پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

نقد القول بالمصلحة السلوكیة

وتفصیل الكلام فیه: أنّ الأمارة إمّا أن تؤدّی إلى وجوب ما هو حرام واقعاً أو استحبابه، أو إلى حرمة الواجب الواقعی أو إلى كراهته، أو إباحة الحرام الواقعی، أو إلى غیره من الصور المفروضة فی المقام. فلو أدّت إلى وجوب الحرام الواقعی فالمصلحة الّتی تترتّب على سلوك الأمارة إنّما تترتّب على هذا الفعل الّذی هو حرام واقعاً، لأنّه لا معنى لسلوك الأمارة إلّا إتیان هذا الفعل حیث إنّه معنونه، فهذه المصلحة السلوكیة إمّا أن تكون غالبة على مفسدة الواقع، فلا معنى لكون الفعل حراماً واقعاً بل هو واجب واقعاً؛ وإمّا أن تكون مغلوبة للمفسدة الواقعیة، فلا معنى لكونه واجباً بل هو حرام واقعاً؛ وإمّا أن تكون مساویة لمفسدة الواقع، فیجب أن لا یكون حراماً ولا واجباً.

 

وأمّا لو أدّت إلى حرمة الواجب الواقعی، فإمّا أن یقال بترتّب المفسدة على الفعل الّذی یكون واجباً واقعاً، فمع تقدیر غلبته على المصلحة الواقعیة لا یكون غیر الوجه الثانی؛ ولو قیل بترتّب مصلحة على الترك تتدارك بها مصلحة الواقع، فالترك لیس قابلاً لترتّب مصلحة علیه.

ولو أدّت الأمارة إلى استحباب ما هو الواجب واقعاً، فیجب أن یصیر سبباً لتأكّد مصلحة الوجوب، لا أن یكون مزاحماً لها، وفی صورة الترك لا یعقل ترتّب مصلحة علیه.

وهكذا لو أدّت إلى كراهة ما هو حرام واقعاً.

وأمّا لو أدّت إلى إباحة الحرام الواقعی، أو الواجب الواقعی، فلا معنى لترتّب المصلحة على الفعل الّذی أدّت الأمارة إلى كونه مباحاً. وقس على هذا سائر الفروض الّتی تكون من هذا القبیل.

نعم، هنا فرض آخر ربما یكون السبب لتوهّم المصلحة السلوكیة، وهو فیما إذا أدّت الأمارة إلى وجوب صلاة الجمعة مثلاً، مع كونها حراماً واقعاً وكون الواجب الواقعی صلاة الظهر، فتتدارك بالمصلحة السلوكیة المصلحة الفائتة وهی مصلحة صلاة الظهر، والمفسدة الّتی وقع المكلّف فیها وهی مفسدة ارتكاب الحرام الواقعی.

ولكن لیس حال هذا الفرض خارجاً عن سائر الفروض؛ لأنّه بعد فرض عدم وجود واجب غیر إحدى الصلاتین فإمّا أن تكون المصلحة المترتّبة على صلاة الجمعة غالبة على مفسدة فعلها وفوت مصلحة صلاة الظهر فیجب أن یكون الواجب الواقعی صلاة الجمعة، وإمّا أن تكون مساویة لهما فلا معنى لوجوب إحدى الصلاتین إلّا على وجه التخییر، هذا.

ویمكن أن یقال: إنّ القول بالموضوعیة والسببیة على هذا الوجه ربما لا یكون خالیاً عن المناقضة، فإنّ مرجعه إلى الأمر بسلوك الطریق الّذی فی سلوكه مصلحة بما أنّه

 

طریق إلى الواقع وسلوكه، ولازم ذلك ملاحظة الطریق موضوعاً للحكم على نحو یكون فانیاً فی ذی الطریق، وملاحظته فی مقابل ذی الطریق وبحیاله.

وكیف كان، فنحن لم نتعقّل وجهاً للوجه الثالث الّذی ذكره الشیخ+، ولا نفهم تفاوتاً وفرقاً بینه وبین الوجه الأوّل على نحو لا یرجع إلى التصویب المجمع على بطلانه.

ولا یخفى علیك: أنّا لم نجد أحداً من المحقّقین قال بالسببیة والموضوعیة فی باب الأمارات والطرق.

وأنّ لازم القول بالموضوعیة كون مؤدّى الأمارة حكماً واقعیاً لا ظاهریاً. فالقول بالحكم الظاهریّ إنّما یكون صحیحاً على القول بالطریقیة لیس إلّا. هذا کلّه فیما یرجع إلى المحذور الملاكی، ودفعه.

وأمّا الكلام فی المحذور الخطابی وهو لزوم اجتماع الضدّین، كاجتماع البعث مع الزجر، أو البعث الأكید مع الزجر إذا كان غیر الأكید، أو عكس ذلك، أو البعث أو الزجر مع الترخیص.

فما قیل فی دفعه وجوه:

أحدها: ما عن السیّد العلّامة المیرزا الشیرازی، وتلمیذه المحقّق السیّد محمد الأصفهانی. ومرجعه إلى عدم وجود التضادّ بین الحكم الظاهری والواقعی لاختلاف مرتبتهما، واجتماع الضدّین إنّما یكون ممتنعاً لو تحقّق فی شیء واحد وفی مرتبة واحدة.

بیان هذا الوجه: أنّ ما هو الموضوع للحكم الواقعی لیس موضوعاً إلّا بعنوانه الأوّلی النفس الأمری ولا یكون متعلّقاً بالمكلّف إلّا بعنوانه الأوّلی، فالحكم یتعلّق بموضوعه وبالمكلّف بما هما علیه من العنوان الأوّلی الواقعی النفس الأمری، وإطلاقه یشمل تمام الحالات الّتی تعرض للموضوع أو للمكلّف قبل تعلّق الحكم بهما، ولا یشمل الحالات والأوصاف المتأخّرة عن الحكم، كالعلم والجهل والشك، فلا یمكن

 

لحاظ الموضوع مقیّداً بالعلم أو الجهل به، ولا ملاحظة إطلاقه بالنسبة إلیهما؛ وما هو الموضوع للحكم الظاهریّ إنّما هو الموضوع بعنوان كونه مجهول الحكم أو مشكوك الحكم، فتكون مرتبته متأخّرة عن الحكم الواقعی، ومع هذا الاختلاف فی الرتبة لا مانع من تعلّق البعث بأحدهما والزجر بالآخر. ألا ترى أنّ فی مسألة الترتّب لیس ملاك تصحیح طلب الضدّین إلّا اختلاف مرتبتهما، فإنّ الأمر بالأهمّ إنّما تعلّق بأحد الضدّین مطلقاً، لكن لا یشمل إطلاقه الحالات الّتی تعرض الموضوع بعد تعلّق الحكم به كالعصیان، فلا یشمل إطلاقه ما هو الموضوع للأمر بالمهمّ لأنّه مقیّد بعصیان الأهمّ.

أقول: یمكن أن یقال بأنّ موضوع الحكم الواقعی وإن لم یشمل إطلاقه حال العلم والجهل بالإطلاق اللحاظی ـ لأنّ ما لا یمكن لحاظ تقییده لا یمكن لحاظ إطلاقه ـ إلّا أنّه بإطلاقه الذاتی محفوظ فی ظرف الشكّ والجهل بالحكم الواقعی.

وقد بیّنّا فی المطلق والمقیّد([1]) أنّ معنى الإطلاق لیس إلّا إرسال الموضوع وعدم كونه مقیداً بقید، بمعنى كون الطبیعة تمام متعلّق الحكم، خلافاً لما ذهب إلیه جماعة من الاُصولیّین ومنهم المحقّق الخراسانی+، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الإطلاق عبارة عن جعل الموضوع آلة لملاحظة الخصوصیات،([2]) ولازم ذلك ملاحظة الخصوصیات وهذا عین التقیید.

وأمّا على ما اخترناه یكون الموضوع مطلقاً بالنسبة إلى جمیع حالاته سواء كانت من الحالات المفروض وجودها قبل تعلّق الحكم به ككون الصلاة مثلاً فی مكان كذا وزمان كذا، أو بعده كالجهل والعلم والعصیان، فإطلاقه هذا محفوظ حتى فی مرتبة الشكّ والجهل.

 

ولا یقاس ما نحن فیه بمسألة الترتّب، فإنّ ما هو الملاك فی صحّة القول بالترتّب وعدم كون طلب الضدّین من قبیل التكلیف بالمحال ـ الّذی هو الملاك فی استحالة الأمر بالضدّین بعد كون الأمر بكل واحد منهما فی حدّ ذاته ممكناً ـ أنّ المولى حیث یرى أنّ بعثه لیس ممّا لا ینفكّ عنه المبعوث إلیه لإمكان عدم انبعاث عبده منه، ولكن یمكن أن ینبعث العبد من الأمر بالمهمّ لأجل خصوصیة تكون فیه فیأمر بالمهم مشـروطاً بعصیان الأهمّ وفی ظرف عدم تأثیر أمره بالأهمّ فی انبعاث العبد وعدم قابلیته لذلك حتى لا یكون زمان عصیانه فارغاً. وهذا ممّا لا یرى العقل مانعاً منه والوجدان حاكم بصحّته وإمكانه، فلا ینبغی أن یقاس بما نحن فیه، فإنّ تعلّق أمرین بشیئین یمكن الإتیان بكل واحد منهما فی ظرفه أمر ممكن بخلاف مسألتنا هذه، فإنّ التكلیف الأوّل محفوظ حال التكلیف الثانی.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو كان ملاك إمكان الأمرین بالضدّین وعدم انتهائه إلى التكلیف بالمحال اختلاف مرتبة الحكمین یكون عنوان أحدهما مقیداً ومشـروطاً بعصیان الآخر، فیجب الالتزام بإمكانه إذا كان أحدهما مشـروطاً بإطاعة الآخر أو العلم به، مع اتّفاق الكلّ على عدم إمكانه.

ثانیها: ما أفاده المحقّق الخراسانی+ فی الحاشیة،([3]) بعد إفادة مقدمة ذكر فیها مراتب الحكم، وهو: أنّ التضادّ بین الأحكام إنّما یتحقّق فیما إذا وصلت إلى مرتبة الفعلیة، وهی المرتبة الثالثة من المراتب الأربع الّتی ذكرها+ للحكم، وأمّا فی المرتبة الاُولى والثانیة فلا تضادّ بینها ولا تزاحم بین إنشاء الإیجاب وإنشاء التحریم.

وعلى هذا، نقول: لا مضادّة بین الحكم الظاهری والواقعی، إذ البعث الفعلی أو

 

الزجر الفعلی لا یكون إلّا بالنسبة إلى مؤدّى الأمارة، وأمّا الحكم الواقعی فلم یصل بعدُ إلى مرتبة الفعلیة لعدم وصوله إلى المكلّف وعدم تجاوزه عن مرتبة الإنشاء، وقد مرّ عدم التنافر بین الحكم الإنشائی والفعلی.

إن قلت: إنّ تصویر الحكم الواقعی بهذه المرتبة وإن كان بمكان من الإمكان إلّا أنّه لا یدفع إشكال لزوم التصویب المجمع على بطلانه.

قلت: كما یكون الإجماع قائماً على اشتراك العالم والجاهل، كذلك الإجماع قائم على عدم فعلیة الأحكام بالنسبة إلى جمیع المکلّفین، كالجاهل بالحكم ـ الّذی تقوم عنده الأمارة مع خطأها ـ. فالحكم بحسب المرتبتین الأُولیین لا یختلف بحسب اختلاف الآراء والأزمان، وأمّا بحسب المرتبة الثالثة والرابعة فالإجماع قائم على اختلافه.

فإن قلت: إذا لم یكن الحكم الواقعی الّذی اشترك فیه الجاهل والعالم فعلیاً، فلا یجب اتباعه إذا تعلّقت به الأمارة وأصابت، ولا قبح فی مخالفته، ضرورة عدم لزوم متابعة الخطاب التحریمی أو الإیجابی ما لم یصل إلى حد الزجر أو البعث الفعلی، وإنّما یجب اتّباع الأمارة فیما لو كان مؤدّاه حكماً فعلیاً لا حكماً شأنیاً.

قلت: وإن كان ما أفاد فی الحاشیة([4]) فی مقام الجواب عن هذا الإشكال لیس كافیاً فی دفعه، لكنّه أفاد أخیراً فی دفع هذا الإیراد: أنّ للحكم فی مرتبة الفعلیة درجتین، الاُولى: ما یعبّر عنها بفعلیة ما قبل التنجز، والثانیة: ما یعبّر عنها بفعلیة حال التنجّز، والاُولى عبارة عن البعث أو الزجر إذا لم یصل إلى المکلّف ولم یتعلّق به علمه، والثانیة عبارة عن مرتبة وصوله إلیه، فعلى هذا إذا تعلّقت الأمارة بالحكم فی هذه المرتبة تجب موافقته وتقبح مخالفته.([5])

 

وقد أوردوا على هذا الوجه أیضاً بأنّه إن كان المراد من الحكم الشأنی والمرتبة الشأنیة مجرد الإنشاء من غیر أن یكون للمولى بعث وزجر وترخیص فعلاً، كأن یكون له طومار مثبت فیه الأحكام الراجعة إلى عبیده مع عدم مخاطبتهم بها، فلا یدفع ما أفاده إشكال لزوم التصویب المجمع على بطلانه، لأنّ الحكم فی هذه المرتبة لیس حكماً حقیقة.

وإن كان المراد من شأنیة الحكم أنّه کلّما وجد موضوعه فی الخارج یكون محكوماً بهذا الحكم، فلا یرفع به محذور اجتماع الضدّین، كما لا یخفى.

ولكن لنا أن نقول جواباً عن هذا الإیراد: إنّ تقیید الأحكام بالعلم موجب للدور، وبالجهل لغو؛ لأنّ فی ظرف العلم لا یكون المکلّف معنوناً بعنوان الجاهل، وفی ظرف الجهل لا فائدة له، فالحاكم ینشأ مطلقاً ومن غیر تقیید بصورة العلم والجهل ولكن لا یرید انبعاث المكلّف إلّا فی ظرف العلم  به لعدم إمكان انبعاثه فی غیر هذا الظرف. وهذا لا یكون لقصور فی ناحیة الحاكم وبعثه وزجره، بل لأجل القصور فی ناحیة الخطاب. فلو أراد الآمر انبعاثه مطلقاً یجب أن یتوسّل بأمر آخر مثل إیجاب الاحتیاط أو جعل الطریق أو غیرهما. فالحكم الواقعی الّذی یشترك فیه العالم والجاهل هو الحكم الّذی أنشأه مطلقاً وإن كان المولى لم یرد انبعاث العبد منه إلّا فی ظرف وصوله إلیه لعدم إمكان انبعاثه إلّا فی ظرف العلم به، وإنّما توسّل بإیجاب الاحتیاط أو جعل الطریق لحصول غرضه وهو انبعاث العبد فی ظرف الجهل أیضاً.

وأظن أنّ هذا مراد المحقّق الخراسانی+ من الحكم الفعلی فی مرحلة ما قبل التنجّز، وهو المناسب لكلامه.

ثالثها: ما أفاده المحقّق المذكور فی الكفایة:([6])من أنّ ما هو المجعول فی باب الطرق

 

والأمارات لیس إلّا الحجّیة، والحجّیة المجعولة غیر مستتبعة للأحكام التكلیفیة، وفائدة جعل الحجّیة تنجّز التكلیف فی صورة الإصابة وصحّة الاعتذار فی صورة الخطأ، فلا منافرة بین الحكم الظاهری والحكم الواقعی؛ لأنّ الأوّل وضعیّ غیر مستتبع للحكم التكلیفی، والثانی تكلیفیّ محض، فلا مضادّة بین جعل الأمارة حجّة وبین وجوب فعل أو حرمته أو استحبابه أو كراهته أو إباحته.

والحاصل: أنّ معنى وجوب العمل على طبق الأمارة لیس إلّا جعلها حجّة. ولا فرق بین القطع ـ وهو الحجّة الذاتیة ـ فی كونها سبباً لتنجّز التكلیف إذا أصابت وصحّة الاعتذار بها فی صورة الخطأ وكون موافقتها انقیاداً ومخالفتها تجرّیاً، وبین الحجّة المجعولة، فإنّها أیضاً تكون كالحجّة الذاتیة.

فبناءً علیه لیس فی موارد الطرق والأمارات حكم من الأحكام الخمسة التكلیفیة حتى یستلزم محذور اجتماع الضدّین فی صورة الخطأ واجتماع المثلین فی صورة الإصابة، بل لیس إلّا الحكم الوضعی المجعول بجعل الشارع كسائر الاُمور الاعتباریة الوضعیة نحو الملكیّة وغیرها.

رابعها: ما أفاده المحقّق المذكور أیضاً([7]) بناءً على الإباء عن الوجه السابق، والقول باستتباع جعل الحجّیة للأحكام التكلیفیة، أو القول بأنّه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الأحكام وانتزاع الحجّیة من الأحكام التكلیفیة، فإنّ وجوب اتّباع الأمارة ینحلّ إلى وجوب الفعل إذا كان مؤدّاها وجوبه، وحرمته إذا كان المؤدّى حرمته، ومن هذا ینتزع تنجّز الواقع فی صورة الإصابة ومعذوریة المکلّف فی صورة الخطأ.

وهو: أنّ اجتماع الحكمین وإن كان یلزم إلّا أنّهما لیسا بمثلین ولا ضدّین؛ فإنّ

 

وجوب اتّباع الأمارة طریقیّ له مصلحة بحسب نفسه وهو رعایة الواقع ووصول المکلّف إلى الواقعیات، من دون أن تكون بالنسبة إلى متعلّقه بحسب كونه مؤدّى للطریق إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة، بل أُنشأ لأجل طریقیته إلى الواقع رعایةً لحفظ الواقع من جهة كون موارد إصابته أكثر من الطرق الّتی یستعملها العبد كالقطع وغیره.

فبناءً على هذا، إذا قامت الأمارة على وجوب شیء أو حرمته مثلاً ففی صورة الإصابة لیس فی البین حكمٌ وإرادةٌ إلّا الحكم الواقعی والإرادة الواقعیة، وأمّا الحكم الظاهری فیكون فانیاً فیه فناء الطریق فی ذی الطریق والمرآة فی المرئیّ، وفی صورة الخطأ لیس فی البین إلّا حكم ظاهریّ صوریّ من غیر أن یكون متعلّقاً لإرادة المولى وكراهته، ومن غیر أن تكون له فی نفسه مصلحة لعدم كونه طریقاً إلى الحكم الواقعی، وإنّما أمر المولى عبده به صورةً لأجل عدم إمكان تمیّز موارد إصابة الأمارة وعدمها، فأمر باتّباع الأمارة مطلقاً حفظاً لما تعلّق به غرضه من حفظ الواقعیات فی موارد الإصابة. فعلى هذا، لا یلزم محذور اجتماع المثلین ولا الضدّین، لأنّه فی صورة الإصابة یكون الحكم الظاهری مندكّاً وفانیاً فی الحكم الواقعی، وفی صورة الخطاء لا یكون الحكم الظاهری إلّا صوریّاً محضاً.

ولا یخفى علیك الفرق بین هذا الوجه والوجه الثانی؛ فإنّ الوجه الثانی مبنیّ على القول بفعلیة الحكم الظاهری وإسقاط الحكم الواقعی عن الفعلیة، وهذا الوجه مبنیّ على كون الحكم الواقعی فعلیاً وعدم كون الحكم الظاهری حكماً كسائر الأحكام.

هذا کلّه فی تقریر الوجوه الّتی أفادها المحقّق الخراسانی+.

أقول: والذی ینبغی أن یقال تتمیماً وتوضیحاً لما حقّقه المحقّق الخراسانی+ (فی الوجه الثانی والرابع) هو: أنّ روح الحكم لیس إلّا إرادة المولى أو كراهته المطلقة

 

صدور الفعل عن جمیع عباده أو تركه، ویكون المولى متسبّباً للمراد بإنشاء الخطاب المطلق ـ الّذی لا یكون مقیّداً بالعلم والجهل ـ ولكن لا یرید انبعاث المکلّف منه  إلّا فی ظرف علمه به، وذلك لا لقصور فی ناحیة المولى بل لقصور الخطاب لأن ینبعث منه العبد فی حال الجهل، ولكن حیث یرى عدم كون هذا الخطاب باعثاً لانبعاثه إلّا فی صورة العلم فلابدّ وأن یتوسّل لحصول مراده إلى خطاب آخر مثل إیجاب الاحتیاط أو إیجاب العمل على طبق الأمارة.

وهذا الخطاب لا ینشأ إلّا من الإرادة الّتی أُنشأ منها الخطاب الأوّل، فالمولى بكلا الخطابین یكون متسبّباً لحصول مراده. ولا فرق بینهما أصلاً، ففی صورة قیام الأمارة على الوفاق لا یكون حكماً فی البین إلّا الحكم الواقعی، وفی صورة قیامها على الخلاف لا یكون هنا حكم أصلاً بل هو حكم صوریّ ظاهریّ.

فإذا نظرنا إلى الخطاب الأوّل وأنّه لا یمكن أن یكون باعثاً للمكلّف نحو المراد ولا یرید المولى انبعاث عبده عنه ـ مع كون إرادته مطلقة ـ إلّا فی ظرف علمه به لقصور الخطاب عن البعث والتحریك فی غیر هذا الظرف، نقول: إنّ الحكم الواقعی إذا قامت الأمارة على الخلاف شأنی.

وإذا نظرنا إلى الإرادة الّتی تكون علّةً لإنشاء الخطابین وأنّ المولى أراد صدور الفعل من المکلّف مطلقاً وأنّ دائرة إرادته تكون أوسع ممّا تكون الخطابات الأوّلیة باعثة إلیه، نقول: إنّ الحكم الواقعی فعلیّ.

فیوجّه بهذا کلا الوجهین (الوجه الثانی والرابع)، إلّا أنّ الوجه الرابع هو الأقرب.

وحاصل هذا الوجه: أنّ الحكم الواقعی یكون فعلیاً فی صورة علم المكلّف به أو قیام الأمارة علیه، ولا یكون حكماً فی البین إلّا الحكم الواقعی الفعلی. وفی صورة الأمارة یكون الحكم الواقعی شأنیاً، والحكم الظاهریّ صوریّاً محضاً.

 

هذا کلّه بناءً على كون الأحكام الظاهریة طریقیة صرفة، كما هو الحقّ، وقد مرّ عدم صحّة القول بالموضوعیة.([8])

 

([1]) تقدّم فی المجلّد الأوّل، الصفحة 426 ـ 427.

([2]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج1، ص378  ـ 383.

([3]) الخراسانی، حاشیة کتاب فرائد الاُصول، ص36.

([4]) الخراسانی، حاشیة کتاب فرائد الاُصول، ص37.

([5]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص49.

([6]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص44.

([7]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص49.

([8]) تقدم فی الصفحة 65 ـ 66.

موضوع: 
نويسنده: