پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الأمر الخامس: فی تأسیس الأصل فیما لا یعلم حجّیته

إعلم: أنّ بعد إثبات إمكان التعبّد بغیر العلم، ودفع الشبهات المتصوّرة فی المقام، وبیان الجمع بین الحكم الظاهریّ والواقعی، یقع الكلام فی وقوعه فی الأحكام الشـرعیة وعدمه، ولابدّ قبل الورود فی المطلب من تأسیس الأصل حتى یكون هو المعوّل علیه عند الشكّ وفقد الدلیل على وقوع التعبّد بغیر العلم، فنقول:

احتجّ الشیخ+ على حرمة التعبّد والاستناد قولاً أو عملاً بالظن الّذی لم یقم على التعبّد به دلیل بالأدلّة الأربعة.

قال: ویكفی من الكتاب قوله تعالى: ﴿قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ‏ ([1]) دلّ على أنّ ما لیس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشرع فهو افتراء.

 

ومن السنّة قوله× فی عداد القضاة من أهل النار: «وَرَجُلٌ قَضـى بِالْـحَقِّ وَهُوَ لَا یَعْلَم».([2])

ومن الإجماع ما ادّعاه الفرید البهبهانی فی بعض رسائله من كون عدم الجواز بدیهیّاً عند العوام، فضلاً عن العلماء.

ومن العقل تقبیح العقلاء من یتكلّف من قبل مولاه بما لا یعلم بوروده عن المولى ولو كان عن جهل مع التقصیر.

نعم، قد یتوهّم متوهمٌ أنّ الاحتیاط من هذا القبیل، وهو غلط واضح؛ إذ فرق بین الالتزام بشیء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه، وبین الالتزام بإتیانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه، وشتّان ما بینهما، لأنّ العقل یستقل بقبح الأوّل وحسن الثانی.

والحاصل: أنّ المحرم هو العمل بغیر العلم متعبّداً به متدیّناً به.([3]) انتهى کلامه+.

وأورد علیه المحقّق الخراسانی+ بعدم ارتباط حرمة الالتزام بما یؤدّی إلیه الظنّ من الأحكام ونسبته إلیه تعالى بالمقام؛ لأنّ المقام واقع فی حجّیة الظنّ وغیره كأحد طرفی الشكّ وعدمها ولیس بینها وبین صحّة الالتزام والاستناد ملازمة، فإنّ من الممكن أن یكون الظنّ حجّة مع عدم صحّة الالتزام والاستناد بمؤدّاه بأنّه حكم الله‏ تعالى، كحجّیة الظنّ على تقریر الحكومة فی حال الانسداد. كما أنّه لا مانع من عدم حجّیته وصحّة الالتزام والاستناد إلیه تعالى إذا دلّ علیها دلیل.([4])

 

فالّذی ینبغی أن یقال فی مقام تأسیس الأصل: إنّ الآثار المرغوبة من الحجّة، بل ما یكون منشأً لانتزاع الحجّیة ككون شیءٍ منجّزاً للواقع فیما أصاب وعذراً فیما أخطأ، لا یتحقّق إلّا فی ظرف العلم بالحجّیة وإحراز جعله حجّة وطریقاً مثبتاً، وإلّا فمع عدم العلم وعدم اتّصافه بالحجّیة فعلاً لا تكاد تترتّب علیه الآثار المرغوبة، بل لا یتّصف بالحجّیة لكون هذه الآثار منشأً لانتزاعها. ولو فرض جعله حجّة فی الواقع، فالأصل یقتضی عدم حجّیة ما شكّ فی اعتباره بالخصوص شرعاً ولم یحرز التعبّد به واقعاً.

ولیس هذا أصلاً من الاُصول المعروفة، بل المراد عدم كونه حجّة جزماً ووجداناً، لحكم العقل بعدم حجّیته عند الشكّ.

ولا یخفى: أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانی+ حقّ، ولا اعتناء بما قد استشكل علیه بأنّ دخل العلم بحجّیة شیء فی حجّیته مستلزم للمحال، للزوم تقدّم الحجّیة على العلم بها وتأخّرها عنه.

لأنّه یمكن أن یقال فی جوابه: بأنّ الحجّیة تكون مثل الإیقاعات كالطلاق والعتاق، فإنّ الطلاق بوجوده الاعتباری الّذی یعتبره جمیع العقلاء ویرتّبون علیه الآثار الخاصّة لا یتحقّق إلّا بعد تحقّق شرائطه مع أنّه موجود فی ذهن المطلق واعتباره، ویعتبره هو قبل أن یعتبره العقلاء منشأً للآثار الخاصّة، إلّا أنّ العقلاء لا یعتبرونه إلّا بعد إنشائه وتحقّق سائر شرائطه.

فعلى هذا، نقول: وجود الحجّیة یكون مقدّماً على العلم بها فی اعتبار جاعلها، ولكن ترتّب الآثار واعتبار وجودها عند جمیع العقلاء بحیث یعاملون معها معاملة الحجّة موقوف على العلم بها ویكون متأخّراً عنه.

هذا لو قلنا بأنّ الحجّیة قابلة للجعل، أمّا لو لم نقل به فالجواب سهلٌ، وسیجیء الكلام فیه إن شاء الله فی مبحث حجّیة الظواهر.

 

 

 

([1]) یونس، 59.

لا یخفى علیك، أنّ الآیات فی هذا المعنى كثیرة، كقوله تعالى: ﴿وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّمَا یَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ‏﴾ (البقرة، 168 169). ومثل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ الله الّتی...﴾ الآیة، إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ‏ِ مَا لَا تَعْلَمُونِ﴾  (الأعراف، 32 33). ویمكن أن یقال: إنّ الآیات القرآنیة المذكورة لیست فی مقام إنشاء الحكم، ولا یستفاد منها أنّ التعبّد بغیر العلم محرّم شرعاً كسائر المحرّمات الشرعیّة، بل الآیات إنّما تكون مسوقة للإرشاد إلى ما هو المرتكز فی الأذهان من قبح التعبّد والالتزام بما لم یعلم كونه من قبل الله تعالى من غیر فرق بین الالتزام القولی والعملی، فإنّ الثانی أیضاً إذا كان على سبیل الالتزام والتعبّد یكون حاكیاً عنه.

ولا یرد على ما ذكر كون أكثر هذه الآیات فی مقام المحاجّة مع الكفّار، فإنّ ملاك الاحتجاج فیها استقلال العقل بقبح إسناد ما لم یعلم أنّه من جانب المولى إلیه، فكلّها إرشاد إلى حكم العقل، كما لا یخفى. [منه دام ظلّه العالی] .

([2]) الحدیث مرویّ عن الصادق× قال:«القضاة أربعة، ثلاثة فی النار، وواحد فی الجنّة: رجلٌ قضـى بجورٍ وهو یعلم به فهو فی النار، ورجلٌ قضى بجورٍ وهو لایعلم فهو فی النار، ورجلٌ قضى بالحقّ وهو لا یعلم فهو فی النار، ورجلٌ قضـى بالحقّ وهو یعلم فهو فی الجنّة». الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضی، ج27، ص22، ب4، ح6. [منه دام ظله العالی].

([3]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص30 - 31.

([4]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص55 - 58. راجع أیضاً حاشیته على فرائد الاُصول (ص41)؛ ودرر الفوائد (ج2، ص28).

موضوع: 
نويسنده: