جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الاستدلال بأخبار التحریف

إن قلت: لا مجال للتمسّك بظواهر الكتاب مع وقوع التحریف، للعلم الإجمالی

 

باحتفاف بعض الآیات الظاهرة فی معنى من المعانی بما یفید خلافه، أو وقوع بعض الزیادات المغیّرة للمعنى.

قلت: أمّا الزیادة، فالضرورة قائمة على خلافها، ولا أظنّ أحداً یلتزم بها.

وأمّا النقیصة، فربما یحتمل لما نقل عن بعض المؤرّخین من العامّة فی كیفیة جمع القرآن فی زمان خلافة أبی بكر بتوسّط زید بن ثابت، مع أنّ کلّ ما نقل عنهم هؤلاء لیس إلّا روایات مرسلة ضعیفة([1]).

ولما روی من أنّ أمیر المؤمنین× بعد وفاة الرسول| قال: «لا أضع ردائی حتى أجمع القرآن»، لأنّ رسول الله أمره بجمعه وأوصاه به»،([2]) وقد أتى به بعد جمعه إلى المسلمین، فلم یقبلوا منه وقالوا حسبنا ما عندنا، وقال×: «لا یظهر ذلك إلّا بعد خروج...» الحدیث.

ولبعض روایات اُخرى تقضی البدیهة بتأویلها أو طرحها لما فیها ممّا یخالف القطع والضرورة، كما فی بعضها من نقص ثلث القرآن، أو ربعه، أو نقص أربعین إسماً فی سورة «تبّت» منها أسماء جماعة من المنافقین.

ومن الوضوح أنّ ذلك مخالف لبدیهة العقل؛ لأنّه لو كان ذلك ممّا أبرزه النبیّ| قرأه على المسلمین وكتبوه، كما قرأ علیهم الآیات المنزلة علیه، لافتضح المنافقون، مع أنّ النبیّ| لم یكن مأموراً إلّا بالستر علیهم. ولقامت الحرب على ساق، وكان فی ابتداء الإسلام من الفتن ما ظهر بعد وفاة النبیّ|. مع أنّه لو كان لتواتر نقله؛ لأنّهم

 

كانوا یضبطون جمیع آیاته وحروفه وكلماته تمام الضبط، فكیف یغفلون عن مثل ذلك؟! ولعرف بین الكفّار والمعاندین من أعظم معائب الإسلام والمسلمین. ولكان القرآن غیر محفوظ، وقد أخبر الله بحفظه. ولعرف بین الشیعة وأعدائهم من أعظم الأدلّة على خروج الأوّلین من الدین؛ لأنّ النقص على تقدیر ثبوته مستند إلیهم.

ثم العجب کلّ العجب من قوم یزعمون أنّ الأخبار محفوظة فی الألسن والكتب فی مدّة أكثر من ألف وثلاثمائة سنة وأنّه لو حدث فیها نقص لظهر، ویحكمون بنقص القرآن وخفائه فی جمیع الأزمان.

أقول: احتمال النقیصة مع كونه مرجوحاً بعید فی نفسه؛ لأنّ ما روی فی بعض الروایات أنّه من القرآن، یكون من حیث المضمون ومن حیث الاُسلوب والعبارة والإنشاء على نحو لا یكاد یحتمل من له أدنى معرفة بأسالیب الكلام أنّه من القرآن وصدر من المصدر الّذی صدر منه الكتاب المجید. بل لو قیس ما نقلوه مع الكلمات الفصیحة المنقولة عن الفصحاء والاُدباء لرأینا رتبته أدنى من هذه المقایسة أیضا، فكیف بالكلام المعجز الصادر عن الله تعالى النازل على رسوله| بلسان عربیٍ مبینٍ؟!

وأیضاً احتماله مخالفٌ لما ثبت من أنّ أمیر المؤمنین× وسائر الأئمّة صلوات الله‏ علیهم كثیراً ما یستشهدون بالقرآن المجید، ویقرّرون أصحابهم على الاستدلال به، وأنّ هذا القرآن هو القرآن الّذی اُنزل على النبیّ، كما یظهر ذلك بالمراجعة إلى الروایات ونهج البلاغة وكثیرٍ من الأدعیة مثل بعض أدعیة الصحیفة السجّادیة، كدعائه عند ختم القرآن، وغیره.([3]) والروایات الدالّة على وجوب الأخذ بالقرآن، كقوله: «إذا التبست علیكم الفتن كقِطع اللیل المظلم...» الخبر،([4]) وخبر الثقلین، وغیرهما.

 

هذا، مع أنّ هذا الاحتمال الضعیف المرجوح البعید لیس مضرّاً بما نحن بصدده، وهو حجّیة ظواهر آیات الأحكام، لأنّ العلم الإجمالی بالتحریف لو فرضنا تمامیته وقبلناه مماشاةً مع الخصم لیس إلّا فی غیر آیات الأحكام ممّا تكون الدواعی على إسقاطه موجودة، كإسقاط کلمة «فی علیّ» من قوله: ﴿بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ إِلَیْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾.([5])وأمّا ما لیس لهم داعٍ على تحریفه كآیات الأحكام فلیس متعلّقاً للعلم الإجمالی أصلاً.

ولو سلّم كونه طرفاً للعلم الإجمالی، فلیس هذا العلم منجّزاً مؤثّراً لكون بعض أطرافه وهو آیات غیر الأحكام خارجاً عن محلّ الابتلاء فیصیر بالنسبة إلى آیات الأحكام شكّاً بدویّاً، كما لا یخفى.

 

([1]) انظر هذه الروایات فی صحیح البخاری (ج3، ص206؛ ج 5، ص31؛ ج6، ص22، 98؛ ج8 ، ص177)؛ كنز العمّال (المتّقی الهندی، ج2، ص 575- 576 ، 581) ؛ مسند أحمد (ج5، ص188)؛ سنن الترمذی، (ج4، ص347)؛ تاریخ المدینة المنوّرة (ابن شبّة النمیری، ج3، ص1001). یدّعی زید بن ثابت فی هذه الروایات أنّه فقدت آیات من القرآن وجدها عند خزیمة بن ثابت الأنصاری.

([2]) انظر: ابن أبی شیبة الکوفی، المصنّف، ج7، ص197؛ المتّقی الهندی، كنز العمّال، ج13، ص127-128.

([3]) الصحیفة السجادیة، دعاء 42 (ص174 182).

([4]) الکلینی، الكافی، ج2، ص599؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج6، ص171.

([5]) المائدة، 67 .

موضوع: 
نويسنده: