پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الأمر الثالث:
تقسیم حالات المکلّف إلى القطع وغیره

قد ظهر لك ممّا ذكر: أنّ ما هو المشهور من أنّ الحكم الظاهری هو الحكم الّذی یكون موضوعه الشكّ فی الحكم الواقعی.

لیس فی محلّه؛ لأنّه یلزم منه إمكان أن تكون للحكم الظاهری نفسیة واستقلال، وأن لا تكون رعایة للحكم الواقعی، وهو خلاف التحقیق. مع أنّ جعل الحكم الظاهری لا یكاد یصحّ إلّا فی مورد یكون الخطاب المتكفّل للحكم الواقعی قاصراً عن بعث المکلّف أو زجره، فلا یكون الشكّ موضوعاً للحكم الظاهری إلّا إذا كان لازماً لشأنیة الحكم‏ الواقعی وقصوره عن‏ البعث والزجر من ‏جهة عدم ‏علم ‏العبد به.

ففی الحقیقة: یكون موضوع الحكم الظاهری شأنیة الحكم الواقعی وقصوره فی إیجابه لانبعاث العبد، وهذا وإن كان ملازماً للشكّ فی الحكم الواقعی لعدم قصور الخطاب إلّا فی صورة الشكّ فی الحكم الواقعی دون صورة العلم به ـ كما مرّ ـ ولكن موضوع الحكم الظاهری لیس إلّا شأنیّة الحكم الواقعی.

وبعبارة اُخرى: الشكّ فی الحكم الواقعی لازمٌ أعمّ لشأنیة الحكم وقصور الخطاب. فربما نشكّ فی الحكم الواقعی وهو موجود شأناً، وربما نشكّ فیه من غیر أن یكون حكم فی البین أصلاً، وقصور الخطاب إنّما یكون فی الصورة الاُولى، وهو الموضوع للحكم الظاهری لهذه الصورة دون الثانیة.

 

وكیف كان إذا عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الشیخ& أفاد فی أوّل الرسالة بأنّ المکلّف إذا التفت إلى حكمٍ شرعیٍ، فإمّا أن یحصل له القطع أو الشكّ أو الظنّ.([1]) وبیّن حكم القطع فی المقصد الأوّل. وأشار إلى حكم الشكّ هنا، وذكره مفصّلاً فی المقصد الثالث. ولم یتعرّض فی هذا المقام لحكم الظنّ وذكره فی المقصد الثانی مفصّلاً.

وقد أشكل المحقّق الخراسانی+ على تثلیثه الأقسام بتداخل الظن والشك بحسب الحكم.

أمّا دخول الشكّ فی الظنّ، كما إذا اعتبر مثلاً خبر من لم یتحرّز عن الكذب غالباً من جهة حكایته، فلا یبقى معه مجالٌ للرجوع إلى الأصل أصلاً.

وأمّا دخول الظنّ فی الشكّ، كما فی صورة حصول الظنّ الّذی لا یساعد على اعتباره دلیلٌ، فیلحقه ما للشكّ من الرجوع فی مورده إلى الاُصول.

ولهذا عدل عنه وقال فی الكفایة: «إنّ البالغ الّذی وضع علیه القلم إذا التفت إلى حكمٍ فعلیّ واقعیٍّ أو ظاهریٍّ متعلّقٍ به أو بمقلّدیه فإمّا أن یحصل له القطع به أو لا... إلخ».([2])

وعبر بالحكم الفعلی لإخراج ما لیس بفعلیٍّ كالحكم الاقتضائی أو الإنشائی. وبالواقعیّ والظاهریّ لتقریب المسافة وتمهیداً لتثنیة الأقسام.

ثم قال: «وإن أبیت إلّا عن ذلك، فالأولى أن یقال: إنّ المکلّف إمّا أن یحصل له القطع أو لا، وعلى الثانی إمّا أن یقوم عنده طریقٌ معتبرٌ أو لا».([3])

هذا، مضافاً إلى أنّ لازم ما أفاده الشیخ+ كون التقسیم خماسیاً، فإنّ فی صورة

 

الظنّ إمّا أن یقوم عنده دلیلٌ على اعتباره أو لا، فیرجع حكمه إلى حكم الشكّ، وفی صورة الشكّ إمّا أن یكون شكّه من الشكوك الّتی فی مورده حكم للشارع أو لا؟

وقد أجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأنّ تثلیث الأقسام إنّما هو باعتبار الحالات النفسانیة واختلافها من حیث المنجزّیة؛ فإنّ القطع منجّزٌ صرفٌ، والشكّ غیر منجّز صرفٍ، والظنّ لا منجّز ولا غیر منجّز، أی: هو برزخٌ بینهما.

وفیه أوّلاً: أنّه یأتی فیما بعد إن شاء الله إمكان عدم كون القطع منجّزاً فی بعض الموارد.

وثانیاً: أنّ اتّصاف الظنّ باللامنجزیة والمنجزیة وكونه برزخاً فی ذلك بین القطع والشكّ محلّ إنكارٍ؛ فإنّ الظنّ لو قام على اعتباره دلیل یكون منجّزاً كالقطع، وإلّا فلیس بمنجّزٍ ویكون حاله حال الشكّ.

أمّا الشكّ فهو أیضاً یمكن أن یكون منجّزاً كالقطع، كما فی صورة احتمال أن یكون الغریق ابن المولى، فإنّ نفس هذا الاحتمال یكون منجّزاً أی موجباً لاستحقاق العقاب لو لم یعتنِ العبد به واتّفق كونه ابن المولى. ومثل احتمال صدق مدّعی النبوّة، فإنّ مجرّده منجّز وموجب لاستحقاق العقاب لتركه تصدیق النبیّ لو اتّفق صدق مدّعیها. ومثل احتمال بقاء الحالة السابقة، فإنّه یكون منجّزاً لاستحقاق العقاب على ترك التكلیف بحكم الشارع.

ولا نقول: إنّ الاحتمال كاشف عن الواقع، بل نقول: إنّ الشكّ فی مثل هذه الموارد منجّز للواقع عقلاً أو شرعاً.

هذا، ولكن یمكن الإشكال على ما أفاده فی الكفایة: بأنّ الحكم المتعلّق للقطع لابدّ وأن یكون صالحاً للتنجّز واستحقاق العقوبة على مخالفته؛ والحكم الظاهریّ لیس صالحاً له ـ كما أفاد أخیراً فی مجلس بحثه بأنّه لیس فی موارد الطرق والأمارات حكمٌ وجوبیٌ متعلّقٌ بالعمل بها، بل لیس مفادها إلّا جعل الحجّیة والمنجزّیة. ولو كان

 

المجعول حكماً وجوبیاً فهو طریقیٌ صرفٌ لا مجال لتنجّزه واستحقاق العقوبة على مخالفته بنفسه ـ .

فلا یستقیم هذا التقسیم (الثنائی) بحسب الظاهر، لأنّه إنّما یكون باعتبار منجّزیة القطع، مع أنّ الحكم الظاهریّ المقطوع به لا یتنجزّ بسبب القطع، ولیس فیه صلاحیة التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفته بنفسه.

وأمّا بیانه الآخر وهو تثلیث الأقسام، فلا إشكال فیه.

وإن شئت تثنیة الأقسام فقل: إنّ المکلّف إذا التفت (بالمعنى الّذی ذكرنا للالتفات) إلى حكمٍ شرعیٍّ إنشائیٍّ، فإمّا أن یكون للحكم منجّزٌ فی البین أو لا، وعلى الأوّل فسیأتی الكلام فی كونه موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفة التكلیف، وأنّه لا معنى لتنجّز الحكم إلّا استحقاق العقاب على مخالفته، وعلى الثانی المرجع هو البراءة .

ویدخل ـ  على هذا البیان ـ فی المنجِّز: القطع والأمارات المعتبرة والاحتمال والاستصحاب، فإنّه حكمٌ ظاهریٌ منجّز للتكلیف الّذی احتمله العبد فی ظرف وجود الحالة السابقة.

ویدخل فی القطع: الاشتغال والتخییر، لوجود العلم بالتكلیف الّذی یكون منجّزاً له فی موردهما.

ولتوضیح المقام نقول: إنّ المکلّف إمّا أن یتعلّق قطعه بحكمٍ تفصیلاً أو إجمالاً، سواءٌ كان إجماله من جهة نوع التكلیف مع العلم بأصله، كالعلم بأنّ هذا الفعل إمّا واجبٌ وإمّا حرامٌ، أم كان من جهة تردّده بین شیئین أو أشیاء مع معلومیة نوع التكلیف. وعلى کلّ حالٍ فإمّا أن یمكن فیه الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة والموافقة الاحتمالیة.

 

وإمّا أن لا یمكن الموافقة القطعیة ویمكن الموافقة الاحتمالیة والمخالفة القطعیة.

وإمّا أن لا یمكن إلّا الموافقة الاحتمالیة.

ففی الفرض الأوّل، ـ أی فرض إمكان الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة ـ یكون تعلّق العلم بالتكلیف المردّد بینهما موجباً لتنجّزه واستحقاق العقوبة على مخالفته، فلو ترك المکلّف أحد المشتبهین واتّفق مخالفة التكلیف المعلوم بالإجمال لكونه فی الطرف الّذی تركه فإنّه یستحقّ العقوبة على المخالفة ویكون كمن ترك کلّ واحد من المشتبهین.

واستحقاق العقوبة إنّما یكون على مخالفة هذا التكلیف الّذی تعلّق به العلم لا غیره. فلو فرض كون کلّ واحدٍ من المشتبهین متعلّقاً للحكم رأساً ولكنّ القطع تعلّق بأحدهما إجمالاً ولم یأت المکلّف إلّا بأحد المشتبهین فاتّفق وقوعه فی مخالفة التكلیف المعلوم بالإجمال استحقّ العقوبة علیه، وإن أتى بالتكلیف الّذی لم یتعلّق به علمه بإتیانه بالطرف الآخر، وكذا لو لم یأت فی هذا الفرض بأحد منهما لم یعاقب إلّا على مخالفة تكلیفٍ واحدٍ، وهو التكلیف المعلوم بالإجمال دون المجهول .

فعلى هذا، تكون أصالة الاشتغال ووجوب الاحتیاط ـ فیما أمكنت فیه الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة ـ منجّزة للتكلیف من جهة تعلّق القطع بالحكم المردّد بینهما وسببیته لتنجّز الحكم. وبعبارة اُخرى: وجود المنجّز ـ وهو العلم ـ یكون سبباً لتنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال، ولازمه وجوب الاحتیاط.

وأمّا الفرض الثانی، وهو ما أمكنت فیه المخالفة القطعیة والموافقة الاحتمالیة دون القطعیة، كما لو تردّد الوجوب بین صلاة الجمعة والظهر مع فرض عدم قدرته إلّا على الإتیان بإحداهما، فلو ترك کلّ واحدة منهما واتّفق مصادفة قطعه مع الواقع استحقّ العقوبة على المخالفة لتنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال بهذا النحو من التنجیز الّذی مقتضاه لزوم الإتیان بحكم العقل بإحداهما مع كونه مخیّراً فی الإتیان بأیّهما شاء إذا كان احتماله فی وجود التكلیف المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى کلا الطرفین على السواء. وأمّا إذا كان احتمال التكلیف فی أحد الطرفین أقوى وأرجح من الآخر فیدور الأمر بین

 

التعیین والتخییر والعقل یحكم بلزوم الإتیان بالطرف المظنون مصادفته للواقع، فیصیر ظنّه هذا موجباً لتنجز الواقع لو كان فی الطرف المظنون، فیستحق العقوبة على المخالفة لو أتى بالطرف المرجوح دون الراجح.

وأمّا الفرض الثالث ـ وهو عدم إمكان الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة ـ فلو كان احتمال مصادفة التكلیف فی أحد الطرفین أقوى من الآخر فالكلام هو ما ذكر فی الفرض الثانی.

ولو كان احتمالها فی کلّ واحدٍ منهما على السواء فالعقل یحكم بتخییر المکلّف بین ارتكاب الطرفین لكن لا بنحو الإلزام واللزوم كما كان فی التخییر المذكور فی الفرض الثانی لإمكان المخالفة القطعیة فیه، فكان المکلّف ملزماً بحكم العقل باختیار أحدهما، وأمّا فی هذا الفرض فلا مجال لإلزام العقل لدوران أمر المکلّف مدار الفعل والترك فلا یحكم العقل إلّا بعدم استحقاق العقاب عند مخالفة التكلیف، ففی الحقیقة حكم العقل إنّما هو البراءة عن العقاب وقبح التوبیخ والعتاب. ولهذا قلنا: إن لم یكن منجّز فی البین یكون المرجع هو البراءة ولم نذكر التخییر.

وقد ظهر ممّا ذكرناه إشكالٌ آخر على عبارة الرسائل فی قوله: «فالمرجع فیه هی القواعد الشرعیة الثابتة للشاكّ»،([4]) فإنّ هذه القواعد ـ غیر الاستصحاب الّذی هو حكمٌ ظاهریٌ منجّز شرعاً للحكم الـشرعی ـ لیست إلّا من القواعد العقلیة؛ إذ الاشتغال والتخییر من أحكام العقل والبراءة أیضاً كذلك، كما سیجیء إن شاء الله‏ تعالى.

إذا عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الكلام یقع فی مقامین.

 

 

([1])  تقدّم تخریجه آنفاً.

(2) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص5.

([3]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج2، ص5.

([4])  الأنصاری، فرائد الاُصول، ص2.

موضوع: 
نويسنده: