وفی المقام نعلم أنّ مراده×

 

من الصلاة الّتی هی عمود الدین الصلاة الصحیحة، ونتردّد فی كیفیة الاستعمال المذكور فهل هو حقیقی أو مجازی؟ فإذا قال المولى: أكرم العلماء وقال: لا تكرم زیداً، یدور الأمر بین كون خروج زید عن تحت عنوان «العلماء» العامّ، تخصیصاً أو تخصّصاً، بعدم وجوب إكرام زید لا یصحّ التمسّك بأصالة العموم لإثبات خروج زید عن تحت العامّ بالتخصیص، كما لا یجوز التمسّك بأصالة العموم إذا شككنا فی كون زید أو عمرو عالماً، لكونه من التمسّك بعموم العامّ فی الشبهة المصداقیه.

وهكذا نقول فی مثل قوله×: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»، فتدبّر.

ثم إنّه قد استدلّ للأعمّی بوجوه:([19])

منها: صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة فی المكان المكروه فیه الصلاة كالحمّام لمرجوحیتها، فلو كان ما وضع له لفظ «الصلاة» خصوص الصحیح، یكون متعلّق النذر هو ترك الصلاة الصحیحة، وهی بعد تعلّق النذر بتركها لا یمكن أن تقع صحیحة، فلا موقع لتركها فی المكان المنذور تركها فیه وفاءً بالنذر بل مطلقاً، لانتفاء متعلّق الترك المنذور لوقوعه فاسداً لا صحیحاً، فلا یتحقّق به الحنث، وما یتحقّق به الحنث لا یمكن تحقّقه لحرمته ولوقوع الحنث المحرم به، فیلزم من تعلّق النذر بترك الصلاة الصحیحة عدم ما یمكن أن یكون صحیحاً حتى یتعلّق الترك المنذور به، فیلزم من وجوده عدمه.

وفیه: أنّ هذا الإشكال یأتی على القول بالأعمّ أیضاً، لأنّ متعلّق النذر إن كان فعلاً من الأفعال یجب أن یكون راجحاً، وإن كان ترك فعل من الأفعال یجب أن یكون ذاك الفعل مرجوحاً، وما هو المرجوح فی المكان المكروه فیه الصلاة كالحمّام هو الصلاة

 

الصحیحة سواء كان الموضوع له الصحیح أو أعمّ. ولا یصحّ أن یكون متعلّق النذر ترك الصلاة الفاسدة أو أعمّ منها، لما ذكرنا من اشتراط كون الفعل الّذی تعلّق النذر بتركه مرجوحاً، إذن فلا فرق فی تأتّی الإشكال بین القولین.

والجواب عن أصل الإشكال: عدم صحّة النذر فی المقام بأن یقال: إنّ المصحّح للنذر ـ إذا تعلّق بترك فعل ـ إنّما هو مرجوحیته ذاتاً لا بالإضافة إلى سائر أفراده العرضیة، كالصلاة فی الحمّام، فإنّها مرجوحة بالنسبة إلى الصلاة فی البیت أو فی المسجد لا بملاحظة ذاتها بل بملاحظة كون غیرها أفضل وأكثر ثواباً منها، فلا یتعلّق بتركها النذر بل یتعلّق بفعلها النذر، إلّا أن یرجع النذر فی الأوّل إلى إتیان الصلاة فی البیت أو فی المسجد، فلا یجوز إتیانها فی الحمّام لوقوعها عصیاناً للأمر بإیقاعها فی المسجد، وفی الثانی یرجع إلى ترك الصلاة فی المسجد وفی البیت، فتدبّر.([20])

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: