پنجشنبه: 6/ارد/1403 (الخميس: 16/شوال/1445)

سبب إنكار المتکلّمین حجّیة خبر الواحد

لا یخفى علیك: أنّ ما هو المتداول فی ألسنة الأصحاب مثل المفید والمرتضـى وابن قبة وعامّة المتکلّمین([1]) إلى زمان الشیخ ـ رضوان الله‏ علیه ـ  وتلامذته عدم جواز

 

العمل بخبر الواحد، وبذلك یردّون كثیراً ـ فی مقام الاحتجاج على العامّة حینما تمسّكوا بالأخبار ـ بأنّها أخبار آحاد لا تفید علماً ولا عملاً وقد تكرّر ذلك فی ألسنتهم.

والشیخ أوّل من ردّ على ذلك وكسر صولة هذه العبارة، وبیّن ما هو الحقّ فی المقام ومراد الأصحاب بقوله فی العدّة: «وأمّا ما اخترته من المذهب فهو: أنّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طریق أصحابنا القائلین بالإمامة، وكان ذلك مرویّاً عن النبیّ| أو عن واحدٍ من الأئمّة^، وكان ممّن لا یطعَن فی روایته ویكون سدیداً فی نقله، ولم تكن هناك قرینة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر، لأنّه إن كانت هناك قرینة تدلّ على صحّة ذلك كان الاعتبار بالقرینة وكان ذلك موجباً ـ ونحن نذكر القرائن فیما بعد ـ جاز العمل به... إلخ».([2])

ولیس معنى ما ذكره تقیید الحجّیة بما إذا كان مرویّاً عن النبیّ والأئمّة صلوات الله علیهم وكان الراوی ممّن لا یطعَن فی روایته وسدیداً فی نقله ولم تكن هناك قرینة تدلّ على صحّة ما تضمنته الروایة؛ فإنّ لزوم كون الخبر مرویّاً عن النبیّ ممّا اتّفق علیه الكلّ، وكفایة كونه مرویّاً عن أحد الأئمّة أیضاً من جهة أنّهم بمنزلته فی ذلك وحجّیة قولهم لخبر الثقلین وغیره، وكذا استحكام الراوی وكونه ممّن لا یطعَن فی روایته، وكذا عدم وجود القرینة فإنّ مع القرینة لیس الاتّكال على الخبر بل على القرینة.

نعم، ما یكون قیداً لحجّیة الخبر على ما اختاره هو كونه مرویّاً من طرق أصحابنا القائلین بالإمامة.

ثم إنّه بعد ما أفاد إجماع الفرقة المحقّة على العمل بهذه الأخبار التی رووها فی تصنیفاتهم من عهد النبیّ| ومن بعده من الأئمّة إلى جعفر بن محمد÷ قال : «فإن قیل: كیف تدَّعون الإجماع على الفرقة المحقّة فی العمل بخبر الواحد، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى

 

العمل بخبر الواحد، كما أنّ المعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بالقیاس، فإن جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر؟ قیل لهم: المعلوم من حالها الّذی لا ینكر ولا یدفع أنّهم لا یرون العمل بخبر الواحد الّذی یرویه مخالفوهم فی الاعتقاد ویختصّون بطریقه، فأمّا ما یكون راویه منهم وطریقة أصحابهم فقد بیّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك، وبیّنا الفرق بین ذلك وبین القیاس أیضاً، وأنّه لو كان حظرُ العمل بخبر الواحد  معلوماً لجرى مجرى العلم بحظر القیاس، وقد علم خلاف ذلك».([3])

ولا یخفى علیك: أنّ الإشكال بحسب الظاهر واردٌ على الشیخ ـ رضوان الله‏ علیه ـ ولكن المتتبّع البصیر یرى أنّه أجاد فیما أفاد، فإنّ الإمامیة قد ابتلوا بقومٍ كان تمام أساس مذهبهم من الاُصول والفروع مبنیّاً على خبر الواحد وهم العامّة، فإنّ الروایات المتواترة قلیلة جدّاً بل لا یبعد ادّعاء عدم وجودها أصلاً، فالخبر المعروف المرویّ عن النبیّ|: «إنّما الأعمال بالنیات» من الأخبار الّتی ذكر كثیرٌ من علمائهم فی كتبهم تواتره بل ربما كان فی نظرهم بحیث لم یكن فی جهة التواتر خبرٌ أقوى منه بل ربما لا یعرفون خبراً متواتراً غیره إلّا أنّنا بعد التتبّع التامّ وجدنا انتهاء سند هذا الخبر إلى شخص واحدٍ وهو عمر بن الخطّاب.

فعلى هذا، یتمسّكون فی الاُصول والفروع بكلّ خبر واحد ویقولون بعدالة کلّ واحد من الصحابة، ولذا دخل فی مذهبهم سیّما فی الاُصول المطالب العجیبة والعقائد السخیفة الّتی قامت الضرورة على بطلانها كالتجسیم وغیره من الخرافات الّتی جلّ شأن الإسلام ونبیّه الكریم من أن یسندها إلیه تعالى. تعالى الله عمّا یقول الظالمون علوّاً كبیراً.

وبالجملة: فالقوم من أوّل الأمر تمسّكوا بخبر الواحد فی أمر الخلافة الّتی هی من أهم الاُمور، وهو ما رواه أبو بكر عن النبیّ|: «الأئمّة من قریش».([4])

 

واستند هو أیضاً فی منع فاطمة÷ عن فدك بما رواه نفسه وحده عن النبیّ|: «نحنُ معاشرَ الأنبیاء لا نورّث، ما تركناه صدقة».([5])

وكثیراً ما یرجعون إلى الناس فی حكم ما یتّفق من الحوادث والوقائع، فإذا أخبر أحدٌ: أنّ النبیّ| فعل كذا، أو قال كذا، یأخذون به، كما نرى هذا كثیراً بالنسبة إلى أبی بكر وعمر. ومن الواضح: أنّه لابدّ لهم من ذلك، لعدم وجود مستندٍ على مذهبهم لفقههم كما یكون للإمامیة وهو الإمام المعصوم الّذی لا تخلو الأرض منه فی عصر من أعصار التكلیف. والإمامیة فی مباحثاتهم ومجادلاتهم مع العامّة لم یروا بدّاً إلّا نفی حجّیة خبر الواحد بالمرّة، فإنّ مع الاعتراف بحجّیة الخبر فی مقام الاحتجاج لابدّ لهم من التسلیم، لعدم إمكان الخدشة فی سند الروایات الواردة من طرقهم حتى ما رواه أمثال أبی هریرة والولید بن عقبة ـ الّذی نزلت الآیة فی فسقه ـ ومعاویة والمغیرة بن شعبة وعمران بن حطّان الخارجی،([6]) فإنّ تفسیق هؤلاء فی مثل تلك الأزمنة یؤدّی إلى فتنٍ عظیمةٍ ومفاسد كبیرةٍ، فلذا أنكروا فی مقابلهم حجّیة الخبر رأساً، مع عملهم فیما بینهم بما كان وارداً من طرقهم عن النبیّ والأئمّة^.

ولأجل ما فی هذه الأخبار المرویة عن طرق العامّة ممّا لا یقبله عقلٌ سلیمٌ ولا یوافقه كتاب الله‏ الكریم ظهر مذهب الاعتزال، وقامت المعتزلة على خلاف الأشاعرة، ووقعت بینهم الوقائع والفتن العظیمة، ورمت الأشاعرة المعتزلة بالتكفیر والزندقة والإلحاد

 

والرجوع عن سنّة النبیّ| وغیر ذلك من الافتراءات، ونسبت المعتزلة الأشاعرة إلى الجمود والإعراض عن حكومة العقل بالمرّة، والعقائد الباطلة الّتی لا یشكّ فی بطلانها من له أدنى التفات بما یحكم به العقل مستقلاً. وتفصیل ذلك خارجٌ عن وضع الكلام.

 

 

([1]) راجع: الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الشـریعة، ج2، ص529؛ المفید، التذكرة باُصول الفقه، ص38. وقال المفید&: «لا یجب العلم ولا العمل بشیء من أخبار الآحاد، ولا یجوز لأحد أن یقطع بخبر الواحد فی الدین إلّا أن یقترن به ما یدلّ على صدق راویه على البیان، وهذا مذهب جمهور الشیعة وكثیر من المعتزلة والمحكّمة وطائفة من المرجئة، وهو خلاف لما علیه متفقّهة العامّة وأصحاب الرأی. المفید، أوائل المقالات، القول فی أخبار الآحاد، ص122.

([2]) الطوسی، العدّة  فی اُصول الفقه، ج1، ص126.

([3]) الطوسی، العدّة فی اُصول الفقه،  ج1، ص127 -  128.

([4]) قال: الفخر الرازی: «إنّ الأنصار لمّا طلبوا الإمامة، احتجّ علیهم أبو بكر بقوله|: «الأئمّة من قریش». الفخر الرازی، المحصول، ج2، ص357.

([5]) السیوطی، الفتح الكبیر، ج3، ص349؛ الشوکانی، المنتقى من الاخبار، ج2، ص474؛ الشافعی، مسند، ص108. وقال الفخر الرازی فی بحث الخبر الّذی لا یقطع بكونه صدقاً أو كذباً: «إنّ الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد... (إلى أن قال:) فبیانه من وجوه، الأوّل: رجوع الصحابة إلى خبر الصدّیق فی قوله علیه الصلاة و السلام: «الأنبیاء یُدفنون حیث یموتون»، وفی قوله: «الأئمّة من قریش»، وفی قوله: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورث». المحصول، ج4، ص368 -  369.

([6]) راجع فی ذلك كتابنا: «أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف». [منه دام ظلّه العالی].

موضوع: 
نويسنده: