شنبه: 1/ارد/1403 (السبت: 11/شوال/1445)

التنبیه الثانی عشر: جریان الاستصحاب فی الاعتقادات

قد عرفت ممّا سبق:([1]) أنّ الاستصحاب مورده الحكم الشـرعی أو الموضوع للحكم الشرعی، فإذا كان المستصحب حكماً شرعیاً كوجوب إكرام زید، أو موضوعاً لحكم شرعی كخمریة مائع، وشكّ فی بقاء وجوب الإكرام أو خمریة المائع، یجری استصحاب الوجوب فی الأوّل والخمریة فی الثانی.

وأمّا الموضوع اللغوی، فقد مثّل له بمثل الصعید المتیقّن كونه حقیقة فی مطلق وجه الأرض، وشكّ فی بقائه على المعنى الحقیقی عند نزول قوله تعالى: ﴿فَـتَـیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً،([2]) فیترتب على استصحاب معناه الحقیقی الحكم بجواز التیمّم على مطلق وجه الأرض.

 

ولكن التمسّك لإرادة هذا المعنى منه یكون مثبتاً، لأنّ إرادته من اللفظ تكون من الآثار العرفیة للمستصحب.

اللّهمّ إلّا أن یقال: بجریان الأصل المثبت فی باب اللغات، أو یبنى على خفاء الواسطة.

ولا فرق فیما ذكر بین أن یكون المورد من الاُمور الاختیاریة العملیة الّتی تتعلّق بالعمل الجوارحی، أو العمل الجوانحی والقلبی. وأمّا الّتی كان المهمّ فیها شرعاً المعرفة والیقین، فلا یجری فیها الاستصحاب لعدم ترتّب هذا الأثر علیه وعدم إمكان التعبّد بها، لأنّها من الاُمور الحقیقیة الخارجیة الّتی لا تتحصّل بالتعبّد بها والبناء علیها والجری العملی علیها.

إذن، فإذا كانت الموافقة الالتزامیة فی الأحكام الفرعیة واجبة یمكن أن یقال ـ إذا استصحبنا وجوب إكرام زید أو خمریة مائع ـ : كما تجب موافقته بالعمل الجوارحی تجب موافقته قلباً وبالعمل القلبی بالبناء علیه والتسلیم له.

أمّا فی الاُمور الاعتقادیة مثل وجود الله‏ تعالى وأسمائه وصفاته الكمالیة ممّا یكون المطلوب فیها العلم والمعرفة والیقین، فإذا شكّ فیه ـ والعیاذ به تعالى ـ لا یجری الاستصحاب، لأنّ الشكّ فیه یسری إلى الیقین السابق ویزیله هذا أوّلاً. وثانیاً: لأنّه لا یترتّب الأثر المطلوب منه ـ أی العلم والیقین ـ على استصحابه.

ویمكن بیان عدم جریان الاستصحاب بوجه آخر، وهو: أنّه مع حفظ الیقین بالله‏ تعالى یستحیل الشكّ فیه والجمع بین الیقین به والشكّ فیه، بخلاف موارد الاستصحاب المفروض فیها الیقین الفعلی بوجود المستصحب فی الزمان السابق والشكّ الفعلی فی وجوده، فمثل وجود الله تعالى وصفاته الثبوتیة والسلبیة والمعاد ومثل الحساب والمیزان ووجود الملائكة ونبوّة الأنبیاء كنبوّة إبراهیم وموسى وعیسى^ ونبیّنا خاتم الأنبیاء| وكذا الولایة الحكومیة الثابتة للنبیّ والأئمّة^

 

من الاُمور المتقوّمة بحیاتهم العنصـریة دون شؤونهم الذاتیة الّتی لا تزول بارتحالهم، فلا یتطرّق الشكّ فی بقاء تلك الحكومة، لأنّها ثابتة لهم ما داموا هم فی هذه الدنیا، فلا یمكن اجتماع بقاء الیقین بها فی زمان والشكّ فیها فی زمان آخر.

نعم، یمكن الشكّ فی بقاء هذه الشؤون الدنیویة لهم للشكّ فی بقاء حیاتهم ولكن استصحاب حیاتهم أیضاً لا یوجب القطع والیقین بها فیجب الفحص عنها لوجوب معرفة إمام الزمان، ومثل هذا الشكّ لا یقع فی إمام زماننا× الّذی لو بقیت الأرض بغیر وجوده لساخت بأهلها، وبالنسبة إلى الأنبیاء^، فلا معنى للشكّ فی حیاتهم لارتحالهم صلوات الله علیهم إلى الله‏ تعالى، وبالنسبة إلى نبوّتهم أی بقاء شریعتهم ممّا هو مختصّ بشرائعهم فلا شكّ فی نسخ الجمیع بالشریعة الخاتمیة المحمدیة، وبالنسبة إلى بعض الأحكام ممّا یحتمل بقاؤه فی هذه الـشریعة، فیجری فیه الاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى شریعة نبینا| الشریعة الخاتمیة، فالشكّ فیها إن وقع یرجع إلى نسخ بعض الأحكام فی عصر الرسالة، وأمّا الشكّ فی أصل الشـریعة ونسخ تمام الأحكام أو بعضها بعد عصر الرسالة فهو خلاف ما قامت به الضـرورة بین المسلمین فحلال محمّد| حلال إلى یوم القیامة وحرامه حرام إلى یوم القیامة.

 

([1]) فی التنبیه السابع.

([2]) النساء، 43؛ المائده، 6.

موضوع: 
نويسنده: