پنجشنبه: 6/ارد/1403 (الخميس: 16/شوال/1445)

تفاسیر مختلفةٌ للآیة

إعلم: أنّه یمكن أن یقال: إنّ المستفاد من ظاهر الآیة أنّها فی مقام بیان كمال التأكید والترغیب إلى تحصیل العلم والتفقّه فی الدین، وأنّه من الحوائج المهمّة لنوع الإنسان،

 

ویقتضی لشدّة أهمّیته والاحتیاج إلیه أن ینفر جمیع الناس للتفقّه فی الدین وإنذار قومهم إذا رجعوا إلیهم إلّا أنّ مزاحمته مع القیام بسائر الاُمور الحیاتیة والمدنیة منعت عن تأثیره فی وجوب النفر على الجمیع للتفقّه فی الدین، فحینئذٍ یجب أن یعامل معه معاملة سائر الاُمور الحیاتیة المهمّة، وأن ینفر من کلّ فرقةٍ وجمعیةٍ وأهل کلّ صقعٍ وبلدٍ بعضهم لتحصیل العلم وتعلّم الأحكام، كما یتعهّد کلّ واحد منهم شأناً من شؤونهم وحاجةً من حوائجهم، وعلیه بنوا نظام معاشهم وتمدّنهم، وإذا كان هذا حالهم فی أمر الدنیا فكیف بما كان مؤثّراً فی مصلحة دنیاهم وآخرتهم ونظم جمیع جهاتهم الروحانیة والجسمانیة وكمال القوّة العلمیة والعملیة وهو: التفقّه فی الدین، فیجب بحكم الآیة أن ینفر من کلّ فرقةٍ طائفةٌ.

ولا یصغى إلى ما قیل بأنّ مقتضى سیاق آیات سورة البراءة كون هذه الآیة أیضاً فی مقام بیان وجوب النفر إلى الجهاد والمقاتلة مع الأعداء وما یحصل منه من الفوائد للنافرین والمتخلّفین.

فإنّه مضافاً إلى أنّ ملاحظة وحدة السیاق بهذا النحو فی القرآن الّذی أنزله الله تعالى منجّماً مرجوحة فی نفسها، وممّا یقطع بخلافه، فیه: أنّ سورة البراءة وإن كانت نزلت لذلك وكانت فیها آیاتٌ كثیرةٌ راجعةً إلى الجهاد والمقاتلة مع المشركین إلّا أنّها متضمّنةٌ لآیاتٍ كثیرةٍ اُخرى متضمّنةٍ بیان الأحكام وغیرها من المطالب، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُـشْرِكینَ أَنْ یَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِینَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ...([1]) الآیة.

 

وقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا یَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله... .([2]) الآیة.

وآیة: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَایَةَ الْـحَاجِّ... الآیة([3])، وغیرها من الآیات فی هذه السورة المباركة.

فوحدة السیاق ولو كانت ممّا یعتنى به فی موارد من الكتاب الكریم إلّا أنّها لیست قاعدةً عامَّةً شاملةً لجمیع آیات الكتاب حتى تفسّر لأجلها الآیة بالآیات السابقة علیها ویترك ما هو الظاهر منها، وقد ورد أنّ الآیة یمكن أن یكون صدرها فی أمرٍ وذیلها فی أمرٍ آخر. نعم، وحدة السیاق أیضاً كسائر القرائن وما یحفّ به الكلام لها دخلٌ ـ حسب الموارد ـ فی استظهار المراد، ولكنّها لیست فی جمیع الكتاب قرینة على حمل ما تكون الآیة ظاهرةً فیه بنفسها على غیره.

ولا یخفى علیك: أنّ المراد بالإنذار المذكور فی الآیة الشریفة ـ الّذی جعل كالتفقّه فی الدین وفی عرضه فائدة للنفر وغایة له ـ لیس مجرّد الإنذار والتخویف وتلاوة آیات العذاب علیهم من غیر بیان الأحكام والتكالیف، لعدم ترتّب ثمرةٍ وفائدةٍ على هذا الإنذار، بل المراد من الإنذار تبلیغ الأحكام وتعلیم الناس، وتذكیرهم بأنّهم لم یخلقوا عبثاً ولم یهملوا كالبهائم، وأنّ الله تعالى جعل علیهم ـ لحفظ مصالحهم ووصولهم إلى مقام الكمال ـ تكالیف فی جمیع اُمورهم، وبیان ما یجب علیهم وما یحرم، وما یهدیهم إلى طریق الرشد والكمال ویبعّدهم عن الغیّ والضلال، وهذا هو المراد من الإنذار المذكور فی قوله تعالى: ﴿وَاُوحِیَ إِلَیَّ هَذَا القُرآنُ لِاُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾،([4]) وفی قوله عزّ اسمه: ﴿وَلِتُنْذِرَ اُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾؛([5]) فإنّ المراد من إنزال القرآن لیس مجرّد إنذار القوم ومن بلغ واُمّ القرى ومن حولها بتلاوة آیات العذاب والعقاب، بل الإنذار بهذا المعنى إنّما یكون من توابع تبلیغ المعارف والأحكام وتنبیه الناس وسوقهم إلى

 

سبیل الكمال، لعدم ارتداع أكثر الناس عن المعاصی والسیّئات بمجرّد النهی وعدم قیامهم بأداء الواجبات والحسنات بمجرد الأمر، فلابدّ من الإنذار والتوعید بالعقاب والعذاب على المخالفة والعصیان، هذا.

وأیضا لا یخفى علیك: أنّ المراد بالحذر لیس مجرّد التخوّف والتحذّر القلبی، بل المراد منه هو التحذّر فی العمل. هذا ما یستفاد من ظاهر الآیة بحسب العرف وما یفهم أهل اللسان.

وربما تفسّر الآیة الشریفة على نحوٍ آخر([6]) وهو: أنّ رسول الله| كان إذا خرج غازیاً لم یتخلف عنه إلّا المنافقون والمعذرون، فلمّا أنزل الله تعالى عیوب المنافقین وبین نفاقهم فی غزوة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غَزاة یغزوها رسول الله| ولا سریة أبداً، فلمّا أرسل رسول الله السرایا إلى الغزو نفر المسلمون جمیعاً وتركوا رسول الله| وحده، فأنزل الله‏ سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً...﴾.([7]) الآیة.

وهذا التفسیر خلاف ظاهر الآیة الشریفة وإنّما فسـرت به اهتماماً بحفظ وحدة السیاق. والدلیل على كونه خلاف الظاهر: أنّ المستفاد من قوله: ﴿وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا([8]) هو النفی، وأنّه لیس لهم أهلیة النفر كافة وشأنیة ذلك، أو لیس لهم كافّةً قصد ذلك على قول بعض أهل الأدب، ولا یستفاد منها النهی، فإنّ النهی یستفاد من أمثال المقام إذا دخلت اللام على المنهیّ، كقوله عزَّ من قائل: ﴿مَا كَانَ لِأهْلِ الْـمَدینَةِ

 

وَمَنْ حَوْلَـهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ یَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله﴾،([9]) وأمّا إذا دخلت على الفعل مثل هذه الآیة ومثل: ﴿مَا كَانَ الله‏ُ لِیُعَذِّبَهُمْ([10]) و ﴿مَا كَانَ الله‏ُ لِیَذَرَ الْـمُؤْمِنینَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَیْهِ([11]) و﴿لَمْ یَكُنِ اللّٰه‏ُ لِیَغْفِرَ لَـهُمْ([12]) فتدلّ على النفی.

هذا مضافاً إلى أنّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ  فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ هو الترغیب والتحریص على النفر، وعلى هذا التفسیر لا یبقى مجال للترغیب، كما لا یخفى.

والحاصل: یرد على هذا التفسیر أوّلاً: أنّه خلاف ما یستفاد من ظاهر جملة: ﴿وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً﴾، حیث إنّ المستفاد منها النفی وعدم كون المؤمنین أهلاً لأن ینفروا كافّةً لكونه سبباً لاختلال النظام.

وثانیاً: أنّه مخالفٌ لما یستفاد من جملة: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٍ

 وهو كون المتکلّم فی مقام التحریص والترغیب إلى النفر. مع أنّه لا معنى للفظة «لولا» التحضیضیة بمقتضى هذا التفسیر.

وثالثاً: یلزم أن یكون الضمیر فی قوله: «لیتفقّهوا» و«لینذروا» راجعاً إلى غیر المذكورین فی الكلام وهم المتخلّفون.

ورابعاً: هذا التفسیر لا یخلو من الاعوجاج وعدم الاستقامة، ومن كان له اُنسٌ بكلام الله‏ تعالى وبلاغته فی بیان المطالب والمقاصد یعرف مرجوحیة هذا التفسیر.

هذا مع أنّ الأمر لیس خارجاً كذلك، فإنّ التاریخ الإسلامی محفوظٌ ومضبوطٌ بحمد الله‏ تعالى ولم یكن الحال كما ذكر، حتى أنّ فی الغزوات لم یكن المؤمنون نافرین

 

للجهاد جمیعاً بل ربما یتسامح كثیرٌ منهم فی أمر الجهاد، ولهذا كثر نزول الآیات فی ترغیبهم إلى الجهاد وذمّ المتقاعدین عنه، فضلاً عن السـرایا الّتی لم یكن النبیّ| لیخرج إلى الجهاد معها.

هذا مضافاً إلى أنّ أمر الجهاد لیس أمراً من الاُمور العادیة بل كان من الاُمور المهمّة، وتجهیز الجیوش والعساكر وتنظیم أمر المجاهدین لم یكن إلّا بأمر النبیّ|، وما كان أمراً یعمل فیه کلّ أحدٍ على رأیه وسلیقته ومن غیر استئذان عن رسول الله|.

وبالجملة: فهذا التفسیر ممّا یمكن دعوى القطع على خلافه.

وأمّا ما قیل فی تفسیر الآیة بوجهٍ آخر وهو: أنّ المراد تحریض المؤمنین على أن ینفر من کلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ للجهاد لیتفقّهوا فی الدین، أی: لیروا آیات الله تعالى فی غلبة المسلمین على أعدائه، ونصرته إیّاهم علیهم.

أو لیتفقّهوا فی الدین، أی: یتعلّمون من النبیّ| أحكام الدین حتى ینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم.

فهو أیضاً خلاف الظاهر؛ لأنّ الغایة فی الآیة هی التفقّه فی الدین، وعلى هذا التفسیر تكون غایته الجهاد مع الأعداء.

فما هو الظاهر لیس إلّا التفسیر الأوّل، والله هو العالم.

 

([1]) التوبة، 17.

([2]) التوبة، 18.

([3]) التوبة، 19

([4]) الأنعام، 19.

([5]) الأنعام، 92.

([6]) كما فی مجمع البیان (الطبرسی، ج5، ص126) وفیه عن الباقر× فی شأن نزول الآیة المباركة: «كان هذا حین كثر الناس فأمرهم الله أن تنفر منهم طائفة، وتقیم طائفة للتفقّه، وأن یكون الغزو نوباً».

وانظر هذا التفسیر أیضاً فی قوانین الاُصول (ج1، ص438)؛ والفصول الغرویة (الأصفهانی، ص272)؛ وفرائد الاُصول (الأنصاری، ص79).

([7]) التوبة، 122.

([8]) التوبة، 122.

([9]) التوبة، 120.

([10]) الأنفال، 33.

([11]) آل عمران، 179.

([12]) النساء، 168.

موضوع: 
نويسنده: