جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

خاتمة: فی سائر المفاهیم

قد ظهر ممّا ذكرنا سابقاً أنّ ما هو ملاك أخذ المفهوم عند القائل به من القدماء: اشتمال الكلام على قید زائد من جهة أنّ الأصل یقتضـی أن لا یكون المتکلّم لاغیاً وأن لا یكون صدور الكلام منه لأجل فائدة غیر إفادة مراده، فاشتمال الكلام على قید زائد یدلّ على دخالة هذا الزائد فی الحكم. ولازم ذلك انتفاء الحكم وعدم وجوده عند كونه مجرّداً عن قیدٍ مّا. وقد ذكرنا: أنّ المفهوم على قولهم یستفاد من دلالة نفس تکلّمه، بما أنّه فعل من الأفعال. وقد قلنا أیضاً بأنّه لا یستفاد من هذا إلّا دخالة هذا القید، وأمّا الانتفاء عند الانتفاء مطلقاً ولو قام مقام هذا القید قید آخر فلا یستفاد منه، إلّا إذا كان المتکلّم فی مقام بیان تمام ما هو المناط للحكم واُحرز ذلك.

ولا فرق فیما ذكر بین ما إذا كان القید الزائد الّذی أتى به فی كلامه أداة الشـرط أو الوصف أو الغایة أو ما یفید الحصر؛ فإنّ النزاع فی جمیع ذلك عندهم من وادٍ واحد. كما ینبئ بذلك قول القائل بعدم المفهوم فی الجمیع بأنّ إتیان المتکلّم بالقید الزائد ربما یكون لأجل فائدة اُخرى غیر دخالة القید فی حكمه.

نعم، ربما یختلفون فی بعضها كالغایة، بأنّ ما یستفاد منها ـ وهو ثبوت الحكم للمغیّى وعدمه فی غیره ـ هل یكون بالدلالة المنطوقیة حتى تكون كلمة «حتى» موضوعة لإفادة ذلك، أو یكون بالدلالة المفهومیة حتى یكون مفاد المنطوق ثبوت الحكم للمغیّى ودخالته فیه، ومفهومه عدم ثبوت الحكم لغیره؟([1]) ومنشأ توهّم كون ذلك بالدلالة المنطوقیة كون «حتّى» وغیره (مثل: إنّما، وإلّا) وضع لذلك المعنى، وأنّ

 

استفادة انتفاء الحكم عمّا هو خارج عن المغیّى فی الغایة وعن المستثنى فی الاستثناء من أظهر المفاهیم كما قیل، فتوهّم أنّ ذلك یكون مستفاداً من المنطوق.

ثم لا یذهب علیك: أنّ المحقّق الخراسانی+ مع أنّه لم یسلك مسلك القدماء أفاد فی مفهوم الغایة كلاماً یناسب ما ذهبوا إلیه، وهو: أنّ قضیة القواعد العربیة أنّ الغایة إذا كانت قیداً للحكم كقوله: «كلّ شیء حلال... إلخ» تدلّ على ارتفاع الحكم عند حصولها، وإذا كانت قیداً للموضوع فلا .([2])

تنبیه: ذكر فی الكفایة إشكالاً فی دلالة كلمة الإخلاص (لا إله إلّا الله) على التوحید، وهذا نصّه: «أنّ خبر «لا» إمّا یقدّر «ممكن» أو «موجود» وعلى کلّ تقدیر لا دلالة لها على التوحید.

أمّا على الأوّل؛ فإنّه حینئذٍ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى لا وجوده.

وأمّا على الثانی؛ فلأنّها وإن دلّت على وجوده تعالى إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر».

ثم دفعه: «بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود ونفی ثبوته ووجوده فی الخارج وإثبات فرد منه فیه وهو الله ‏یدلّ بالملازمة البیّنة على امتناع تحقّقه فی ضمن غیره تبارك وتعالى؛ ضرورة أنّه لو لم یكن ممتنعاً لوجد، لكونه من أفراد الواجب».([3])

ولا یخفى علیك: أنّ أصل الإشكال وجوابه فاسد.

أمّا فساد الجواب؛ فلأنّ مثل هذا العنوان (واجب الوجود) الحادث المصطلح البعید

 

عن كثیر من الأذهان خصوصاً العرب فی ذلك الزمان (زمان بعثة النبیّ| لا یكون مدلولاً للكلام الملقى إلیهم. والمعنى وإن كان مركوزاً فی أذهانهم إلّا أنّه لا ینافی بُعد العنوان المانع عن تقدیره فی الكلام.

وأمّا فساد الإشكال؛ فلأنّ العرب ما كانوا ینكرون وجود الخالق الباری المنشئ للمخلوقات ولا وحدانیته تعالى، وإنّما كانوا یعبدون من دون الله‏ أصناماً لیقرّبوهم إلى الله زلفى،([4]) مع الاعتراف بأنّها مخلوقة، ولا یعتقد أحد منهم اُلوهیة الأصنام، ولذا یأخذهم الله‏ تعالى بإقرارهم ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ...([5]) الآیة ووبّخهم على عبادة ما لیس فیه صلاحیة العبادة، ومن لا یخلق بل هو یُخلق: ﴿أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا یَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً﴾؛([6]) ﴿أَیُشْرِكُونَ مَا لَا یَخْلُقُ شَیْئاً وَهُمْ یُخْلَقُونَ﴾؛([7]) وكلمة التوحید الطیبة إنّما تفید نفی کلّ معبود سوى الله تعالى وتثبت التوحید فی العبادة.([8])

 

ویمكن أن یقال: بعدم الاحتیاج إلى تقدیر الخبر فی هذه الكلمة ونظائرها مثل «لا رجل فی الدار» كما یظهر من سیبویه،([9]) وهو الحقّ كما سیجیء إن شاء الله تعالى مزید توضیح له فی بعض مباحث العامّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبی ونعم الوكیل فی المبدأ والمآل. ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذین سبقونا بالإیمان، وحسِّن نیّاتنا وأعمالنا، واجعلها خالصة لك بحقّ محمد وآله الطاهرین صلوات الله علیهم أجمعین.

 

 

 

([1]) راجع: شرح العضدی علی مخـتصر ابن الحاجب، ص321-323؛ الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص188.

([2]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص325؛ وهکذا فوائد الاُصول ( ج2، ص504 505)؛ ودرر الفوائد (ج1، ص204).

([3]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص327-328. راجع أیضاً: الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص154.

([4]) انظر: الزمر، 3.

([5]) انظر: العنکبوت، 61، 63؛ لقمان، 25؛ الزمر، 38؛ الزخرف، 9، 87.

([6]) المائدة، 76.

([7]) الأعراف، 191؛ انظر أیضاً: النحل، 20؛ الفرقان، 3.

([8]) والحقّ: أنّ مفهوم کلمة التوحید لا یختصّ بالإقرار بالتوحید فی العبادة ونفی  الشریك عنه فیها ممّا یعبده المشرکون من دون الله تعالی، بل مفهوم هذه الکلمة العظیمة ـ الّتی لیس شیء أثقل وأوسع منها فی المیزان ـ هو: الإقرار بأن لا إله ولا خالق ولارازق ولا مدبّر للسماوات والأرض ولا مالك ولا حافظ لها إلّا الله.

فمثل قوله تعالی: ﴿هُوَ الله الَّذی لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ...﴾ (الحشـر، 22-23)، معناه هو الله الذی لا خالق ولا رازق ولا بارئ ولا معبود و...إلّا هو: فمعنی الإله المطابقی، من یوصَف بهذه الصفات. والتوحید نفی الخالق البارئ الفاطر المعبود و... غیر الله سبحانه وتعالی، لا نفی المعبود غیره فقط کما قـصّره علیه الفرقة المستحدثة الوهّابیة.

وبالجملة: کلمة التوحید لا یقصر مفادها فی نفی معبودیة غیر الله وإثباتها له تعالی، بل مفادها (التامّ نفی خالقیة غیر الله وربوبیته ورازقیته وسائر الأسماء الحسنی والصفات العلیا عن غیر الله وإثباتها لله دون غیره، وقد جاء فی القرآن الکریم: ﴿وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى‏ بَعْضٍ﴾ (المؤمنون، 91)، فلو کان معنی «الإله» المطابقی المعبود لا یتمّ الاستدلال لنفسه بما فی الآیة الکریمة وإنّما یتمّ الاستدلال إذا کان هو بمعنی الخالق وما یرادفه ویتلوه من الأسماء الحسنی. کما أنّه لو لم یکن اسماً لخالق الأرض والسماء والمتصرّف فیهما ومدبّرهما لم یتمّ الاستدلال علی توحیده بقوله تعالی: ﴿لَوْ كانَ فیهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبیاء، 22)، إذ لیس ارتباط بین وجود معبود فی السماء والأرض إلّا الله وفسادهما، وقد أشبعنا الکلام فی ذلك فی غیر المقام من تألیفاتنا.

فظهر أنّ الحقّ مع المحقّق الخراسانی+ لا من جهة أنّ مدلول «الإله» مثل «خدا» وما یراد منهما من سائر اللغات هو واجب الوجود حتی یقال: إنّ مثل ذلك بعید عن أذهان الناس، بل من جهة أنّ ما هو المرکوز فی أذهان عامّة العرب وغیرهم من هذه الألفاظ هو الّذی یعبّر عنه المتکلّم العارف بمعانی هذه الاصطلاحات المستحدثة فی الإسلامیین بواجب الوجود غیر أنّه لا یعرفه بهذا الاصطلاح، وإنّما یعرفه بأنّه مالك السماوات والأرض وخالقهما، وهو الإله الّذی یحیی ویمیت، وهو الّذی یدعوه لدفع البلاء وکشف الـضر وقضاء حوائجه و... ومن هو بهذه الصفات یکون واجب الوجود لامحالة. فالإله عند أهل هذا الاصطلاح هو الواجب الوجود؛ وکلمة التوحید تدلّ علی نفی کونه غیر الله، وکونه هو الله.

وعند من لا یعرف مثل هذا الاصطلاح ولا یسمّی الله تعالی إلّا بما أسماه هو نفسه وذاته به یکون مدلول لفظ «الإله» وما بمعناه من سائر اللغات هو الذات المتًصف بهذه الصفات: المحیی والممیت والرازق والمنجی والسمیع والمجیب والقادر والرحمان والرحیم، فلا إله إلّا الله أی لا أحد موصوفاً بهذه الصفات إلّا الله، فتدبّر. [منه دام ظلّه العالی].

([9]) قال السیوطی فی شرحه علی ألفیة ابن مالك ، ص70: «وذهب سیبویه والخلیل إلی أنّها تعمل فی الاسم خاصّة ولا خبر لها... وشاع عند الحجازیین إسقاط الخبر أی حذفه إذ المراد مع سقوطه ظهر... وبنو تمیم یوجبون حذفه، فإن لم یظهر المراد لم یجب الحذف عند أحد...».

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: