جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

التنبیه الثالث عشر: فی استصحاب حكم المخصّص

إعلم: أنّه قد اختلفوا فیما إذا ورد عامّ وخصّص فی زمان، فهل یكون المورد بعد هذا الزمان مورداً للاستصحاب أو التمسّك بالعامّ؟ ـ بعد اتّفاقهم على عدم جریان الاستصحاب مع دلالة العامّ ـ على أقوال:

الأوّل: أنّه یتمسّك فیه بالعموم مطلقاً. وهو مختار المحقّق الثانی، واختاره سیّدنا

 

الاُستاذ+ على ما حكاه عنه الفاضل المقرّر.([1])

الثانی: أنّ المرجع هو استصحاب حكم المخصّص مطلقاً وعزی اختیاره إلى السیّد بحر العلوم رضوان الله‏ تعالى علیه.

الثالث: التفصیل بین ما إذا كان المخصّص لبّیاً فیتمسّك فیه بالعامّ، وما إذا كان لفظیاً فیتمسّك فیه باستصحاب حكم المخصّص. ونسب هذا القول إلى صاحب الریاض&.

الرابع: التفصیل بین ما إذا كان الزمان مفرّداً فیقال بالتمسّك بالعامّ، وبین ما إذا كان ظرفاً، فالمرجع هو استصحاب حكم المخصّص. وهو مختار الشیخ الأنصاری+.([2])

الخامس: التفصیل بین ما إذا اُخذ الزمان قیداً لكلّ من العامّ والخاصّ فالمرجع هو العامّ دون استصحاب الخاصّ.

أمّا عدم جریان استصحاب الخاصّ، فلأنّه كان مقیّداً بالزمان مثل قوله: «أكرم العلماء فی کلّ زمان ولا تكرم زیداً العالم فی یوم الجمعة» فاستصحاب حرمة إكرامه فی یوم السبت یكون من استصحاب حكم موضوع لموضوع آخر، وبطلانه أوضح من أن یخفى، فلا یجوز التمسّك بالاستصحاب ولو لم یكن هنا عامّ فی البین.

وأمّا التمسّك بعموم العامّ، فلانحلاله بأحكام متعدّدة متعلّقة بموضوعات متعدّدة لا یخرج بعضها عن العامّ بخروج بعضها، فإذا ثبت تخصیص العامّ بخروج بعض الأفراد عن تحته وشكّ فی خروج سائر الأفراد فالشكّ یكون فی زیادة التخصیص ومقتضى الأصل عدمه والرجوع إلى العامّ كما هو الحال فی صورة الشكّ فی أصل التخصیص.

وهكذا إذا اُخذ الزمان قیداً فی العامّ وظرفاً للخاصّ، فإنّ فی مثله لا شكّ فی إجراء

 

حكم العامّ. ومع قطع النظر عن العامّ یكون المرجع استصحاب حكم الخاصّ، إلّا أنّه لا مجال له مع وجود العامّ. ففی هاتین الصورتین یكون الحكم الرجوع إلى العامّ.

وبین ما إذا کان الزمان مأخوذاً ظرفاً للحكم فی العامّ وقیداً فی الخاصّ، لأنّ فیه لا مجال للتمسّك بالعامّ الّذی كان مفاده ثبوت الحكم بنحو الدوام والحال أنّه انقطع بالخاصّ وقطع استمراره ولا یكون متكفّلاً لبیان حكم المورد بعد انقطاعه، كما لا یجری استصحاب الحكم المخصّص، فلابدّ من الرجوع إلى سائر الاُصول.

وكذا إذا كان الزمان ظرفاً فی کلّ واحد من العامّ والخاصّ، فلا یجوز التمسّك بالعامّ لانقطاع استمراره بالخاصّ، ولكن یكون المرجع هو استصحاب حكم الخاصّ.

فهاتان الصورتان مشتركتان فی عدم جواز الرجوع إلى العامّ، غیر أنّ المرجع فی الصورة الاُولى یكون غیر الاستصحاب من سائر الاُصول، وفی الثانیة یكون المرجع استصحاب الخاصّ. وهذا ما اختاره المحقّق الخراسانی، ولكنّه استدرك عن الحكم فی الصورة الأخیرة ما إذا ورد التخصیص على العامّ من أوّله كما إذا قال: «أنفق فی سبیل الله فی تمام هذه السنة»، ثمّ قال: «لا تنفق على زید فی أوّل ساعة من السنة»، فقال بجواز التمسّك بالعامّ لوجوب الإنفاق فیما بعد الساعة الاُولى من الساعات، بخلاف ما إذا قال: لا تنفق علیه فی الشهر الثانی مثلاً.

والوجه فی هذا التفصیل عنده: أنّ فی الأوّل لم ینقطع الحكم حتى لا یمكن التمسّك بالعامّ، لأنّ أوّل زمان وجوده المستمرّ بعد الزمان الأوّل الّذی دلّ الخاصّ على خروجه عن تحت العامّ، دون الثانی. وبنى على ذلك جواز التمسّك بـ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ([3]) لو خصّص بخیار المجلس أو خیار الحیوان، دون الثانی فإنّه ینقطع به حكم العامّ.([4])

 

وعلى هذا، الفرق بین ما اختاره الشیخ وصاحب الكفایة فیما إذا كان الزمان ظرفاً فی کلّ من العامّ والخاصّ صار مختار الشیخ عدم جواز التمسّك بالعامّ مطلقاً واستصحاب حكم المخصّص، ومختار صاحب الكفایة التفصیل بأن لا یجوز التمسّك بالعامّ إذا ورد التخصیص فی الأثناء دون ما إذا كان وارداً فی الابتداء. ولا یجری الاستصحاب إذا كان الزمان قیداً للخاصّ.

وربّما یورد علیهما بأنّ الزمان إذا لم یؤخذ مفرّداً فی العامّ كقوله: «أكرم العلماء» من غیر تقیید بمثل قوله: «فی کلّ زمان» أو «فی کلّ یوم» فإكرام العلماء إمّا یكون عبرة لكل من أفراد إكرامهم على نحو العامّ الاستغراقی فیدلّ بالعموم على وجوب إكرام کلّ فرد من العلماء، كما یدلّ بالإطلاق على وجوب کلّ فرد منهم حسب جمیع حالاته الطارئة، فإذا خرج فرد منه فی حال من حالاته وشكّ فی شمول دلیله لسائر حالاته یتمسّك بإطلاق العامّ للحكم علیه بالعامّ.

وبعبارة اُخرى یتمسّك بعموم العامّ للحكم على أفراد العامّ، ولحالات الأفراد بإطلاق الإكرام.

وإمّا یكون الإكرام موضوعاً للعامّ على نحو الطبیعة الساریة فی الأفراد بأن یكون کلّ فرد من أفراد الإكرام مصداقاً وفرداً لها من غیر أن یكون کلّ واحد من المصادیق ملحوظاً مستقلّا ولكنّه یكون بحیث لو خالف المکلّف فی بعض المصادیق ولم یأت به لا یسقط عنه وجوب الإتیان بسائرها، وفی مثل هذا أیضاً كما یكون إكرام کلّ فرد من أفراد العلماء مصداقاً لطبیعة الإكرام الساریة فی جمیع الأفراد بقوله: «أكرم العلماء» أو «أوفوا بالعقود» یكون کلّ فرد منه فی کلّ حال من أحواله مصداقاً للإكرام والوفاء.

فعلى هذا، یمكن أن یقال: بورود الإشكال على الشیخ القائل بعدم جواز الرجوع

 

إلى العامّ إذا كان الزمان ظرفاً للعامّ، وكذا على صاحب الكفایة القائل بالتفصیل المذكور، فیجوز التمسّك بإطلاق موضوع دلیل العام.

اللّهمّ إلّا أن یقال: معنى كون الزمان ظرفاً للعامّ أنّ مثل الوفاء فی مثل «أوفوا بالعقود» یكون أمراً بسیطاً فی وعاء الزمان بحیث لو خولف فی زمان من الأزمنة سقط الأمر به بالعصیان، وفی مثله إذا خصّص بزمان لا یمكن التمسّك بالعامّ لوجوبه فی سائر الأزمنة لقطع حكمه به، فتأمّل.

هذا، وقد أفاد السیّد الاُستاذ ـ طاب الله‏ مضجعه ـ بعد بیان ما أفاد اُستاذه صاحب الكفایة: ما یوافق حاصل ما ذكرناه من التمسّك بالعامّ مطلقاً، وعدم جواز التمسّك بالاستصحاب وإن كان الزمان ظرفاً للعامّ بتقریب: أنّه لا شكّ فی وجوب التمسّك بالعامّ إذا كان کلّ زمان من الأزمنة مفرّداً لموضوعه وخرج منه بعض أفراده فی زمان من الأزمنة وشكّ فی حكم ذلك الفرد بعد هذا الزمان، لأنّ مثل «إكرم العلماء» ـ باعتبار كون الزمان مفرّدا له ـ یتكثّر وینحلّ بموضوعات متكثّرة كما ینحلّ الحكم أیضاً به بأحكام كثیرة. فإذا ورد دلیل خاصّ على عدم إكرام زید فی زمان خاصّ لا ریب فی أنّه یتمسّك بالعامّ فی وجوب إكرام زید فی غیر هذا الزمان، كما یتمسّك به فی وجوب إكرام غیر زید من أفراده العرضیة.

وإذا كان العامّ مقیّداً بالدوام كقوله: «أكرم العلماء دائماً» یكون موضوع کلّ حكم ـ من الأحكام الّتی انحلّ العامّ بها ـ الإكرام الدائم له فی جمیع حالاته وفی جمیع الأزمنة على سبیل العامّ المجموعی، بمعنى أنّ المولى اعتبر مجموع الإكرامات المستمرّة المتتالیة شیئاً واحداً وأمر بها نظیر المركّب. وكما إذا قال: «أكرم هذه الفئة» أو «أعتق هذه العشرة». فإذا قال: «لا تكرم زیداً العالم فی یوم الجمعة» یكون دلیلاً على خروج زید عن تحت «أكرم العلماء یوم الجمعة» وساكتاً عن حكمه بعد یوم الجمعة فیبقى ما بعد

 

یوم الجمعة تحت العامّ، فإذا كان العامّ ملحوظا على سبیل العامّ المجموعی فكما یشمل أفراده العرضیة بعد خروج فرد منه كذلك یشمل أفراده الطولیة بعد خروج فرد منها.

وبعبارة اُخرى: یكون مفاد العامّ مطلوبیة مجموع الإكرامات، ومفاد الخاصّ خروج مقدار منها عن المطلوبیة، فیبقى غیره باقیاً على مطلوبیته. إذن: لا فرق بین هذه الصورة والصورة الاُولى إلّا فی كون الخارج فی الأوّل الفرد، وفی الثانی البعض أی بعض المجموع.

وهنا قسم ثالث، وهو: ما إذا لم یكن مقیّداً بالزمان أصلاً لا على كون التقیّد به مفرّداً، أو مستمرّاً، مثل قوله: «أكرم العلماء».

ففیه: إن كان العامّ دالّا على مطلوبیة الإكرام فی الجملة ولم یكن له إطلاق، یكون مفاده فی مثل «أكرم العلماء» إكرام کلّ فرد منهم فی الجملة، فإذا دلّ دلیل الخاصّ على عدم مطلوبیة إكرام زید مثلاً فی یوم الجمعة لا یكون مانعاً من التمسّك بالعامّ لمطلوبیة غیره فی الجملة. ولا یكون معارضاً للعامّ فی أصل المطلوبیة فی الجملة، بل یكون مبیّناً للدلیل ورافعاً لإجماله.

وإن كان له إطلاق بحسب الزمان، فلا یخلو إمّا أن یستفاد من الإطلاق مطلوبیة کلّ فرد منه على حدة بحیث یكون إكرام کلّ یوم فرداً من العامّ فیكون إطلاقه راجعاً إلى الأوّل یتمسّك به فی غیر یوم الجمعة، أو یستفاد منه المطلوبیة على الدوام والاستمرار فیكون إطلاقه راجعاً إلى الثانی ویعامل معه معاملة العامّ المجموعی، كما قد عرفت.

فإن قلت: المستفاد من تقیّد العامّ بالدوام اتّصال مطلوبیة الإكرام على الدوام، فإذا انقطع الاتّصال بالدلیل لا یبقى مجال للتمسّك بالعامّ فنحتاج إلى دلیل آخر دالّ على مطلوبیة الباقی من العامّ تحت الحكم بعنوان آخر.

قلت: مدلول العامّ المقیّد بالدوام والاستمرار هو الاتّصال والمتصل بالحمل الشائع

 

لا الحقیقی وهو العامّ المجموعی، ولیس عنوان الاتّصال مأخوذاً فی موضوعه ولا یستظهر ذلك من لفظ الدوام والاستمرار، بل یمكن دعوى ظهوره فی خلافه.

هذا، ولا یخفى علیك: أنّ ما ذكر یكون فیما إذا كان الدوام قیداً للواجب.

وأمّا إذا كان قیداً للوجوب ـ كما هو الظاهر من الكفایة فإنّه جعل الدوام قیداً للحكم، ومعنى تقییده بالدوام أنّه لا ینسخ إلى الأبد وإن كان المطلوب من متعلّقه إیجاد نفس الطبیعة الّذی یحصل بوجود فرد منها ـ  فالحكم أیضاً فی غیر مورد الخاصّ هو التمسّك بالعام، لدلالة العامّ على بقاء الحكم فی غیر مورد الخاصّ، كما عرفت ذلك، بالإضافة إلى كون الدوام والاستمرار قیداً للموضوع، فتدبّر وراجع التقریرات([5]) لعلّك تستفید منه ما هو أزید ممّا قلناه، والله هو الهادی إلى الصواب.

 

([1]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة علی كفایة الاُصول، ج2، ص439.

([2]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص395 (العاشر من التنبیهات).

([3]) المائدة، 1.

([4]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص342.

([5]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص439 - 442.

موضوع: 
نويسنده: