شنبه: 1/ارد/1403 (السبت: 11/شوال/1445)

الأمر الرابع: فی استدلال ابن قبة للامتناع

فی بیان ما قیل أو یمكن أن یقال فی استحالة التعبّد بخبر الواحد وغیره من الأمارات بل وغیرها من الأحكام الظاهریة. والجواب عنه.

 

فاعلم: أنّه قد حكى عن ابن قبة الاستدلال على عدم جواز التعبّد بخبـر الواحد بوجهین.([1])

الأوّل: أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد فی الإخبار عن النبی| لجاز التعبّد به فی الإخبار عن الله تعالى، والتالی باطل إجماعاً.

وهذا كما ترى قیاس استثنائی مركّب من شرطیة متّصلة وحملیة، حكم فیها ببطلان التالی وهو: أنّه لا یجوز فی الإخبار عن الله تعالى، فالإخبار عن النبیّ مثله. واستدلّ لبطلان التالی بالإجماع.

والّذی ینبغی أن یقال فیه: إنّ المراد بجواز التعبّد بالإخبار عن الله‏ تعالى إن كان جواز تصدیق المتنبّی ولو لم یظهر لإثبات نبوّته بیّنة وآیة، فهذا أمر بطلانه ثابت بحكم العقل واتّفاق العقلاء، ولا معنى للتمسّك بالإجماع لإثبات بطلانه إلّا أنّ الملازمة بین المقدّم والتالی محلّ الإنكار لعدم كونهما من باب واحد وعدم مناسبة وارتباط بینهما، فإنّ المدّعی فی باب حجّیة خبر الواحد جواز التعبّد بالخبر مع الدلیل لا بدون الدلیل حتى یدّعی الملازمة.

وإن كان المراد من جواز التعبّد فی الإخبار عن الله تعالى جوازه مع قیام الدلیل علیه، كما لو أخبر النبیّ| ـ الّذی ثبتت نبوّته بالمعجزة والآیة ـ بوجوب تصدیق المتنبّی فی إخباره عن الله تعالى، فلا یبعد جوازه ولا مجال لدعوى الإجماع على بطلانه.

ویظهر من المحقّق الخراسانی+ فی الحاشیة أنّ المراد بالإخبار عن الله‏ تعالى ـ المذكور فی التالی ـ لیس إخبار المتنبّی، بل المراد أنّه لو جاز التعبّد بالخبر عن النبیّ لجاز

 

التعبّد به عن الله، كما إذا قال النبیّ|: كلّما أخبر سلمان عن الله تعالى، فاعملوا به. ولذا قال لا مانع منه ولا دلیل على امتناعه، ولكن لا دلیل على وقوعه.([2])

ولكنّ الظاهر أنّ المراد ما ذكرناه، لأنّ ابن قبة كان من علماء العامّة ثم استبصـر وصار من الخاصّة، وبعید أن یكون مراد مثله ما زعمه+.

الوجه الثانی: أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحلیل الحرام وتحریم الحلال إذ لا یؤمن أن یكون ما أخبر بحلّیته حراماً وبالعكس.

والّذی ینبغی أن یقال فی تقریر هذا الدلیل وتشریحه: إنّ القائل بجواز التعبّد بخبر الواحد أو الأمارة أو أحد طرفی الشكّ إمّا أن یقول بأنّه لیس لله تعالى أحكامٌ متعلّقة بالأشیاء بعناوینها الأوّلیة یشترك فیها العالم والجاهل أو لا، والأوّل هو التصویب المجمع على بطلانه، مضافاً إلى دلالة الأخبار المتواترة علیه، وعلى الثانی فإمّا أن یقول بأنّ حكم الله تعالى وإن كان بالنسبة إلى العالم والجاهل سواء، إلّا أنّ قیام الأمارة یكون سبباً لتغیّر الحكم عمّا هو علیه وارتفاعه، أو لا یقول بذلك، والأوّل هو التصویب الانقلابی، وهو وإن كان دون الأوّل فی الفساد، إلّا أنّ الإجماع أیضاً قائم على بطلانه مع دلالة الأخبار المتواترة علیه، وعلى الثانی (وهو القول بأنّ لله تعالى أحكاماً متعلّقة بالأشیاء بعناوینها الأوّلیة یشترك فیها العالم والجاهل من غیر فرق بین قیام الأمارة على طبقها أو على خلافها، وعِلم المکلّف وجهله بها) یلزم من التعبّد بالأمارة أو أحد طرفی الشكّ إمّا محذور اجتماع المثلین لو كان الحكم الظاهری موافقاً للواقع، وهو محال، وإمّا محذور اجتماع الضدّین فی صورة مخالفة الحكم الظاهری مع الواقعی، والتكلیف بالمحال لو كان الحكم الواقعی واجباً والظاهریّ حراماً مثلاً، وتفویت

 

المصلحة الملزمة لو أدّت الأمارة إلى حرمة ما هو واجب واقعاً، والإلقاء فی المفسدة لو أدّت إلى وجوب ما هو حرام واقعاً.

هذا، مضافاً إلى أنّ الأحكام ظاهریة كانت أم واقعیة إنّما هی تابعة للملاكات والمصالح، فالواجب الواقعی إنّما وجب بملاحظة وجود مصلحة ملزمة فیه، والحرام الواقعی إنّما حرم لوجود مفسدة شدیدة فیه، فلو أدّت الأمارة إلى حرمة الواجب الواقعی، فإمّا أن تكون حرمته بعد قیام الأمارة علیها بلا ملاك، أو تكون مع الملاك من جهة وجود المفسدة الشدیدة، وعلى الثانی فالمصلحة الملزمة المؤثّرة فی الحكم الواقعی ـ وهو الوجوب ـ إمّا أن تكون مغلوبةً لهذه المفسدة بحیث تؤثّر هذه المفسدة فی رفع أثر المصلحة فی الوجوب، فلا مجال لكون الفعل محكوماً بالوجوب واقعاً، بل هو حرام ظاهراً وواقعاً، وإن كان بالعكس فلا مجال لكون الفعل حراماً ظاهراً، بل هو واجب ظاهراً وواقعاً، وإن لم تكن لأحدهما غلبة على الآخر، بل كان الملاكان على السواء من غیر تفاوت بینهما، فلا وجه للحكم بالوجوب والحرمة.

وكیف كان، فلا یكاد یفهم معنى معقول للحكم الظاهری مع محفوظیة الحكم الواقعی وكونه بحاله.

إذا عرفت حقیقة هذا الاستدلال فاعلم: أنّه بعد ما بیّنا فی مبحث اجتماع الأمر والنهی([3]) وغیره من المباحث السابقة من عدم كون الحكم عارضاً لفعل المکلّف وعدم كون معروضه الفعل الخارجی، بل إنّما هو عرض یقوم بنفس المولى قیاماً صدوریاً؛ لأنّه لو كان عارضاً لفعل المکلّف للزم وجود العرض قبل المعروض، فإنّ الحكم موجود قبل صدور الفعل عن المکلّف. ولا اعتناء بما قیل من لزوم محذور اجتماع

 

المثلین فی صورة إصابة الأمارة، لعدم استلزام أداء الأمارة إلى ما كان موافقاً للواقع لاجتماع المثلین أصلاً.

فما هو المهمّ من المحاذیر المذكورة لیس إلّا محذور اجتماع الضدّین، ومحذور اجتماع تمامیة ملاك الحرمة مثلاً مع تمامیة ملاك الوجوب إذا قامت الأمارة على حرمة ما یكون واجباً واقعاً، فنقول بعون الله تعالى:

أمّا الجواب عن محذور لزوم اجتماع الملاكین بناءً على الوجهین المذكورین فی کلام الشیخ+،([4]) ـ وهو كون الملاك فی باب حجّیة الأمارات والتعبّد بها راجعاً إلى كونها طرقاً محضة، وعدم كون مصلحة فی حجّیتها إلّا حفظ مصلحة الواقع ورعایتها ؛ لأنّه لیس فی باب التعبّد بالأمارات وجعل حجّیتها تأسیساً من الشارع ـ فأظهر الأمارات وأوضحها الظواهر وخبر الواحد، مع أنّا لو تأمّلنا فی جمیع ما استدلّوا به على حجّیة الخبر مثلاً لوجدناه خالیاً عن تأسیس ذلك، بل لیس فیه إلّا ما یدلّ على ردع الشارع عن بعض الموارد، ویفهم من هذه الأدلّة كآیة النبأ([5]) وجود العمل على طبق الأمارة وبناء الناس واستقرار سیرتهم علیه، وإنّما ردع الشارع عنه فیما إذا كان المخبِر مثلاً فاسقاً، فحجّیة الأمارة لیس إلّا من جهة إمضاء الشارع ما علیه البناء وعمل العقلاء، ومن الواضح أنّ عملهم به لیس إلّا لمجرّد كونه طریقاً إلى الواقع.

فالشارع حیث لم یرد انبعاث الجاهل من الخطاب، لأجل عدم إمكان انبعاثه منه وقصوره عن ذلك؛ فإنّ الانبعاث مشروط بالوصول فمع عدم وصول الحكم إلى المکلّف لا یرید الحاكم انبعاثه منه ـ ولیس معنى ذلك تقیید الحكم بصورة العلم، لأنّ علم المکلّف بالحكم متأخّر عن الحكم، فلا یمكن أن یكون الحكم مقیّداً به ـ فالحكم

 

ینشأ مطلقاً ـ ومعنى إطلاق عدم لحاظ علم العبد وجهله به فی مقام إنشائه، لا ملاحظة إطلاقه بالنسبة إلى العالم والجاهل ـ فلابدّ للمولى الّذی یرید إیصال عبده إلى المصالح الواقعیة وحفظه عن الوقوع فی المفاسد الواقعیة من جعل حكم وإنشاء خطاب آخر كإیجاب العمل بالاحتیاط أو العمل بخبر الواحد ـ إذا كان فی العمل بالاحتیاط عسـر، وهذا إنّما یصحّ فیما إذا كانت إصابة الأمارة بنظر الشارع أغلب من غیرها، لأنّ فی صورة كون غیرها كذلك یكون جعل الأمارة قبیحاً، وفی صورة تساوی الطرفین یكون لغواً، وحیث إنّه لیست فی إیجابه العمل بالخبر مثلاً مصلحة إلّا إیصال المکلّف إلى المصالح الواقعیة، ففی صورة الإصابة لیس الحكم إلّا الحكم الواقعی، وفیما أخطأ لا یكون حكماً حقیقیاً فی البین بل یكون صوریاً، ولمّا لم یتمكّن المکلّف من التفرقة والتمییز بین الأمارة المصیبة وبین غیرها فلابدّ من جعلها طریقاً مطلقاً حتى فی صورة عدم الإصابة، إلّا أنّه فی هذه الصورة لیس جعلاً وحكماً واقعیاً بل یكون صوریاً محضاً، ولیس له ملاك أصلاً. نعم، یكون له ملاك بحسب أصل الجعل الّذی تعلّق بالأمارة، فهو باعتبار بلا ملاك، وباعتبار آخر ذو ملاك. وكیف كان، لیس فیه ملاك الحرمة فی صورة الخطأ إذا أدّت إلى الحرمة، وملاك الوجوب إذا أدّت إلى الوجوب أصلاً.

وممّا ذكرنا ظهر: دفع إشكال لزوم تفویت المصلحة والإلقاء فی المفسدة؛ فإنّ المصلحة إنّما تفوت لأجل جهل المکلّف بالواقع وكذا الوقوع فی المفسدة، ولا دخل لجعل الأمارة وعدمه فی ذلك.([6]) مضافاً إلى أنّه لا مانع من جلب الخیر الكثیر إذا كان مجامعاً ومستلزماً للشرّ القلیل.

إن قلت: إنّ هذا إنّما یتمّ لو قلنا بانسداد باب العلم، وأمّا فی صورة الانفتاح فلا.

 

قلت: فرق بین انفتاح باب الجزم وانفتاح باب العلم بالواقع، فیمكن أن یرى العبد انفتاح باب علمه بالواقع مع كون علمه هذا جهلاً مركباً، ولا مانع من جعل الطریق بعد ما یرى المولى عدم إصابة علم عبده وكونه جهلاً مركّباً مطلقاً أو فی أغلب الموارد.

هذا کلّه إذا قلنا فی باب الطرق والأمارات بالطریقیة المحضة، كما هو أحد الوجهین المذكورین فی کلام الشیخ+.

وأمّا على القول بالموضوعیة والسببیة: فإن اُرید منه أنّ أداء الأمارة یوجب حدوث مصلحة فی المؤدّی مع عدم كونه فی الواقع ذا مصلحة ومفسدة، حتى یكون الحكم مطلقاً تابعاً للأمارة، بحیث لا یكون فی حقّ الجاهل مع قطع النظر عن الأمارة حكم، فهو تصویب باطل عقلاً ونقلاً وإجماعاً.([7])

وإن اُرید منه أنّ لله تعالى أحكاماً مشتركة بین العالم والجاهل، ولكن بسبب قیام الأمارة على خلافها تحدث فی الفعل مفسدة غالبة على مصلحة الواقع، أو مصلحة غالبة على المفسدة الواقعیة، حتى یكون مرجعه إلى تغییر الحكم الواقعی عمّا هو علیه بسبب قیام الأمارة على خلافه، فهو أیضاً تصویب باطل بالإجماع والروایات المتواترة.

ولو اُرید منه أنّ قیام الأمارة لا یصیر سبباً لتغییر الواقع، ولا یكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثیر فی الفعل، ولا توجب حدوث مصلحة فیه، ولا یكون نفس سلوك الطریق والعمل بالأمارة مشتملاً على مصلحة موجبة لإیجاب الشارع العمل على طبقها لیكون ملاك جعل الأمارة المصلحة السلوكیة، بل المصلحة إنّما هی فی نفس الأمر بالسلوك والعمل على طبق الطریق والأمارة، كما هو المذكور فی بعض نسخ

 

«الفرائد» المطبوع قرب وفاة الشیخ+([8]) واختاره المحقّق الخراسانی+ فی الكفایة([9]) بزعم عدم ابتناء الأحكام على المصالح فی المأمور بها وكفایة وجود المصلحة فی نفس الأمر، وعدم خروج ذلك عمّا استقرّ علیه رأی أهل العدل من ابتناء الأحكام على المصالح والمفاسد النفس الأمریة.

ففیه: أنّا لا نتصوّر وجود المصلحة فی نفس الأمر مع عدم وجودها فی المأمور به؛ لأنّه لا یمكن تحقّق الأمر والنهی من دون وجود مصلحة فی المأمور به، فالأمر إنّما یصدر لأجل التسبّب إلى وقوع المأمور به وانبعاث المکلّف نحوه وحصوله فی الخارج، ولیست له نفسیة واستقلال، بل وجوده لا یكون إلّا آلة وتبعاً لوجود المأمور به. ولو فرض استقلاله وعدم لحاظه كذلك، فهو خارج عن حقیقة الأمر والبعث. ولا تفاوت بین الأمر والنهی والإرادة والكراهة، فكما أنّ الإرادة لا نفسیة لها ولا استقلال، ولیست تلحظ إلّا بتبع المراد، ولو فرض استقلالها وملاحظتها مستقلّة لخرجت عن كونها إرادة، كذلك الأمر  لا نفسیة له ولا استقلال، لأنّه متفرّع على إرادة وقوع المأمور به فی الخارج ویصدر للتسبیب له، فلو صدر لغیر هذا یخرج عن كونه أمراً.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو سلّم ذلك فلا تتدارك بهذه المصلحة، المصلحة الفائتة على المکلّف، ولا معنى لتداركها بها.

نعم، لا مانع من أن یقال بأنّها توجب تدارك المفسدة المترتّبة على نفس هذا الأمر بالسلوك، لكونه سبباً لتفویت الواقع أو وقوع المکلّف فی مفسدة الحرام الواقعی،

 

فیتحقّق الكسر والانكسار بین هذه المصلحة وتلك المفسدة ویترجّح جانب المصلحة لكونها أقوى.

وإن كان المراد من القول بالموضوعیة أنّ الأمارة لا توجب تغییر الواقع، بل هو على حاله إلّا أنّ المصلحة إنّما تكون فی سلوك الطریق المجعول، ویكون نفس العمل بالأمارة مشتملاً على مصلحة موجبة لإیجاب الشارع العمل على وفقها، كما هو المذكور فی بعض نسخ الفرائد المطبوع أوّلاً، وإن كان قد نقل عنه بعض تلامذته& رجوعه عن هذا الوجه ـ لما أورد علیه بعض تلامذته ـ واختیاره إمكان كون المصلحة فی نفس الأمر بالسلوك، كما هو المذكور فی بعض نسخه المطبوعة فی سنة (1280).

وكیف كان، ففیه: أنّه لیس السلوك الّذی تترتّب علیه المصلحة خارجاً غیر العمل على طبق الأمارة وإتیان مؤدّاها، فالمصلحة تترتّب على المؤدّى لا بما أنّه مؤدّى، بل بما أنّه سلوك الطریق والعمل على طبق الأمارة، وهذا یرجع إلى الوجه الثانی.

 

([1]) انظر الوجهین فی فرائد الاُصول (الأنصاری، ص 24) ؛ ومعارج الاُصول (العلّامة الحلّی، ص141)، وقد حكیا عن الجبّائی أیضاً، كما فی فواتح الرحموت المطبوع فی ذیل المستصفى من علم الاُصول (بحر العلوم، ج2، ص131).

([2]) الخراسانی، حاشیة كتاب فرائد الاُصول، ص33.

([3]) تقدّم فی المجلّد الأوّل، الصفحة 266.

([4]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص25 - 26.

([5]) الحجرات،  6.

([6]) فیه تأمّل. [منه دام ظلّه العالی].

([7]) الطوسی، العدّة فی اُصول الفقه، ج2، ص723 - 725؛ الشهید الثانی، تمهید القواعد، ص322.

([8]) حوالی سنة 1280 - 1281 هـ .

([9]) قال فی الكفایة (الخراسانی، ج2، ص111): «... هذا، مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد فی المأمور بها والمنهیّ عنها، بل إنّما هی تابعة لمصالح فیها، كما حقّقناه فی بعض فوائدنا».

وانظر: فوائد الاُصول له+ (ص 129، الفائدة 14 فی الملازمة بین العقل والشـرع)؛ وحاشیته على فرائد الاُصول (ص37).

موضوع: 
نويسنده: