پنجشنبه: 30/فرو/1403 (الخميس: 9/شوال/1445)

حجّیة الظواهر لیست ذاتیة

ثم إنّ الظاهر أنّ ملاك حكم العقل واتّفاق العقلاء على حجّیة ظواهر الخطابات الصادرة من الموالی إلى العبید لتحریكهم أو زجرهم لیس ذات الظاهر حتى یكون باب حجّیة الظواهر كباب القطع فی كون حجّیته ذاتیة، بل ما هو المقتضـی لذلك فی مقام الثبوت وتمام الملاك: ما یرى العقل من احتیاج الإنسان فی حیاته الاجتماعیة ونظم اُمور معاشه ومعاده إلى تفهیم مقاصده لغیره، وتفهّم مرادات غیره، مع عدم وجود طریق یكون وافیاً لذلك عادة إلّا التلفّظ بالألفاظ والتكلّم، فالعقل مع انسداد الطریق وانحصاره فی ظواهر الألفاظ وعدم اتّخاذ المولى طریقة خاصّة لتفهیم مراداته یحكم بحجّیة ظاهر کلامه.

وكیف كان، فلا ریب ولا خلاف فی حجّیة الظواهر الصادرة من الموالی لتحریك العبید أو زجرهم عند العقلاء، وعلیها اتفاق عقولهم.

كما أنّه لا ریب فی عدم اعتنائهم باحتمال كون المتکلّم ساهیاً أو غافلاً أو لاغیاً، أو احتمال إرادة المتکلّم ترتّب غایة اُخرى على فعله غیر ما هو غایته بحسب المتعارف؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حمل الفعل الصادر من العاقل المختار على صدوره مع الالتفات، ولأجل ترتّب فائدته علیه.

كما أنّهم لا یعتنون باحتمال احتفاف الكلام بما یوجب صرفه إلى غیر معناه الظاهر

 

فیه، أو بما یوجب طروّ الإجمال، أو احتمال  كونه فی مقام الإجمال والإهمال مع القطع بعدم وجود القرینة الصارفة.

ولا فائدة فی البحث عن رجوع الاُصول الجاریة فی هذه الموارد إلى الاُصول العدمیة كأصالة عدم وجود قرینة دالّة على عدم إرادة المتكلّم المعنى الحقیقی؛ أو إلى الاُصول الوجودیة كأصالة الظهور، وهی عبارة عن بنائهم على اتّباع الظاهر عند تطرّق جمیع هذه الاحتمالات.

إنّما الخلاف واقع فی مقامین:

أحدهما: التفصیل بین من قصد إفهامه وغیره

ذهب بعض إلى اختصاص حجّیة الظواهر بمن قصد إفهامه دون غیره.

ووجهه احتمال أن یكون بین المتکلّم والمقصود بالإفهام قرائن معهودة اتّكل علیها المتکلّم فی مقام التخاطب.

ولا فرق فی ذلك التفصیل بین كون غیر من قصد إفهامه شریكاً مع المقصود بالإفهام فی التكلیف، وبین عدم كونه كذلك.

وهذا الوجه هو مختار المحقّق القمّی+([1]) ونسب إلى ظاهر كلام صاحب المعالم+. وقد بنى علیه حجّیة الظنّ المطلق، لأنّه بعد البناء على اختصاص حجّیتها بمن قصد إفهامه مع كون أكثر أدلّة الفقه بل جلّها ظواهر ألفاظ القرآن العظیم والروایات والأحادیث الواردة عن أهله^ ینسدّ باب العلم والعلمی إلى الأحكام، فنحتاج إلى إجراء دلیل الانسداد لإثبات حجّیة الظواهر.([2])

 

وأمّا ما توهّم بعض من أنّ منشأ ذهاب المحقّق القمّی+ إلى القول بحجّیة الظنّ المطلق هو ضعف سند أكثر الروایات.

فلیس فی محلّه، لعدم عین ولا أثر من ذلك فی کلماته.

ثانیهما: مقالة الأخباریّین

اختار بعض إخواننا الأخبارییّن ـ رحمهم الله تعالى ـ عدم حجّیة ظواهر الكتاب بدون التفسیر عنهم^([3]) حرصا على التمسّك بالروایات والأخذ بما ورد عنهم علیهم الصلاة والسلام.

وسیأتی فی أنّ التمسّك بالكتاب العزیز لا یمنع من التمسّك بالأحادیث المرویة عن أهله^. ولا ینبغی لمسلم أن یرضى لنفسه بجعل الكتاب المبین ـ الّذی تقشعرّ منه جلود الّذین یخشون ربهم،([4]) وأنزله الله‏ على عبده لیكون للعالمین نذیراً([5]) ـ  كتاباً من الكتب الرمزیة، مع قیام ضرورة المسلمین واتّفاقهم على خلاف ذلك، ومع كون الروایات الشریفة الدالّة على فساد هذا التوهّم الضعیف أكثر من أن تحصى.

والحاصل: أنّ الخلاف وقع فی المقامین المذكورین.

توجیه الشیخ+ لتفصیل القمّی+

أمّا الكلام فی التفصیل المنسوب إلى المحقّق القمّی+، فنقول: إنّ الشیخ+ قد وجّه هذا التفصیل بأنّ الظاهر إنّما یكون حجّة إذا كان الكلام بحیث لو خلّی وطبعه مفیداً للظنّ النوعی بكون المراد ظاهره وما هو قالب له. وأمّا إذا لم یكن كذلك، فلا یكون حجّة عند العقلاء. والكلام الملقى لإرادة الإفهام والإفادة إنّما یكون كذلك ـ أی

 

موجباً للظنّ النوعی ـ لمن كان مقصوداً بالإفهام، لأنّه لیس فی البین ما یوجب التردّد فی حجّیته وكون الظاهر مراده إلّا احتمال غفلة المتکلّم عن نصب قرینة صارفة عمّا یكون اللفظ ظاهراً فیه وقالباً له، واحتمال غفلة المخاطب عن الالتفات إلى ما كان الكلام محفوفاً به من القرینة، ولا اعتناء بهما إمّا لوجود الظنّ بالخلاف أی بعدم الغفلة، أو عدم اعتناء العقلاء باحتمال الغفلة فی اُمورهم.

وأمّا إذا كان الشكّ فی الحجّیة وكون ظاهر اللفظ مراداً للمتكلّم لاحتمالات اُخرى، كاحتمال اختفاء القرینة المنفصلة ـ مع نصبها وعدم غفلة المقصود بالإفهام عنها ـ عن غیر المقصود بالإفهام لجهات موجبة للاختفاء، أو اتّكال المتکلّم على القرائن العقلیة والحالیة فی إفهام من قصد إفهامه، واحتمال اختفاء القرینة المتّصلة بسبب تقطیع الكلام، فلا یكون الظاهر حجّة، لعدم كون الظاهر بحیث لو خلّی وطبعه موجباً للظن النوعی بالمراد، إذ الكلام لیس بحیث یدفع ذلك الاحتمال. فإنّ الواجب على المتکلّم إلقاء الكلام على وجه یفی بإفهام مراده عند من قصد إفهامه، أمّا إلقاء الكلام على نحو لا یفهم مراده منه کلّ من سمع كلامه وحكی له، فلا یكون حجّة له لاحتمال اتّكال المتکلّم فی إفهام مراده على القرائن الحالیة أو المقالیة الّتی اختفت على غیر من قصد إفهامه، أو القرائن المتّصله مثل ما قال قبله أو بعده، أو احتمال كون الكلام بحیث لو نقل إلینا من أوّله إلى آخره كان وافیاً بمراد المتکلّم ولكن بعروض التقطیع صار ظاهره خلاف مراده.

ولا مجال لدفع هذه الاحتمالات بالتمسّك بأصالة العدم أو أصالة عدم القرینة، لعدم حجّیتها فی مثل المقام، لعدم حصول الظنّ بانتفائها فی مثل المقام.

اللّهمّ إلّا أن یدّعى كون أصالة عدم القرینة حجّة من باب التعبّد، ودون إثباتها خرط القتاد.([6])

 

إن قلت: نعم، لا یحصل الظنّ بانتفاء القرینة قبل الفحص عنها، وأمّا بعد الفحص وعدم وجدان القرینة فیحصل الظنّ بأنّ الظاهر هو المراد.

قلت: مضافاً إلى أنّه یمكن منع حصول الظنّ بالمراد، لا دلیل على حجّیة هذا الظنّ لو سلّمنا حصوله، لعدم كونه مستنداً إلى الكلام وكونه ظنّاً خارجیاً حاصلاً من الفحص، ولا دلیل على حجّیته بالخصوص.

ولا یخفى علیك: أنّه على هذا التوجیه یكون مقتضى التفصیل فی محل ابتلائنا ـ وهو ظاهر الكتاب والأخبار ـ القول بحجّیة کلّ ظاهر مقطوع كونه مراد المتکلّم، وعدم حجّیة غیره؛ لأنّ الفرض أنّ من قصد إفهامه لا یشكّ فی كون الظاهر مراد المتکلّم إمّا لاحتمال غفلة المتکلّم وهو مقطوع العدم فی محلّ الابتلاء، وإمّا لغفلة المخاطب وهو أیضاً مقطوع العدم، لأنّ المخاطب لا یكون غافلاً عن حال نفسه فإمّا یرى نفسه غافلاً فلا یكون الظاهر حجّة بالنسبة إلیه، وإمّا لا یرى نفسه غافلاً فیقطع بعدم اختفاء شیء ـ ممّا احتفّ بكلام المتکلّم ـ عنه.

 

([1]) القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص398.

([2]) العاملی، معالم الدین، ص192. وقد صرّح بذلك فی الصفحة 112. ونسبه إلیه الشیخ فی الفرائد، ص43.

([3]) انظر: هدایة الأبرار (الکرکی العاملی، ص162).

([4]) إشارة إلى الآیة 23 من سورة الزمر.

([5]) إشارة إلى الآیة 1من سورة الفرقان.

([6]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص41. وقد أجاب+ عن التفصیل المذكور، ص42. كما أجاب عنه المحقّق الخراسانی+ فی حاشیته على فرائد الاُصول (ص47).

موضوع: 
نويسنده: