پنجشنبه: 30/فرو/1403 (الخميس: 9/شوال/1445)

فصل
فی اضمحلال الاجتهاد

إذا زال رأی المجتهد بالتردّد فی المسألة، أو تبدّل رأیه برأی جدید، فإمّا یكون مورده وجوب فعل أو حرمة فعل، فلا خلاف فی أنّه إذا زال رأیه الأوّل فی کلّ منهما وتردّد فی حكمه لا یجب علیه بعد ذلك فعل الأوّل ولا ترك الثانی.

وإن كان قد ترك الأوّل أو فعل الثانی قبل زوال رأیه فلا شیء علیه، إلّا إذا قلنا بحرمة التجرّی فیجب علیه التوبة.

وإن تبدّل رأیه من الوجوب إلى الحرمة أو من الحرمة إلى الوجوب یجب علیه البناء على رأیه الجدید فی الأعمال اللاحقة، ولا شیء علیه من جهة الأعمال السابقة إن ترك الأوّل أو فعل الثانی، فإنّه أتى بمؤدّى رأیه اللاحق.

وأمّا إن فعل الأوّل فلا شیء علیه تكلیفاً، لأنّه كان معذوراً فی فعله، لأنّ تكلیفه إن كان الوجوب فقد أدّاه، وإن كان تكلّفه الترك فعن عذر فعله.

نعم، یترتّب علیه ما یترتّب علیه من الحكم الوضعی.

وأمّا إن ترك الثانی، أی ما كان یراه حراماً، وتبدّل رأیه بوجوبه، فإن لم یكن لتركه على الاجتهاد الثانی قضاء وتدارك فلا کلام أیضاً، وإن كان یجب علیه تداركه بالقضاء. فالقول بالإجزاء وكونه مكلّفاً بالترك مستلزم للقول بالتصویب المستلزم للدور، وخلاف الإجماع. اللّهمّ إلّا أن یقال: بالسببیة فی باب الطرق والأمارات.

 

وإذا كان تكلیفه مردّداً بین وجوب هذا الفعل أو حرمة فعل آخر، وأدّى اجتهاده إلى أنّه أحدهما المعیّن، ثم تبدّل رأیه بأنّه الآخر، فهل یجزی الأوّل عن الثانی إن أدّاه قبل تبدّل رأیه مع بقاء وقت الإتیان بالثانی؟ ففیه أیضاً أنّه لا وجه للإجزاء إلّا على القول بالسببیة، دون سائر الأقوال.

ومن هنا یظهر أنّه لو كان رأیه السابق عدم وجوب صلاة العید فتبدّل إلى الوجوب، لا مجال للكلام فی أنّه هل یجب علیه البناء فیما مـضى علیه على الاجتهاد السابق أو الاجتهاد الجدید.

ومثّلوا أیضاً بما إذا كان رأیه السابق جواز النكاح بالعقد بالفارسیة وعقد على إمرأة بالصیغة الفارسیة فزال رأیه وتردّد فیه أو تبدّل باشتراط صحّته بالعربیة بعد موت المرأة أو بعد طلاقها وانقضاء عدّتها. إلّا أنّه یمكن أن یقال: إنّ فی مثل هذا المثال ینفع البحث عمّا یجب أن یبنی علیه من الرأی الأوّل أو الثانی فی صداقها مثلاً، فإنّه على البناء على الرأی الجدید یتعیّن الصداق فی مهر المثل، وعلى البناء على الرأی السابق فهو متعیّن فی المهر المسمّى.

ولا یخفى علیك: أنّ الكلام فی المسألة إنّما یأتی فیما إذا كان بناء المجتهد على رأیه الأوّل مبنّیاً على الاعتماد بالأمارات والاُصول الشرعیة، وأمّا إذا كان مبنیّاً على القطع بالحكم فزال وتبدّل بالشكّ أو الظنّ أو القطع بالخلاف، فالظاهر أنّه لیس محلّ الكلام، لعدم احتمال وجود الحكم الظاهری بعد كشف الخلاف بالنسبة إلى الأعمال السابقة، وعدم كونه عاملاً بطریق شرعی. فما یأتی الكلام فیه ما إذا كان ترتیب الأثر على الأعمال السابقة محلّ الابتلاء كالمرأة الّتی هی باقیة تحت نكاحه بعد زوال رأیه بجواز العقد الفارسی وقد عقدها به. وكما إذا كان رأیه طهارة عرق الجنب من الحرام ثم زال بعد ما صلّى فیه. وكما إذا كان رأیه وجوب صلاة الجمعة تخییراً أو تعییناً فی عصر الغیبة

 

فصلّاها وتبدّل رأیه بعدم وجوبها واشتراط صحّتها بزمان الحضور وإذن الإمام×. وكما إذا كان لا یرى تنجّس الملاقی للمتنجّس وتوضأ واغتسل به وصلّى، وبعده تبدّل رأیه بتنجّسه.

ویمكن أن یقال: إنّ بعد كشف الخلاف وقیام الحجّة على الرأی الثانی الّذی یكون مطلقاً وغیر مقیّد بزمان دون زمان یجب العمل بمقتضاها، ولا وجه للاستناد بالرأی الأوّل الّذی ظهر بطلانه. فیجب علیه تجدید العقد المذكور، وقضاء ما فات عنه من الصلوات، والبناء على تنجّس ما لاقى المتنجّس قبل تبدّل رأیه.

وبالجملة: لا یجزی الإتیان بالأمارة القائمة على أصل التكلیف بعد كشف الخلاف عن تكلیف آخر، كما أشرنا إلیه فی مثل ما إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة. كما لا یجزی فی متعلّق التكلیف إذا كان الحاكم فی تشخیصه العرف، كمتعلّقات العقود والإیقاعات والمعاملات ممّا لیس تشخیص مصادیقه مبنیّاً على التعبّد، مضافاً إلى دعوى قیام الإجماع على البناء فیها على رأیه الجدید.

نعم، فی العبادات، كالصلاة والصوم والحجّ، إذا كان زوال رأیه أو تبدّله فیما یعتبر فی المأمور به شرطاً أو شطراً، كما إذا استقرّ رأیه بالدلیل أو الأصل الشرعی على عدم جزئیة السورة، أو عدم مانعیة كون اللباس فی الصلاة من وبر غیر مأكول اللحم، أو الملاقی للبول بعد غسله بالماء القلیل مرّة واحدة، ثم تبدّل رأیه بعد الصلاة بجزئیة السورة، ومانعیة كون اللباس من وبر غیر المأكول، ومانعیة اللباس الملاقی للبول المغسول بالماء القلیل مرّة واحدة، لعدم زوال النجاسة بالغسل بالماء القلیل مرّة واحدة، یمكن أن یقال بتوسعة موضوع المأمور به وأنّه أعمّ ممّا هو فاقد السورة فی حال الجهل بوجوبها وواجدها فی حال العلم به، أو هو أعمّ من الواقع فی اللباس المجهول تنجّسه والواقع فی المعلوم طهارته، فللصلاة المأمور بها فردان فرد لها فی حال

 

الجهل بنجاسة اللباس، وإن شئت قل فی حال حكم الشارع بطهارته، وفرد لها فی حال علمه بطهارته، وإن شئت فقل: المانع العلم بنجاسة اللباس، لا أنّ العلم بطهارة اللباس شرط فی الصلاة. وبعبارة اُخرى: المانع النجاسة المعلومة، لا النجاسة الواقعیة، وذلك مقتضى ملاحظة وجوب الأمر بالصلاة، وأنّها لا تسقط بحال حتى فی حال الجهل بجزئیة السورة مثلاً أو نجاسة اللباس، ومقتضى مثل حدیث الرفع([1]) وأصالة الطهارة، فإنّه لو قلنا بالبناء على كشف الخلاف بعد تبدّل الرأی إلى جزئیة السورة، أو العلم بوقوع الصلاة فی اللباس المتنجّس، یلزم منه سقوط التكلیف بالصلاة واقعاً فی حال وجوبها علیه ظاهراً، ولا یمكن الالتزام بذلك.

فإن قلت: إنّ ذلك إن یأتی یأتی فی الشبهات الموضوعیة، فإذا دلّت الأمارة أو الأصل الموضوعی على تحقّق ما هو الشرط أو الجزء، أو دلّت على عدم المانع فی لباسه، یمكن أن یقال: إنّه فرد من اللباس الطاهر، أو الطهارة بالماء الطاهر، أو المكان المباح. وأمّا فی الشبهة الحكمیة، كما إذا شككنا فی جزئیة السورة، أو اشتراط الصلاة بطهارة اللباس، إذا كان الحكم الواقعی جزئیة السورة، واشتراط الصلاة بطهارة اللباس، فالقول بكونها فرداً للصلاة مستلزم للتصویب والدور.

قلت: نعم، لابدّ لدفع ذلك من التمسّك بما ذكرناه فی الجمع بین الحكم الظاهری والواقعی، بأن یقال: إنّ الحكم ینشأ مطلقاً من غیر تقیّده بحال العلم وبدون ملاحظة حال العلم والجهل به، وإنّما یرید الحاكم من إنشائه انبعاث العالم به منه. وإن كان یرید بعث الجاهل به یجب علیه التوسّل بأمر آخر كإیجاب الاحتیاط على الجاهل، فإذا لم یجب الاحتیاط علیه، ولم یسقط تكلیفه بطبیعة المأمور به فی حال الجهل بالطبیعة الواجدة

 

لجمیع الأجزاء والشـرائط، وقامت الأمارة أو الأصل على فردیة الفاقد للشرط أو الجزء المشكوك یكون لا محالة هذا فرداً لها، وإن شئت فقل: بمنزلتها ومجزیاً عنها، فالحكم على ذلك غیر متوقّف على العلم به وإن كان تنجّزه متوقّفاً علیه، فلا دور ولا تصویب، لأنّ حكم الله‏ بطبیعة الصلاة الواجدة للـشرائط غیر مقیّد بعلم المكلف به، فهو أنشأ للجاهل والعالم على السواء، إلّا أنّه یتنجّز على العالم بالعلم به ولا یتنجّز على الجاهل، ولذا لا منافاة بین كونه محكوماً بحكم هو غیر الحكم الّذی لم یتنجّز علیه. وتمام الكلام فی باب الإجزاء، وفی باب الجمع بین الحكم الظاهری والواقعی، وقد مرّ.

ثم لا یخفى علیك: أنّ الفرق بین مسألتنا هذه ومسألة الإجزاء أنّ البحث فی الإجزاء یعمّ المجتهد وغیره فی الشبهات الموضوعیة كالحكمیة، وهنا مختصّ بالمجتهد فی الشبهات الحكمیة، فالبحث فی الإجزاء بهذا اللحاظ أعمّ من البحث فی مسألة اضمحلال الاجتهاد.

ومن جانب آخر البحث فی هذه المسألة، تعمّ ما هو الموضوع للبحث فی مسألة الإجزاء وغیره، فالثانی أخصّ من الأوّل، لأنّ البحث هنا فی العبادات والمعاملات، والظاهر أنّ بحثهم فی الإجزاء یختصّ بالعبادات، بل مطلق الواجبات. وبالجملة النسبة بینهما بالعموم من وجه، فتتداخل المسألتان فی العبادات إذا تبدّل رأی المجتهد، وتتفارقان فی غیر العبادات إذا تبدّل رأی المجتهد، وفی العبادات فی الشبهات الموضوعیة. والله هو العالم.

 


([1]) الکلینی، الكافی، ج2، كتاب الإیمان والكفر، باب ما رفع عن الاُمّة، ح2؛ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج1، ص36، ب14، ح4؛ الصدوق، الخصال،  ص417، باب التسعة.

موضوع: 
نويسنده: