جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

أدلّة المنكرین لحجّیة خبر الواحد ونقدها

وكیف كان، فقد استدلّوا على عدم حجّیة الخبر:

أوّلاً: بالآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم،([1]) كقوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...([2]) الآیة، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً﴾،([3]) وغیرهما.

 

وفیه: أنّ اتّباع الخبر لیس اتّباع غیر العلم، بل هو اتّباع العلم، لأنّا نتّبع الخبر بعد قیام الدلیل القطعیّ على حجّیته ووجوب اتّباعه، لا بدونه. نعم، لو لم یقم دلیل على حجّیته یكون اتّباعه عملاً بالظنّ وغیر العلم، وأمّا معه فیكون اتّباعه اتّباع العلم، وتكون النسبة بین ما یدلّ على حجّیة الخبر وهذه الآیات نسبة الورود.

والحاصل: أنّه لا فائدة للاستدلال بهذه الآیات؛ فإنّه لا یخلو إمّا أن لا تقوم حجّة على اعتبار الخبر، فلا حاجة إلى هذا الاستدلال، فإنّ الشكّ فی الحجّیة یغنینا عن الاستدلال على عدم جواز العمل، وإمّا أن یقوم الدلیل على حجّیته كما یدّعیه القائل باعتبار خبر الواحد، فلیس إذن اتّباعه اتّباع غیر العلم.

فإن قلت: ما یدلّ على جواز اتّباع الخبر یكون مخصِّصاً للآیات الناهیة لا وارداً علیها، فإنّ الأدلّة الدالّة على جواز العمل بالخبر إنّما تقتضی جواز اتّباع الظنّ وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف.([4])

قلت: إذا كان موضوع الدلیل ـ الّذی توهم كونه مخصِّصاً للعام ـ خارجاً عن موضوع دلیل العامّ قبل ورود هذا الدلیل كما یكون بعد وروده خارجاً، كقوله: «لا تكرم زیداً» و«أكرم العلماء» إذا لم یكن زید من العلماء تكون النسبة بین الدلیلین التخصّص، ومعنى ذلك فی الحقیقة عدم وجود ارتباط بینهما، بل عدم تحقّق نسبة بینهما، وأنّ کلّ واحدٍ منهما غیر الآخر وغیر مرتبطٍ به. وهذا، بخلاف التخصیص، كقوله: «لا تكرم زیداً العالم»، فإنّه یدلّ على عدم وجود الحكم الثابت لهذا الفرد بمقتضى «أكرم العلماء».

وأمّا فی الورود فلیس الفرد الخارج بسبب الدلیل الوارد خارجاً عن موضوع العامّ

 

قبل وروده، بل إنّما یخرج بسبب ورود هذا الدلیل عن موضوعه، لا خروجاً تعبّدیاً بل خروجاً تكوینیاً، كما إذا دلّ الدلیل على وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال، فإنّ مقتضـى دلالة الدلیل وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال عن شمول قوله|: «مَا لَا یَعلَموُنَ» تكویناً وكون التكلیف به مقطوعاً، مع أنّه لولا هذا الدلیل یكون واقعاً تحت عموم قوله: «مَا لَا یَعلَموُنَ» وكان مرفوعاً.

نعم، لا مانع من القول بكون الورود أیضاً قسماً من التخصیص، فیقال: إنّه على قسمین، فتارة: یكون موضوع دلیل خارجاً عن تحت الآخر قبل وروده كما یكون خارجاً بعده. وتارة: لا یكون خارجاً قبله بل یكون بحیث لو لم یرد هذا الدلیل یبقى مندرجاً فیه، ولكن بعد ورود هذا الدلیل خرج من موضوع الدلیل الآخر تكویناً.

فعلى هذا، نقول جواباً عن الإشكال: إنّ العمل بخبر الواحد وإن كان فی نفسه اتّباع غیر العلم ومتابعة الظنّ الّذی لا یغنی من الحقّ شیئاً، وداخلاً تحت موضوع الأدلّة الدالّة على حرمة اتّباع غیر العلم، وتكون أدلّة الاعتبار الدالّة على جواز اتّباع مفاده مع كونه غیر موجب للعلم بالحكم الشرعیّ الواقعی مخصِّصة للأدلّة المانعة، إلّا أنّ أصل الأدلّة الدالّة على حجّیة الأمارة ووجوب اتّباعها یكون وارداً على هذه الأدلّة المانعة عن اتّباع الظنّ، لحصول القطع بالحكم الشرعی الظاهری وهو وجوب اتّباع الأمارة بعد قیام الدلیل القطعی على حجّیتها، فیصیر العمل بالخبر بهذا الدلیل الدالّ على هذا الحكم الظاهریّ خارجاً عن تحت موضوع دلیل عدم الجواز تكویناً لعدم كون هذا العمل عملاً بغیر العلم.

وثانیاً: بالأخبار، مثل: ما یدلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب، أو الخبر الّذی لم یكن موافقاً له، أو عدم صدور ما كان كذلك عنهم^.([5])

 

وفیه: أنّ الظاهر من هذه الطائفة أنّها صدرت لردّ الأخبار المجعولة المناقضة للكتاب والأحادیث المكذوبة الّتی دسّوها فی الروایات كثیر من أرباب الآراء الفاسدة والمقاصد الباطلة وجماعة من المنتحلین إلى التشیّع، لأن یفرّقوا بین الشیعة ویمیلوا الناس عن أئمّتهم لإبطال أمرهم وتحقیر کلمتهم بین الناس وإطفاء نورهم ﴿ وَ یَأْبَى اللهُ إلّا أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.([6]) فهذه الأخبار إنّما صدرت فی مقابل هؤلاء، وما یكذبون علیهم^.

كما أنّ الظاهر أنّ جلّ هذه الروایات المجعولة راجعة إلى اُصول الدین وما ینافی التوحید الإسلامی وسائر مبانیه المحكمة المسلّمة عند الكل. وأنّ مثل قوله×: «لا یصدق علینا إلّا ما یوافق كتاب الله‏ وسنّة نبیّه([7]) راجع إلى الردع عن الأخذ بهذه الروایات.

ومثل: ما ورد عنهم من الأخبار فی علاج الخبرین المتعارضین ووجوب الأخذ بما كان موافقاً للكتاب وطرح المخالف.([8])

وأنت خبیر بأنّه لا ربط لهذه الأخبار بمحلّ الكلام، بل تدلّ على حجّیة الخبر فی الجملة.

ومثل ما یدلّ على طرح الخبر الّذی لم یوجد له شاهد أو شاهدان من الكتاب.([9])

وفیه: أنّ فساد الاستدلال بهذه الأخبار ـ مع كونها أخبار آحاد بل ربما لا تتجاوز عن اثنین ـ لإثبات عدم حجّیة الخبر أوضح من أن یخفى.

اللّهمّ إلّا أن یقال بأنّا إمّا أن نقول بحجیة الخبر أم لا، فعلى الثانی لا كلام بیننا؛ وأمّا

 

على الأوّل فتكون هذه الأخبار نافیة لحجّیة الخبر فتقع المعارضة بینهما، فلا یبقى ما یدلّ على الحجّیة.

وفیه: أنّ بعد قیام الدلیل القطعی على حجّیة الخبر ـ كما سیأتی إن شاء الله‏ تعالى([10]) ـ لا مجال لمعارضة هذه الأخبار معه.

وثالثاً: بالإجماع، وسیجیء الكلام فیه إن شاء الله تعالى.([11])

وحاصل الكلام: أنّ إثبات عدم حجّیة الخبر مع عدم قیام دلیل قطعی علیها غیر محتاج إلى إقامة البرهان، لكونه موافقاً للأصل؛ ومع قیام الدلیل القطعی فلا مجال إلّا للأخذ به.

فعلى هذا، ینبغی لنا طیّ المقال وصرف عنان الكلام إلى بیان ما أفادوا لإثبات حجّیة الخبر.

 

([1]) قال فی الكفایة (الخراسانی، ج2، ص79): «فالمحكی عن السیّد والقاضی وابن زهرة والطبرسی وابن إدریس عدم حجّیة الخبر، واستدلّ لهم بالآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم...». راجع أیضاً: الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص 288.

([2]) الإسراء، 36.

([3]) یونس، 36.

([4]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص69.

([5]) تقدّم تخریج هذه الأخبار فی المجلّد الأوّل.

([6]) التوبة، 32.

([7]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، ج27، ص123، ب 9، ح 47.

([8]) الکلینی، الكافی، ج1، ص69، ح 3 و 4 باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضی، ج27، ص109-111، ب 9، ح 10 و 12 و 14 وغیرها.

([9]) الکلینی، الكافی، ج1، ص69، ح2، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب؛ ج 2، ص222، ح 4، باب الكتمان؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضی، ج27، ص110، 112، ب 9، ح 11 و 18.

([10]) آنفاً تحت عنوان «أدلّة حجّیة الخبر».

([11]) یأتی فی الصفحة 168 وما یلیها.

موضوع: 
نويسنده: