جمعه: 7/ارد/1403 (الجمعة: 17/شوال/1445)

فصل

لا یخفى أنّه إذا كان التعارض بین الإثنین وكان أحدهما أظهر من الآخر یحمل الظاهر على الأظهر، وإذا لم یكن أحدهما كذلك فالحكم ما ذكر من التخییر أو الترجیح.

وأمّا إذا وقع التعارض بین أزید من اثنین كما إذا كان هنا عامّ قد خصّص بخاصّین أو أزید فتارة: تكون نسبة أحدهما مع العامّ بعد ملاحظته مع الثالث كنسبته قبل هذه الملاحظة، كما إذا قال: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق منهم» و«لا تكرم زیداً العالم العادل» فإنّ نسبة «لا تكرم زیداً العالم العادل» مع «أكرم العلماء» العموم المطلق، وبعد ملاحظة العامّ مع قوله: «لا تكرم الفسّاق منهم» یخصّص العامّ بالعلماء العدول، ونسبة «لا تكرم زیداً العالم العادل» معه العموم المطلق لا تتفاوت قبل ملاحظة نسبة العامّ مع «لا تكرم الفسّاق منهم» وبعده. وهكذا لا تتفاوت نسبة «لا تكرم الفسّاق منهم» مع العامّ بعد ملاحظة تخصیصه بـ «لا تكرم زیداً العالم العادل» وقبله. ففی مثله لا تنقلب النسبة بملاحظة نسبة أحد الخاصّین مع العامّ بعد ملاحظة نسبته مع الآخر، فلا محلّ للاختلاف فی أنّه هل یلاحظ کلّ خاصّ مع العامّ بنفسه أو بعد ملاحظة نسبة الخاصّ الآخر معه وتخصیصه به؟

مثال آخر: إذا قال: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق» و«یستحبّ إكرام الشعراء»، فنسبة کلّ واحد منها إلى الآخر بنفسه العموم من وجه، فمادّة افتراق العلماء من الفسّاق «العالم العادل» ومن الشعراء «العالم غیر الشاعر» ومادة افتراق الفسّاق من

 

العلماء «الفاسق غیر العالم» ومن الشعراء «الفاسق غیر الشاعر»، وأیضاً مادّة افتراق الشعراء من العلماء «الشاعر غیر العالم» ومن الفسّاق «الشاعر غیر الفاسق». ومادّة اجتماع «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق» العالم الفاسق ومادّة اجتماع «أكرم العلماء» و«یستحبّ إكرام الشعراء» «العالم الشاعر»، ومادّة اجتماع «لا تكرم الفساق» و«یستحب إكرام الشعراء» «الشاعر الفاسق».

ثم إذا لوحظ، نسبة کلّ من الثلاثة مع غیره منها بعد ملاحظة الآخر معه تكون النسبة بینهما عموماً من وجه، فإذا خصّص العلماء بغیر الفاسق تكون النسبة بینه وبین الشعراء عموماً من وجه، لا تنقلب النسبة التی كانت بین الشعراء والعلماء قبل تخصیص العلماء بغیر الفاسق.

مثال آخر: «أكرم العلماء» و«یكره إكرام العصاة منهم» و«یحرم إكرام مرتكب الكبیرة منهم».

وبالجملة: فمثل هذه الأمثلة خارجة عن محلّ الكلام، وإنّما الكلام فی صورة انقلاب النسبة بعد الجمع بین أحدها والآخر وحمل الظاهر منهما على الأظهر وملاحظة الثالث كما إذا ورد «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق منهم» و«یستحبّ إكرام الشعراء منهم» فنسبة أكرم العلماء، وإن شئت قلت: نسبة وجوب إكرام العلماء مع کلّ من حرمة إكرام الفسّاق منهم واستحباب إكرام الشعراء منهم، نسبة العامّ والخاصّ (العموم المطلق)، ولكن إذا خصّص وجوب إكرام العلماء بحرمة إكرام الفسّاق ثم لوحظ معه استحباب إكرام الشعراء منهم تنقلب النسبة الّتی كانت بینه وبین العامّ بالعموم من وجه.

وهكذا لو لوحظ أوّلاً نسبة استحباب إكرام الشعراء من العلماء مع وجوب إكرام العلماء، ثم لوحظت نسبة حرمة إكرام الفسّاق منهم معه، تنقلب النسبة من العموم

 

المطلق إلى العموم من وجه، فمادة افتراق وجوب إكرام العالم غیر الفاسق مع استحباب إكرام الشعراء من العلماء وجوب إكرام العالم العادل غیر الشاعر، ومادّة افتراق استحباب إكرام الشعراء عن وجوب إكرام العالم العادل استحباب إكرام العالم الشاعر الفاسق، ومادّة اجتماعهما العالم العادل الشاعر.

وفی هذا القسم من التعارض الواقع بین أكثر من إثنین وقع الخلاف فی أنّ علاج التعارض هل یكون بملاحظة کلّ منهما بنفسه مع الآخر بنفسه؟ ففی المثال یخصّص عامّ «أكرم العلماء» بـ «لا تكرم الفسّاق منهم»، ویقال بتخصیص العامّ بالخاصّ، كما یخصّص باستحباب إكرام الشعراء منهم، ویقال بوجوب إكرام غیر الشعراء من العلماء؟ أو أنّه یعالج تعارض أحدهما مع الآخر بملاحظة کلّ منهما بنفسه أوّلاً وحمل أحدهما على الآخر، وملاحظة نتیجة هذه الملاحظة ثانیاً مع الثالث؟ فإنّه یكون بالعموم من وجه فیأتی الكلام فی مادّة اجتماعهما، كما قلنا فی المتباینین من القول بالتخییر أو الترجیح.

نسب الثانی إلى الفاضل النراقی([1]) إمّا مطلقاً أو إذا كان أحد الخاصّین لبّیاً والآخر لفظیاً.

ووجه الثانی: أنّ المخصّص إذا كان لبّیاً یكون كالمخصّص المتّصل فی مزاحمته لظهور العامّ فیه، ویكون العامّ المخصّص به ظاهراً فی غیر ما خصّص به، فیلاحظ هو مع العامّ ویخصّص العامّ به، ثمّ یلاحظ نسبة الثالث مع العامّ.

ویجاب عن ذلك بأنّه لیس من المتّصل بشیء، فإنّ فی المخصّص المتّصل یستعمل العامّ فی العموم، ویستفاد ضیق دائرته من مدخوله وتقیّده بقید خاصّ، فلا ینعقد له الظهور سعةً وضیقاً إلّا بمدخوله. وأمّا فی المخصّص اللبّی فینعقد له الظهور فی

 

مدخوله اللفظی دون اللبّی، وإنّما یكون المخصّص اللبّی مانعاً عن حجّیة العموم فیه لا عن ظهوره فیه.

ومن هنا یظهر الجواب إذا كان المراد من هذا القول، أی لحاظ العامّ مع أحد الخاصّین المنفصلین ثم لحاظ العامّ المخصّص به مع الآخر، أعمّ من المنفصل اللفظی واللبّی؛ وذلك لعدم انثلام عموم العامّ بورود المخصّص المنفصل علیه سواء كان لفظیاً أو لبّیاً، غایة الأمر أنّه مانع عن حجّیته فیه، فظهور العامّ باقٍ على حاله ونسبة الخاصّ الآخر معه باقیة على حالها.

وبالجملة: العامّ المخصّص بالمنفصل مستعمل فی العموم وظاهر فی كونه مراداً بالإرادة الجدّیة، والخاصّ یدلّ على عدم كونه مراداً كذلك فیه، لا أنّه لیس ظاهراً فی العموم واستعمل فی غیر الخاصّ، فلا یرتفع به التعارض الّذی كان بینه وبین الخاصّ بالعموم المطلق.

ویدلّ على عدم انثلام عموم العامّ بورود التخصیص علیه حجّیته فی تمام الباقی، وإلّا فیمكن أن لا یكون حجّة فیه لإمكان أن یكون المستعمل فیه العامّ دون هذه المرتبة ومرتبة من مراتبه. وأیضاً یأتی الكلام فی وجه سبق تخصیص العامّ بأحد الخاصیّن دون الآخر. وفی غیر العامّ والخاصّ أیضاً من الأدلّة المتعارضة یأتی هذا الإشكال؛ فإنّ تقدیم هذا الخاصّ فی تخصیص العامّ على الآخر أو ملاحظة نسبة هذا الدلیل مع الآخر أوّلاً دون الثالث ترجیح بلا مرجّح.

وبهذا یجاب عمّا یقال: من أنّ التعارض بین الدلیلین أو الأدلّة یلزم أن یكون واقعیاً، ولا یكون ذلك إلّا فیما یكون الدلیلان حجّة فیه. وبعبارة اُخرى: لا یتحقّق التعارض إلّا إذا كان کلّ من الدلیلین أو الأدلّة حجّة فیما كان غیره حجّة فیه بعد تخصیصه بالدلیل الآخر لا قبله، فإنّ دفع التعارض حینئذ بین الأدلّة، مثل العامّ

 

والخاصّین، إذا كان منوطاً بملاحظة مدلول أحدهما مع الآخر ثم ملاحظة مدلول الآخر مع نتیجة الملاحظة الاُولى الّذی هو معارض لها، یحتاج إلى تقدیم تخصیص العامّ بأحدهما ثم ملاحظة مدلول الآخر مع مدلول العامّ المخصّص بالأوّل ولا ریب أنّ تقدیم کلّ منهما على الآخر ترجیح بلا مرجّح.

وبعبارة اُخرى: إذا قلنا بعدم وقوع التعارض بین العامّ بنفسه إذا كان مخصّصاً والخاصّ الآخر، لأنّ العامّ بنفسه لیس حجّة فی مدلوله بل حجّة فی غیر المخصّص من أفراده، فلابدّ أن یقال بوقوع التعارض بین العامّ حال كونه مخصّصاً بأحد الخاصّین والخاصّ الآخر؛ یقع الكلام فی تقدیم تخصیص العامّ بهذا الخاصّ أو بغیره، ولا وجه لتقدیم أحدهما على الآخر مع أنّ النتیجة تتفاوت به.

ففی المثال: إذا خصّصنا أوّلاً عموم «أكرم العلماء» بـ «لا تكرم الفسّاق منهم»، تكون النتیجة وجوب إكرام العلماء العدول، ونسبة استحباب إكرام الشعراء منهم معها العموم من وجه، ویقع التعارض بینهما فی العالم الشاعر العادل. وأمّا إذا خصّصنا أوّلاً عموم «أكرم العلماء» باستحباب إكرام الشعراء منهم تكون النتیجة وجوب إكرام العلماء غیر الشعراء منهم، والنسبة ما بین تلك النتیجة وحرمة إكرام الفسّاق منهم أیضاً العموم من وجه، فیقع التعارض بینهما فی العالم الفاسق غیر الشاعر. إذن فلا وجه لتقدیم إحدى الملاحظتین على الاُخرى.

فإن قلت: یخصّص العامّ بكلّ من الخاصّین بعد تخصیصه بالآخر.

قلت: نتیجة ذلك تساقط الجمیع فی مدالیلهما إذا قلنا بتساقط الدلیلین فی مادّة الاجتماع، فالعلماء کلّهم إمّا هم فسقة غیر الشعراء، وإمّا هم شعراء عدول، ولا یبقى منهم إلّا العلماء الفسقة، والنتیجة تكون وجوب إكرام العلماء من الفسقة والتخصیص المستهجن، ولا أظنّ یلتزم به الفاضل النراقی ومن یرى رأیه.

 

وبالجملة: فالوجه هو مختار الشیخ([2]) وصاحب الكفایة.([3]) وحینئذ إذا كان هناك عام مخصّص بخاصّین أو أكثر، فإمّا أن یكون على نحو لو خصّص بالخاصّین لا یبقى تحت العامّ فرد من أفراده وتكون الخصوصیات مستوعبة لها، أو یكون على وجه لا یبقى تحته من الأفراد إلّا ما یلزم منه التخصیص المستهجن، أو لا تصیر بالتخصیصات المذكورة لا من الأوّل ولا من الثانی بل یبقى تحته بعد التخصیص ما یكون أكثر ممّا خرج عنه أو یساویه على البناء على أنّه لیس من التخصیص المستهجن.

أمّا حكم الثالث فبناءً على ما ذكر معلوم، فیخصّص العامّ بكلّ واحد من الخصوصات بنفسه دون ملاحظة تخصیصه بغیره.

وأمّا الأوّل والثانی، فإن كان بین الخصوصات قطعی فیقدّم فی تخصیص العامّ به على الظنّی، لأنّه متیقّن الخروج عن تحت العام، وإن لم یكن بینها قطعی فلابدّ من ترجیح العامّ أو الخصوصات بالسند، لأنّه إذا لم یمكن الجمع الدلالی بین العامّ وبینها تكون النسبة بین العامّ وبینها التباین، وعلى ذلك إن كان الترجیح للخصوصات بأن لا یكون بینها ما هو مرجوح بالنسبة إلى العامّ، أو اختیر الخصوصات لفقد المرجّح فی أحد الطرفین على الآخر، فلابدّ من طرح العامّ وترك العمل به. وإن كان الترجیح للعامّ أو اختیر العامّ لفقد المرجّح فیترك مجموع الخصوصات لا جمیعها، لأنّ المعارض للعامّ هو المجموع دون الجمیع، وحینئذ یقع التعارض بین الخصوصات لتخصیص العامّ بها بمقدار لا یكون من التخصیص المستهجن، فإن كان بینها ما هو الأرجح الوافی بهذا المقدار یؤخذ به وإلّا فالحكم هو التخییر بالأخذ من الخصوصات إلى حدّ لا یكون الأخذ به مستهجناً، فتدبّر.

 

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكر: حكم ما إذا كانت النسبة بین المتعارضات متّحدة، سواء كان على وجه العموم المطلق أو على وجه العموم من وجه، ومثاله كما مرّ: أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق، ویستحبّ إكرام الشعراء، فإنّ نسبة کلّ من الثلاثة مع الآخر العموم من وجه، ولا ریب فی أنّه یقع التعارض بینها فی العالم الشاعر الفاسق، وحكمه إمّا العمل بالترجیح إن كان بعضها واجداً لموجبه، أو التخییر مطلقاً.

وأمّا إذا كانت النسبة بین المتعارضات متعدّدة، مثل: ما إذا ورد عامّان من وجه كأن یقول: أكرم العلماء، ویستحبّ إكرام العدول، فالنسبة بینهما العموم من وجه، وورد ما هو خاصّ بالنسبة إلى الأوّل، كقوله: لا تكرم فسّاق العلماء، فهل فی مثله یؤخذ فی الأوّلین ـ ابتداءً وقبل ورود المخصّص على الأوّل ـ بالعموم من وجه فیعمل فی مادّة اجتماعهما على أحد المبنیین إمّا الأخذ بما فیه الترجیح أو التخییر، أو یخصّص أوّلاً «أكرم العلماء» بقوله: «لا تكرم الفسّاق منهم»، ثم یلاحظ نسبة استحباب إكرام العدول مع العامّ المخصّص وهی العموم المطلق وترتفع به المنازعة فی مادّة اجتماع الأوّلین؟ وهذا هو اختیار الشیخ([4]) خلافاً لصاحب الكفایة،([5]) لأنّ ظهور العامّ ـ كما قلناه ـ لا ینثلم بالخاصّ، ولا یعارض الخاصّ المنفصل مع العامّ إلّا فی حجّیته فی الخاصّ لا فی ظهوره فیه فتعارض استحباب إكرام العدول مع وجوب «أكرم العلماء» فی مادّة اجتماعهما ـ وهو العالم العادل ـ باقٍ على حاله وإن خصّص «أكرم العلماء» بقوله: «لا تكرم فسّاقهم».

فإن قلت: فی المثال المذكور تخصیص «أكرم العلماء» بـ «لا تكرم فسّاقهم» موجب لتقدیم العامّ المخصّص ـ وهو أكرم العلماء العدول ـ على استحباب إكرام العدول فی

 

مادّة الاجتماع ـ وهو العالم العادل ـ لأنّه لو قدّم استحباب إكرام العدول على إكرام العلماء العدول لا یبقى مورد له، بخلاف أن لو قدّم وجوب إكرام العلماء العدول على استحباب إكرام العدول فإنّه یبقى تحته العدول من غیر العلماء، فالأوّل یكون كالنصّ فی شموله لأفراده، والثانی ظاهر فی شموله لتمام أفراده، فیحمل الظاهر على النصّ.

قلت: نعم، یكون كذلك ولكن هذا لیس من جهة انقلاب النسبة، كما هو ظاهر لا یخفى.

 

 

 

([1]) النراقی، عوائد الأیّام، ص119 - 120، العائدة 40.

([2]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص458.

([3]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص406.

([4]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص458.

([5]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص409.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: