سه شنبه: 28/فرو/1403 (الثلاثاء: 7/شوال/1445)

الآیات الّتی استدلّ بها للاحتیاط والجواب عنها

أمّا الآیات الّتی استدلّ بها على الاحتیاط فطائفتان:

إحداهما: ما دلّت على النهی عن القول بغیر علمٍ، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.([1]) وقوله عزَّ من قائل: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.([2]) وغیرهما من الآیات الكثیرة الّتی ربما تبلغ ستّة عشر آیةً. بتقریب: أنّ الحكم بالجواز والترخیص فی ما یحتمل حرمته قولٌ بغیر علمٍ.

وجوابه یظهر ممّا أسلفناه،([3]) فإنّا لا نقول فی محتمل الحرمة بالجواز الشـرعی، ولا ندّعی ترخیص الشارع ارتكاب محتمل الحرمة حتى یقال بأنّكم تقولون على الله ما لا تعلمون، بل نحن ندّعی أنّ العقل مستقلّ بأنّ العبد لو احتمل التكلیف بعد بذل جهده فی سبیل الفحص عن الحكم ولم یطّلع على ما یدلّ علیه من الأدّلة، فلیس مستحقّاً للعذاب والعقاب لو ارتكب ما یحتمل حرمته أو ترك ما یحتمل وجوبه. ولیس معنى ذلك ترخیص الشارع ارتكاب محتمل الحرمة والحكم بالجواز الشرعی.

هذا مضافاً إلى أنّ هذا الدلیل ناهضٌ على الأخباری، فإنّ القول بوجوب الاحتیاط، والتفكیك بین الشبهة الوجوبیة والتحریمیة وبین الموضوعیة والحكمیة، قولٌ بغیر علمٍ.

 

ثانیتهما: ما تدلّ بظاهرها على وجوب الاحتیاط والتورّع والاتقاء، كقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا الله‏َ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.([4]) وقوله سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا الله‏َ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾.([5]) وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِی الله‏ِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾.([6]) وقوله عزّ شأنه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَیْدِیكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.([7]) وقوله تعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ فی شَیْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى الله‏ وَالرَّسُولِ﴾.([8])

والجواب: أمّا عن الآیات الثلاثة الاُول، فبمنع كون التقوى والجهاد فی الله حقّ جهاده إتیان العبادات الاختراعیة وتحریم المحلّلات وأخذ طریق التضییق وإدخال ما لم یعلم أنّه من الدین فی الدین ولو كان بعنوان الاحتیاط، بل حقیقتهما عبارة عن كمال الاهتمام والمراقبة فی فعل الواجبات وترك المحرّمات وحضور العبد لذلك وقیامه بوظیفة العبودیة. ولا دخالة لفعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة فی ذلك. ولیس ترك الأوّل وفعل الثانی مخالفاً للتورّع والتقوى، وإلّا یجب أن یكون العالم بجمیع الأحكام الممتثل لها غیر حائز لصفة التقوى.

وأیضاً لا ریب فی أنّه لا یستفاد من هذه الآیات إیجاباتٌ مستقلّةٌ، كسائر الأوامر والنواهی الراجعة إلى الموضوعات المختلفة، وإلّا یلزم أن یكون الآتی بالصلاة آتیاً بواجبین، أحدهما: ما وجب بالأمر بنفس الصلاة، وثانیهما: ما تعلّق بعنوان الاتّقاء.

فالمستفاد منها: أنّ المتكلّم یكون فی مقام تنبیه العباد وتذكیرهم بأنّ المکلّف یجب أن یتحرّز ویجتنب عن مخالفة التكالیف الإلهیة، ویبذل غایة جهده فی فعل الواجبات وترك المحرّمات بأن لا یترك من الواجبات شیئاً ولا یعمل بواحدٍ من المحرّمات.

 

والغرض من هذه التنبیهات إیقاظ الغافلین من نومة الغفلة، وسوق من لا یعظّم أمر أحكام الله إلى تعظیمها والجری على وفقها. فلا یستفاد من هذه العبارات أزید ممّا یكون الواعظ فی مقام بیانه من بیان ما یكون باعثاً لرغبة الناس إلى الطاعات وانزجارهم عن السیّئات.

ولا أظنّك أن تحتمل بأنّ هذه الآیات الكثیرة والروایات الواردة عن الأئمّة المعصومین^ بكثرتها، مثل ما روی عن أمیر المؤمنین ـ صلوات الله‏ علیه ـ فی المواعظ والخطب المشتملة على الأمر بالتقوى، تكون فی مقام إیجاب التقوى، لأنّ کلّها ـ كما تنادی بذلك المراجعة إلى كتب الروایات والمواعظ الصادرة عنهم^ ـ فی مقام الإرشاد والترغیب والتحریض، وإیجاد الدواعی فی المکلّفین لفعل الواجبات وترك المحرمات.

هذا، ولو احتمل أحدٌ خلاف ذلك، وحمل هذه الآیات على كونها فی مقام إنشاء إیجاب التقوى ـ كسائر الخطابات الواردة فی غیر هذا المورد ـ فلا فرق حینئذٍ فی ذلك ـ أی وجوب الاتّقاء ـ بین الشبهات التحریمیة والوجوبیة، وبین الشبهة الحكمیة والموضوعیة، ولا وجه للتفصیل بینهما كما زعمه الأخباری.

وأمّا الجواب عن الاستدلال بالآیة الرابعة: فبأنّ المراد من التهلكة إن كان الهلكة الاُخرویة فنقطع بعدمها. وإن كان المراد الهلكة الدنیویة، فالمحرّم هو الإلقاء فی الهلكة المعلومة، وأمّا ما لم یعلم وجود التهلكة فیه فالشبهة بالنسبة إلیه موضوعیة.

وأمّا الاستدلال بالآیة الخامسة ففیه أوّلاً: أنّ من الممكن أن یكون المراد ممّا تنازعوا فیه الشبهة الموضوعیة، فإنّه یجب فیه الرجوع إلى القضاة المنصوبین من جانب الله والرسول، لا قضاة الجور ومن تولّى أمر القضاء من جانب غیر المنصوب من قبل الله تعالى وهو الرسول|.

 

وثانیاً: لو سلّمنا أنّ المراد منه هو الشبهة فی الحكم، فلا یستفاد منه إلّا وجوب التسلیم لأمر الله تعالى وأمر الرسول. ولا منافاة فی ذلك مع القول بالبراءة وعدم استحقاق العقاب على فعل محتمل الحرمة بعد الفحص عمّا صدر عن الله والرسول والیأس عن الظفر.

هذا مضافاً إلى عدم الوجه فی التفصیل بین الشبهة التحریمیة الحكمیة وغیرها.

هذا تمام الكلام فی الآیات الّتی استدلّ بها الأخباریّون.

 

([1]) البقرة، 169.

([2]) الإسراء، 36.

([3]) تقدم فی الصفحة 9.

([4]) التغابن، 16.

([5]) آل عمران، 102.

([6]) الحجّ، 78.

([7]) البقرة، 195.

([8]) النساء، 59 .

موضوع: 
نويسنده: